اخر الاخبار

الرؤية البطريركية ومنذ التأسيس وضعت اسباب وشروط وهيكلة العائلة الابوية وفرضت طريقة نشاطها وقسمت الأدوار، وقد ترسخ ذلك الوضع العائلي من خلال الأحكام التي جاءت بها مؤسسة الزواج. إن الشروط والاسباب والتنظير والسلطات وهيكلة الأسرة والهيمنة أمور أنيط اداؤها بالرجل فهوالرب المطاع وهو المتمكن من ضبط ايقاع افرادها سواء كان ذلك الضبط داخل العائلة أم خارجها. ثقافة الهيمنة الذكورية هذه فرضت التمييز على أساس النوع الاجتماعي وهذا التمييز هو الذي وضع الملامح الأولى للعنف داخل الأسرة والذي راح يترسخ بمرور الزمن. وكان للمرأة حصة الاسد من ذلك العنف ومن جراء ذلك احتلت المرتبة الدونية في العائلة. وهكذا وبحكم الازمان المتعاقبة تمكنت الهيمنة واجادت صنع خيوط نسيجها التي أحكمته على جسد العائلة ليشكل الموروث الثقافي الذي يحكم العائلة وسلوك افرادها حتى أصبح مجرد التفكير أو المساس به كأنه مساس بالمقدس.

كان للأسطورة التوراتية  مساهمة فاعلة لتأسيس لتلك الثقافة  خاصة الموقف من المرأة، ولا نستبعد الفكر الديني الاسلامي – وليس الدين – أي الموروث الفقهي باعتباره منجزا بشريا المساهم في ترسيخ الادوار تلك في العائلة ومن خلال فيض الأحكام الفقهية المشكلة لهذا الموروث منها على سبيل المثال ما تعلق بالحجاب والقوامة والنشوز والخلع وشهادة المرأة والدرجة وتعدد الزوجات والمهر، وسواها من الأحكام الاخرى التي فرضت على الأسرة الطوق الذي عطل حكم التحرر أو الانعتاق ، وامتد الامر إلى خارج اعضاء الأسرة من خلال منع الآخر من التقرب  لأسوار الأسرة والحيلولة دون التدخل في شؤونها، لدرجة يعد معها الاقتراب من تلك الاسوار انتهاكا لحرمة المنازل. هذا الوضع كان سلاحا بيد المنتفعين من الدين بهدف تمرير مصالحهم النازعة إلى منع اي سلوك يهدف إلى الخروج من حالة الموروث تلك، وخير مثال على ذلك ما قام به البعض من اولئك المنتفعين بالتصدي لمشروع قانون (مناهضة العنف الاسري) عندما قالوا بان هذا المشروع يخالف ثوابت احكام الاسلام.

حركة تطور المجتمع لا يمكن ان تستكين إلى الركود او السكون، لأن أحكام التطور تفرض احكامها المفضية إلى التغيير، هذ اهو حكم الحياة، الأمر الذي دفع جانبا من الفقه الاسلامي أن يعتمد المبدأ القائل: (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الازمان). واستجابة لحركة التغيير  والايقاع المتسارع للنشاط المجتمعي فقد ذهبت التشريعات الحديثة إلى رسم صور جديدة للأسرة والانعتاق من بعض الأسوار التي رسمها الموروث الثقافي وهو ما حصل فعلا باصدار تشريعات مهمة تتعلق بالأحوال الشخصية فكتبت نصوص جديدة عن التكافيء في عقد الزواج باعتباره عقدا مبنيا على الرضا ، ومنحت الزوجة حق طلب التفريق عن زوجها متى ما كان هناك خلاف مستحكم، أو أن الزوج أضر بالزوجة  ضررا يجعل الحياة الزوجية غير ممكنة ، أو اعتبار الأم أولى بحضانة اطفالها  وغير ذلك من الأسباب الأخرى التي تمكنت من هز ( البراديغم ) القديم للأسرة ورسم ملامح جديدة للأسرة ووظيفتها .

لم تعد الأسرة بأسوارها تلك، فقد وهنت جوانبها وتآكل البعض الآخر وأصاب التقادم العديد من أحكامها بفعل تغيير الازمان. وان مسيرة التطور أسست لواقع جديد ترك أثره على السلطة التشريعية وفي دول مختلفة، ولم يكن العراق بعيدا عن ذلك، إذ حكمت الأسرة نصوص جديدة وردت في دستور 2005. مست تلك النصوص موروثها الثقافي، ذلك المساس الذي لا يعد بعد الآن تجاوزا على حرمة المنازل لكونه قد اعطى للأسرة وظيفة اجتماعية لم تألفها من قبل، إذ اعتبر الدستور الأسرة (أساس المجتمع) (المادة 29 منه) وهذا يعني أن البناء المؤسسي للدولة الحديثة يستند على الأسرة، وان ذلك يلزم تأهيلها لهذه الوظيفة وهذا لا يتم مع بقاء ذلك الموروث ولا يمكنها من المساهمة في بناء الدولة الحديثة وهي بالحالة السلبية تلك. بل على الأسرة التي أريد لها ان تكون أساس المجتمع – وحسب الرسم الدستوري - وتحوز أسباب المعاصرة فان عليها مغادرة موروث الهيمنة وثقافتها المجتمعية، وأن تفك أسوارها وقيودها لتكون قادرة على أداء وظيفتها الجديدة المتجهة إلى تقسيم جديد للأدوار وبشروط وأسباب وإمكانات يقبلها الوضع الجديد. ولكي تكون خلية فاعلة وسليمة لهذه المهمة فإن الدولة تعطيها أسباب ذلك من خلال حماية الأمومة والطفولة والشيخوخة، والابتعاد عن الاستغلال الاقتصادي لأي عضو من الأعضاء المنتسبين لها، مع توفير الحماية من العنف والتعسف لأي من أفرادها مع الضمانات الصحية والاجتماعية والعيش في ظروف مقبولة. أي أن وجود الأسرة في وضعها السليم بعيدا عن موروثها المعطل، هو ما يمكنها من ممارسة وظيفتها الاجتماعية التي رسمها الدستور لها باعتبارها اساس المجتمع.

عرض مقالات: