اخر الاخبار

...تحتل ثورة العشرين بأحداثها وزمانها مكانة بارزة في تأريخ العراق المعاصر لتقدم للناس عامة دروسا معبرة ونماذج حية تجسد بطولات الاف الشهداء الذين وضعوا اللبنة الاولى في صرح استقلال البلاد وسيادتها الوطنية ومن يتصفح تاريخ العراق النضالي الطويل يستطيع أن يعد عشرات الثورات التي شهدتها البلاد في ظل الاحتلال والاضطهاد والعبودية خلال عقود خلت، فكل انتفاضة جماهيرية وكل خروج على الفساد وكل تمرد عشائري وكل حركة عسكرية هي ثورة حسب تعبير الاغلبية. فالثورة لابد لها من أن تستهدف أو تؤدي إلى حدوث تغيير جذري في القاعدة وفي القمة، والثورة الفرنسية الكبرى خير دليل ونموذج مثالي لهذا النوع من التحول، وأحيانا تشكل حركة ما بالرغم من أهميتها وسعة نطاقها وعمق نتائجها وجسامة ضحاياها ونبل أهدافها، مجرد انتفاضة جماهيرية أو حركة تحررية موجهة ضد مستعمر أجنبي. وهي لا تقل عن أهمية الثورة بل تشكل أغلب الأحيان مقدمة ضرورية لثورة لاحقة.

بعد الحرب العالمية الاولى  والاحتلال البريطاني اصبح العراق من مناطق نفوذه  وتعمقت مصالح بريطانيا في هذا الجزء من أجزاء الدولة العثمانية وتشعبت لأسباب ناشئة عن وقوعه على طريق المواصلات البرية الرئيسية إلى الهند  وعن أهميته الاقتصادية التي ترجع إلى وجود حقول غزيرة للبترول في ولايتي الموصل والبصرة القريبة من حقول النفط في عبادان حيث يوجد هناك أعظم معامل لتكرير البترول البريطاني ..وعند احتلال بغداد في (19/اذار/1917)  أصدر الجنرال مود فرمانا وزع لآهالي بغداد ( ان الانكليز أتوا محررين لا فاتحين وهم لا يبغون شيئا غير نهوض العنصر العربي من جديد وأخذ مكانته بين الأمم ) وإقامة حكومات وطنية تستمد سلطتها من الشعب )، إضافة إلى ذلك مباديء الرئيس ولسن الاربعة عشر التي أكد فيها من  حق الشعوب تقرير مصيرها ..فأثرت هذه الوعود والتصريحات في العراقيين وحملتهم على الاعتقاد بانه ستؤسس قريبا حكومة وطنية في العراق، ولكن أمد ذلك قد طال وأخذت الحوادث تكشف زيف الاحتلال وأن نواياه تسير عكس ما وعدت به وأن مجيء الاحتلال لم يؤد إلى تحسن أوضاع الانسان العراقي ولو بجزء من حياته البائسة بل العكس من ذلك  أصبح لزاما عليه أن يتحمل اعباء جديدة اثقلت كاهله إلى حد كبير.

في أعقاب ذلك  بدأت الحركة الوطنية نموها وتحركها في مقاومة الاحتلال البريطاني وبدأت بالمطالبة بالاستقلال التام عملا بالحق الطبيعي للشعوب في أن تعيش حرة ..وتطبيقا لمبدأ حق تقرير المصير،  هذا المبدأ الذي كان أحد المباديء التي أعلنت للعالم في نهاية تلك الحرب... والحركة الوطنية مذ بدأت تحركها في العراق، اختارت النظام الديمقراطي اسلوبا للحكم في العراق الذي كانت تريد أن تقيمه...( إن الاحداث التي انطلقت في ذلك التأريخ النضالي الجماهيري ضد  الاحتلال البريطاني إنما تدل على الوزن الكبير الذي يتمتع به النضال  التحرري  الثوري للشعب العراقي . وينبغي القول إن النهوض المتطور للحركة الوطنية التحررية في العراق في تلك السنوات وتصاعد النضال الجماهيري على نطاق عموم البلاد والمنطقة، لم يجر بمعزل عن التأثير السياسي والمعنوي لانتصار ثورة اكتوبر الاشتراكية العظمى ووليدها النظام السوفياتي الذي اتخذ موقف الدعم الحازم لحركة التحرر الوطني للشعوب المضطهدة.

وتم حكم العراق بقبضة وقوانين عسكرية حديدية لغاية (20/11/1930)، وتعتبر هذه الفترة من أعقد الفترات التي مر بها العراق الحديث وأكثرها اضطرابا وأحداثا سواء في الحقل السياسي أو الاجتماعي، وبذلك حفلت هذه الفترة بمجموعة كبيرة من الظواهر الجديدة التي عاشها الشعب العراقي لأول مرة ولم يكن يعرفها في ظل الدولة العثمانية، حيث تفجرت ثورة العشرين في (30/6/1920) واستمرت لستة شهور أجبرت المحتل البريطاني على تشكيل حكومة مؤقتة في (25/10/1920). وفي (23/8/1921) توج الملك فيصل الاول ابن الحسين ملكا على العراق.

 (ان ما حدث في عام (1920) وما حققته من انتصارات هو نموذج لهذا النوع من التحرك الثوري الذي يسمونه الغربيون بالتمرد، بينما اختارت الجماهير العراقية الثائرة (بثورة العشرين ) الحدث  الذي عبرت به أكثر من أي شيء عن إصرار مشروع وتمسك اصيل لشعب كامل بحقه في الاستقلال والحرية والسيادة، وهكذا لم يكن من السهل على العراقيين بعد الاحتلال تحمل عبء ثقيل وجديد جاءهم من الاحتلال البريطاني لبلادهم، فلماذا قامت ثورة العشرين ولماذا جاء رد الفعل الثوري في العراق على الاحتلال وبهذه السرعة وبزخم وقوة فاق كل التوقعات، وما حدث في العديد من اصقاع الشرق الاوسط وغيرها في تلك المرحلة التاريخية؟ مع العلم أن المحتل قد جاء إلى العراق في فترة بلغ فيها استياء الشعب العراقي من الحكم العثماني المريض حدا لا يطاق.. بحيث بدأت قطاعات واسعة من الشعب العراقي تتمنى تبديله بأشراف أوربي متقدم.. ثم ماهي العوامل المشتركة الكامنة التي دفعت فئات كبيرة من الأوساط الاجتماعية العراقية ووعيها البسيط للوقوف في خندق واحد بوجه المحتل البريطاني وبمثل هذا الحماس المتقد، ولماذا لعبت مناطق الفرات الاوسط دورا كبيرا أكثر من غيرها في الاحداث الثورية ولم تبخل في تقديم الضحايا الجسيمة والاحداث الدامية التي شهدتها ارض الرافدين آنذاك؟ بعدما وقف الانكليز وراء جميع المآسي التي شهدتها ارض الرافدين يوم ذاك، والأوضاع المزرية اقتصاديا واجتماعيا التي تبناها المحتل سياسة ضريبية وزراعية صارمة وتقليص الملكية الزراعية الصغيرة للفلاحين وأن الضرائب والرسوم على الفلاحين الصغار تحولت إلى عبء جديد على امكاناتهم الاقتصادية المحدودة.

 إن القوى الوطنية في العراق قد حافظت على التقاليد النضالية الوطنية لثورة العشرين التحررية، التي تعتبر حربا وطنية عظمى من أجل التحرر، فلقد اصبحت المأثر البطولية للفلاحين وسكان المدن أثناء الثورة، توحي للجماهير الشعبية في العراق، بالاستمرار في النضال من أجل الاستقلال الوطني والتقدم الاجتماعي، فبالرغم من التنكيل الشديد بالمساهمين في الثورة الوطنية التحررية، فإن المحتلين الانكليز لم يستطيعوا القضاء على أحرار الشعب العراقي ورغبته في تحقيق الاهداف العادلة التي يناضل من اجلها. في عصر يوم (30 حزيران) انطلقت الشرارة الاولى لاندلاع الثورة مع الهجوم المسلح الذي شنته مجموعة من الثوار الذين حرروا شعلان أبو الجون من سجنه وهم يهزجون الهوسات الشعبية، وهكذا بدأت مرحلة الثورة الوطنية المسلحة ضد المحتل البريطاني والتي استمرت بحدود ستة أشهر. فالاحتلال والطغيان والاستبداد قد ساهما إلى جانب ذلك في تعميق الازمة العامة للرأسمالية وزعزعت النظام الاستعماري (واعترف المحتل بفشل احتلاله للعراق هذا ما اكدته جريدة (ساندي تايمس) في (23/آب/1920) بعد احداث الثورة بقولها (أو ليس من الافضل لنا أن نعترف بفشلنا ونكف عن التدخل في حياة ثلاثة ملايين عربي يودون شيئا واحدا فقط، التمتع بإمكانات تسمح لهم بان يصبحوا سادة مصيرهم) كذلك اضعفت المعسكر الامبريالي في محاولته لإعادة السيادة والسيطرة المطلقة للبرجوازية الاحتكارية في جميع انحاء العالم.   ولأول مرة في تاريخ العراق تصبح الحركة المعادية للاستعمار حركة جماهيرية أصيلة تشمل انحاء البلاد من أقصاها إلى اقصاها والذي دشنت هذه الثورة العراقية الكبرى بداية مرحلته الجديدة التي أفضت في نهاية المطاف إلى تحرير العراق من ربقة  الاحتلال البريطاني وإلى قيام ثورة الرابع عشر من تموز (58) وفتحت آفاقا رحبة جديدة للشعب العراقي الجديد الخالي من التبعية والاستغلال ...ورغم فشل الثورة عسكريا وتشتت جيش الثورة العشائري تنظيما وقيادة ..فقد ادرك المحتل أن حكمه المباشر للعراق صفقة خاسرة ..فرضخ لتأسيس دولة عراقية فرض عليها نظام الانتداب (الكولونيالية القديمة ) موجدا طبقة حاكمة جديدة تحت مشيئته راحت تقتسم الغنائم ووظائف الدولة وأراضي الفلاحين العشائرية ..فترعرعت بيروقراطية جديدة تكره الشعب وتزدريه، كانت نواتها البيروقراطية العثمانية القديمة، كما تكونت طبقة جديدة من الملاكين الاقطاعيين من كبار شيوخ العشائر وكبار الموظفين والسياسيين والتجار، استطاعت ان تنهب معظم الاراضي الخصبة، وتحول الفلاحون الذين فلحوا الارض وعمروها جيلا بعد جيل إلى بروليتاريا ريفية مشردة ومجردة من كل حقوق .

 لقد علمتنا الاحداث ان الوطنية والديمقراطية مترابطان أوثق الترابط وان النظام الثوري هو وحده القادر على تصفية الاستعمار والرجعية واحباط مؤامراتها وتعبئة قوى الشعب لمواجهة أي مخاطر. إن عٍبًر ثورة العشرين دروس قيمة لابد أن يستوعبها المناضلون الثوريون جيلا بعد جيل، ويدركوا من خلالها أهمية النظرية الثورية والقيادة الثورية والنضال الثوري الجماهيري. إن استذكار دروس هذه الثورة في كل عام ليس مناسبة لترديد الاشعار والتغني بالأمجاد بل وسيلة لتعبئة الجماهير في طريق النصر الذي فاتها في تلك الثورة الرائعة، ورسم طريق المستقبل امام الشعب.

هذه الثورة التي أصبحت ولا تزال ملهمة للثائرين في بلاد الرافدين نحو التحرير من اشكال السيطرة الاستعمارية والحكومات المتسلطة. تحية اجلال واكبار لهذه الثورة العظيمة التي أيقظت الجماهير بكل صنوفها من اجل النضال بلا هوادة ضد اشكال العنصرية والطائفية، والدفاع عن اهدافها السامية، والعيش بحرية وكرامة في وطن آمن يسع الجميع يسوده السلام والأمان والعيش الرغيد. المجد والخلود لثورة العشرين الجماهيرية العظيمة. 

عرض مقالات: