قوبل إدراج منظمة الشفافية الدولية، العراق في مرتبة متقدمة بالنسبة للدول الأكثر فسادا، بردود فعل واسعة، رافقتها انتقادات لعدم توفير مستلزمات القضاء على تلك الآفة، نتيجة لـ”غياب الآليات الحقيقية والمتابعة الجادة للفاسدين الكبار”.

وأظهر تقرير أصدرته منظمة الشفافية الدولية، شمل 180 دولة، تبوء العراق المرتبة السادسة ضمن قائمة الدول العربية الأكثر فسادا، فيما جاء في المرتبة 160 عالميا، في قائمة أكثر دول العالم شفافية للعام 2020، أي أنه في مراتب بعيدة جدا عن الشفافية ومستلزمات تحقيقها.

وذكرت منظمة الشفافية العالمية، أن “نيوزيلندا والدنمارك حصلتا على المرتبة الاولى بأقل دول العالم فسادا واكثرها شفافية بـ 88 نقطة على التوالي، تليها الدنمارك وفنلندا وسويسرا وسنغافورة والسويد التي حصلت جميعها على المركز الثاني بـ 85 نقطة ثم النرويج على المركز الثالث بـ 84 نقطة”.

وحصل العراق ضمن الترتيب الدولي على “المرتبة السادسة بأكثر الدول العربية فسادا، متقدما على ليبيا والسودان واليمن وسوريا والصومال. في حين جاء بالمرتبة 160 عالميا من اصل 180 دولة مدرجة في جدول (أكثر الدول شفافية) وبواقع 21 نقطة متقدما على دولة بورندي والكونغو”.

وتصدر المنظمة تقريرا سنويا حول الفساد، وهو تقييم على مقياس من صفر إلى 100 يصنف الدول من الأكثر إلى الأقل فسادا، ويستند التقرير على بيانات تجمعها المنظمة من 13 هيئة دولية منها البنك الدولي والمنتدى الاقتصادي العالمي. ووفقا لهذه النقاط، لم يحصل العراق سوى على 21 نقطة فقط من أصل 100، في حين تجري التأكيدات على إن نقاط العراق قد تكون أقل بحسب حجم الفساد المريع داخل مفاصل الدولة.

كورونا.. أزمة فساد

ونقل التقرير عن رئيسة المنظمة الدولية، ديليا فيريرا روبيو، قولها: إنّ “فيروس كورونا ليس مجرد أزمة صحية واقتصادية، بل هو أزمة فساد نفشل حالياً في إدارتها، لأنه تفشى في كافة مراحل الاستجابة للجائحة، لاسيما لجهة دفع الرشاوى في بعض الدول لقاء إجراء الاختبارات والكشوفات، وللحصول على الإمدادات الطبية اللازمة”.

مؤشر مدركات الفساد

من جانبه، أوضح سعيد ياسين، الخبير الممارس في مجال تعزيز النزاهة ومكافحة الفساد، إن ترتيب العراق الأخير للعام 2020 وبالمقارنة مع العام الذي سبقه، تقدم خطوتين من حيث تسلسل الدول بعدما كان بالمرتبة 162 من خلال حصوله على درجة واحدة.

وأضاف ياسين لـ”طريق الشعب”، ان “هناك ضرورة قصوى وفقا لهذه المعطيات والأرقام المخيفة لتقوية ودعم وحماية الجهات الرقابية، من خلال سيادة القانون وإنفاذه، فضلا عن الالتفات لجانب التشريعات الضرورية، وفق اتفاقية مكافحة الفساد. علما ان العراق ألغى منظومة مكاتب المفتشين كرقابة استباقية، ورافق ذلك عدم الاستجابة الكاملة لمتطلبات الجهات الرقابية وإدارة الوظائف العامة والحماية السياسية للفساد، والإفلات من العقاب إضافة الى متطلبات سيادة القانون”. 

ولفت المتحدث الى أن “العراق ووفقا لحجم الفساد الهائل فيه، والمعايير الدولية التي حددت موقعه بين الدول، واجه تحديا كبيرا تمثل بجائحة كورونا، الا انه تجاوز مخاطر كبيرة برغم ضعف تمويل قطاع الصحة والإمكانات المحدودة من حيث المباني والمختبرات، وذلك من خلال الدعم الشعبي ومؤسسات المجتمع المدني وشركات قطاع الأعمال والإعلام”، مردفا “ما زال تحدي شفافية العقود والمشاريع والمشتريات الحكومية هو الأكبر في ملف الفساد والذي تسبب بهدر كبير واستحواذ على المال العام من قبل أطراف متنفذة، فضلا عن تضخيم الأسعار التخمينية في العقود والمشاريع والمشتريات, وضعف السياسات العامة في إدماج القطاع الخاص في الاقتصاد الوطني وحماية الاستثمار”.

وأشار ياسين الى “وجود تحدي آخر كبير بشأن ضبط ورقابة وتدقيق الإيرادات العامة وجودة إدارة الإيرادات وتوزيع الموارد بشفافية وعدالة وتحقيق التنمية والتنمية المستدامة ومكافحة الفقر”، معتبرا أن ملف حقوق الإنسان وحرية التعبير “كان له تأثير كبير في مؤشر مدركات الفساد للعام 2020 في العراق، خصوصا خلال التظاهرات الشعبية، وما تخللها من انتهاكات من قبل القوات الحكومية، واستخدام القوة المفرطة والمميتة في أحيان كثيرة”.

وتابع قائلا: “رغم المطالبات وعلى مدار سنوات طوال بضمان حق الاطلاع على المعلومات واعتماد سياسة عامة للإفصاح عنها، يبقى الوضع كما هو عليه، ولا بد من تشريع قانون حق الاطلاع على المعلومات، والذي يمثل أحد أهم المتطلبات التي تنص عليها اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد والاتفاقية الدولية لحقوق الإنسان”.

ترتيب مغاير للواقع!

وفي السياق، رأى الخبير الاقتصادي، منار العبيدي، إن ما جاء بتقرير منظمة الشفافية الدولية بشأن الفساد في العراق “غير صحيح” مقارنة بالواقع، مبينا أن ارتفاع الناتج المحلي للبلد، يعني زيادة هائلة بكمية الأموال المبددة، كلما تصاعد الفساد.

وقال العبيدي في تصريح صحافي طالعته “طريق الشعب”، إن “النسبة التي جاءت فيها منظمة الشفافية الدولية بشأن مركز العراق عالميا من ناحية الفساد، لا تنسجم مع الواقع، لأن المنظمة لم تعتمد في هذه النسبة على مستوى الناتج القومي”. 

واضاف أنه “لو تم اعتماد النسبة من خلال الناتج القومي لوجد الفساد في العراق يعادل 50 دولة ضمن القائمة”.

وتابع الخبير، أن “التقرير اعتمد على السلوك الموجود في القطاع الحكومي وعلى الاجراءات الحكومية المتخذة لمكافحة الفساد”، مبينا أن “هاتين النقطتين لم تكونا سببا بزيادة الشفافية في العراق، وانخفاض نسبة الفساد فيه”، مشيرا إلى أن “الحكومة مطالبة بإجراءات أكثر واقعية وجديدة وصحيحة لتغيير موقع العراق من بين الدول التي فيها نسب فساد عالية، عبر مكافحة الفساد بإجراءات صارمة”.

وبيّن أنه “من يتابع الرقابة المالية سيجد أن الكثير من الوزارات فشلت في انجاز بعض المشاريع، وتسببت بهدر كبير في الأموال، فضلا عن وجود عقود غير واضحة، وبرغم رفع هذه التفاصيل إلى وزارة المالية ومجلس الوزراء، إلا أنها تتوقف نتيجة للتجاذبات السياسية”.

فساد في آلاف المشاريع

وفي غضون الحديث عن ترتيب العراق، ضمن قائمة الدول الأكثر فسادا، كشفت لجنة الخدمات البرلمانية عن قيامها بفتح ملفات فساد بمشاريع غير منجزة منذ العام 2012، تخللتها شبهات فساد وهدر مالي كبير، مؤكدة وجود 6000 مشروع متلكئ، أغلبها تعود لوزارة الإعمار والاسكان والبلديات.  

وقال عضو اللجنة عباس العطافي، في تصريح صحافي، إن “أهم المشاريع الاستراتيجية المتلكئة خاصة بوزارة الإعمار والإسكان. وكانت للجنة متابعة جادة لمشاريع الماء في مقدمتها ماء البصرة المكون من خمس مراحل وماء الفاو ومشروع ماء الكوت وماء الإصلاح والسماوة والنهروان، إضافة إلى مشاريع أخرى متفرقة في بعض المحافظات، وكلها مشاريع متلكئة وأغلبها مضى على البدء بها نحو 10 سنوات”.  

وأفاد العطافي بأن حجم المشاريع المتلكئة في عموم المحافظات يصل إلى “6000 مشروع، لذلك اللجنة مستمرة باستضافات المسؤولين المعنيين والمتخصصين، إضافة إلى فتح ملفات المشاريع التي تشوبها شبهات فساد”، منوها بأن لجنته “فتحت ملفات فساد كثيرة في مشاريع مهمة منها، ماء الكوت والاصلاح، والطرق الرئيسة والمجسرات في البصرة، وكذلك مشروع رقم 1 لبناء المدارس، وهو محال من قبل وزارة التربية، ولم تنجز هذه المشاريع منذ 2012”.

وتعليقا على ذلك، أكد الناشط المدني حيدر جعاتي، بأن ما اوردته لجنة الخدمات النيابية بشأن المشاريع المتلكئة، التي تشهد فسادا “لا يمثل المشهد الحالي من كافة نواحيه”.

وأوضح جعاتي خلال حديثه لـ”طريق الشعب”، ان “هناك شبهات فساد كبيرة في عمليات مزاد بيع العملة، وكذلك المشاريع التي تنجز، ويتم بموجبها نهب وهدر اموال كثيرة؛ فهذه لا يتم الحديث عنها، انما تعتبر منجزة، لكنها بالحقيقة باب آخر للنهب، لا تتم الاشارة اليه. في حين تبقى ملفات اخرى مثل عقود التسليح واجهزة كشف المتفجرات وملف الفضائيين الذي يقر الجميع به وخصوصا ما قاله رئيس الوزراء الاسبق حيدر العبادي، عندما اكد وجود 50 الف موظف فضائي في وزارة الدفاع وحدها، يستلمون رواتب وهمية، اضافة الى هدر مئات المليارات من الدولارات على قطاع الكهرباء، والنهب في المنافذ الحدودية وعقود النفط وتهريب الانترنت وعقارات الدولة.. وغيرها، هي جميعا ملفات فساد مستمرة، لا يجدي أي تقرير دولي نفعا معها، ما لم تتوفر الارادة الحقيقية للمواجهة”.

وزاد الناشط “عندما انتفض الشعب العراقي ضد هذا النهب الهائل لثروات البلد، واجهته القوى المتنفذة بالرصاص والقتل والتغييب. بينما شن الداعمون لتلك القوى حملات تسقيطية، لم تتوانَ عن استخدام ابشع الاساليب وارخصها لقمع صوت المنتفضين، ولحماية نهج الفساد، الذي يبدو انه باق وبقوة”، متسائلا عن “مصير اللجنة التي شكلتها الحكومة الحالية والمرتبطة بمكتب القائد العام للقوات المسلحة، للتحقيق بهذه الملفات، والتأكيدات التي شددت على ضرورة استعادة هيبة الدولة؟”.

وفي وقت سابق، أكد رئيس الوزراء انه تم تشكيل لجنة حكومية لمكافحة الفساد، تم منحها “جميع الصلاحيات لإنجاز عملها ومحاربة الفساد”، لكن الكثير من التساؤلات تطرح حاليا بشأن جدواها والنتائج التي حققتها فعليا على أرض الواقع، في الوقت الذي يعيش فيه البلد ازمتين اقتصادية ومالية خانقتين، رافقهما البحث عن مصادر تمويل جديدة، اعادت الحديث عن الاموال المنهوبة بفعل الفساد الهائل.

الشفافية لم تخطئ

وضمن ردود الفعل الواسعة التي تحدثت عن ترتيب العراق ضمن قائمة “الشفافية الدولية”، اكد النائب جمال كوجر، عضو اللجنة المالية النيابية، ان المنظمة الدولية لم تخطئ عندما وضعت العراق بين الدول الأكثر فسادا، مبينا ان هناك العشرات من المؤسسات الرقابية غير الفاعلة.

ونقلت وكالات الأنباء عن كوجر قوله: “إن للمنظمة معايير ثابتة وواضحة تستند إليها عند تقييم الدول. فهناك العشرات من المؤسسات الرقابية في العراق ومنها هيئة النزاهة وديوان الرقابة المالية والقضاء ومكافحة الفساد إلا أنها غير فاعلة. لذلك يجب وضع هذه المؤسسات بمؤسسة واحدة فاعلة قادرة على إيقاف الفساد ومحاربته بشكل حقيقي”.

وتابع كوجر “لكي نحصل على مراتب متقدمة ضمن الشفافية الدولية يجب أن يكون لدينا مؤسسات فعالة، وأن تكون لدينا ايضا قوانين صارمة وأن تطبق القوانين المشرعة مع ضرورة وجود حكومة قوية وسيطرة على الحدود والمنافذ وان تفرض السيادة على الارض والمؤسسات والممتلكات”، مستدركا ان “هذه الامور جميعها غير موجودة باستثناء وجود قوانين صارمة”.

سلوكيات مرصودة

وفي الأثناء، أكد الباحث في الشأن الاقتصادي، رأفت علي، أن مؤشر الفساد الذي جعل العراق ضمن 20 دولة تتصدر الفساد، يستند على تقييم الخبراء لعدد من السلوكيات في القطاع العام.

وقال علي خلال حديثه لـ”طريق الشعب”، إن السلوكيات “ترصد جوانب مهمة مختلفة وهي كلّ من الرشوة، وهي مرتفعة بشكل هائل وحتى تقارير هيئة النزاهة الاتحادية رغم الملاحظات العديدة بشأنها تؤكد ذلك، اضافة الى اختلاس المال العام. ونرى كيف أن جهات متنفذة في السلطة توفر الغطاء لهذا النوع الخطير من الفساد، في حين يتم رصد مؤشر استغلال الوظيفة العمومية لتحقيق مكاسب شخصية وهذا بالفعل احد ابرز ميزات نظام المحاصصة الطائفية، فضلا عن المحاباة في الوظيفة العامة، والاستحواذ على الدولة وهذا ما نراه بسبب السلاح المنفلت وتحويل مفاصل الدولة الى دكاكين حزبية تقدم الخدمات لرؤساء الكتل المتنفذين دون أي رقابة حقيقية. بينما تلاحق الاجراءات، صغار الموظفين لا أكثر”.

وأضاف قائلا: “وتعتمد المنظمة في تقريرها السنوي على اساليب العمل الحكومية لمنع انتشار الفساد، مثل كيفية تعزيز اجراءات النزاهة، وملاحقة المسؤولين الفاسدين قضائيا بشكل فعال، وامكانية تجاوز عبء الاجراءات الروتينية والبيروقراطية المفرطة، مع ايجاد قوانين كافية تضبط التصريح بالمكاسب المالية ومنع تضارب المصالح والوصول الى المعلومة، وتوفير الحماية القانونية للمبلغين عن الفساد والصحفيين والمحققين”. 

ضعف اجراءات المكافحة

وفي المقابل، علّق النائب عامر الفايز، على وضع العراق في مؤشر الشفافية.

وقال الفايز في حديث صحافي، إن “وضع العراق في المركز 160 بين 180 دولة في مؤشر الشفافية، يدل على أن الإجراءات الحكومية في مكافحة الفساد في مؤسسات الدولة، لا تزال ضعيفة”.

وأضاف أن “المؤشر يعتمد على ما تتبعه الحكومة من إجراءات تجاه مكافحة الفساد ومحاسبة الفاسدين”، لافتاً إلى أن “العملية تحتاج إلى إرادة سياسية وقوة حقيقية لفتح الملفات الكبيرة”.

وأوضح الفايز، أن “المحاصصة والفساد نهشا جسد الدولة، بالتالي نحتاج إلى إجراءات حقيقية على أرض الواقع في مكافحة الفساد، وليس كلاما إعلاميا فقط”.

عرض مقالات: