اخر الاخبار

ترتبط بعض المهن والحرف اليدوية بتاريخ بلاد ما بين النهرين، كونها تواجدت بناءً على الموقع الجغرافي وما يحتويه من موارد، اذ اتخذها سكان المنطقة موردا اقتصاديا لهم منذ الاف السنين، إذ ارتبطت ارتباطا وثيقا بهويتهم وتاريخهم.

وتعاني اليوم اغلب هذه الحرف من الانقراض، وما تبقى ينتظر هذا المصير، نتيجة لعدة أسباب منها: ما يرتبط بالتغير المناخي، وبسبب غزو المستورد الأجنبي الأسواق المحلية، بالشكل الذي جعل هذه الحرف تنجرف نحو هاوية الاندثار، برغم أن بعضا من صنّاعها يقاومون اضمحلال هذه الحرف، لكن عددهم بات ينحسر يوماً بعد آخر. يمارس محمد الربيعي (50 عاما)، مهنة صناعة “المشحوف” منذ عامه الـ 15، إذ انها ليست مجرد مهنة لكسب العيش، انما تشكل هواية يستمتع بها دون ملل.

صناعة الزوارق

وتتمسك حرفة صناعة الزوارق، بأيدي بعض العائلات الجنوبية التي تعد على أصابع اليد، وإحداها عائلة الربيعي التي ورث أفرادها هذه المهنة عن الأجداد.

يقول الربيعي لمراسل “طريق الشعب”، ان “هذه المهنة لم يبق منها سوى القليل، حيث توجد ورشة واحدة فقط تصنع الزوارق الخشبية في هور الجبايش اسمها ورشة “كنطار”، والتي تستبدل المجاذيف الخشبية في صناعة الزوارق بالمحركات”.

 وبلغة تتخللها الحسرة يضيف محمد ان “لكل حرفة فنانيها ومصمميها، خصوصاً الحرف اليدوية التي تتطلب هندسة في التصميم والابتكار، أما الآن فقد انعدم الفن والتصميم في صناعة القوارب”.

“تتجول مئات الزوارق بتنوع أحجامها وألوانها الزاهية في مناطق الأهوار يوميا ذهابا وإيابا”، في هذه الجملة نقل لنا الربيعي مشهدا من ماضيه كان يراه لسنوات عديدة، فهي صورة لحركة تمثل الحياة الحقيقية قديما لسكان مناطق الاهوار.

وعن أحد أسباب انحسار هذه المهنة، يبين الربيعي ان “مواد الصناعة أصبحت مكلفة وباهظة، وتعود بالخسارة لمن يتخذها مهنة”.

مرتبطة بدجلة والفرات

وتمحورت رسالة الماجستير التي أعدها، حسن حميد سعدون، خريج جامعة ذي قار/ كلية الآثار، حول (دراسة إنثو-أثارية عن صناعة الزوارق في أهوار جنوبي العراق)، والتي تحدث فيها عن أهمية وتاريخ هذه الزوارق.

يقول حسن لـ “طريق الشعب”، ان “كثرة المياه في نهري دجلة والفرات جعلت الزوارق وسائط لصيد الأسماك والطيور والنقل بين ضفاف الانهار والأهوار لصيد الاسماك او للتنزه بواسطتها، وتختلف الزوارق في اشكالها واحجامها وأيضا استعمالاتها والمواد المصنوعة منها”.

ويبين ان “الزورق يمثل رمزا حضاريا لمناطق الأهوار ويشكل صورة متكاملة للبيئة في المنطقة، اذ تعتمد حركة الزورق على المجاذيف والمرادي (عصا من الخيزران)”.

إرث سومري

ويلفت حسن الى ان “هذا الزورق نفسه كان يستعمله السومريون في مستوطناتهم في أهوار جنوبي العراق، فقد وصلت الينا من خلال الحفريات وعمليات التنقيب مشاهد فنية للزوارق والسفن، نقشت على الاختام الأسطوانية والمسلات والأعمال الفنية، وكذلك قرأنا معلومات عن السفن في نصوص مدونة باللغتين السومرية والاكدية، بينت انواع الزوارق واهميتها بالنسبة للحياة اليومية في بلاد وادي الرافدين”.

يقول الباحث الاجتماعي، حسين الكرعاوي، ان “تداعيات الجفاف الحاد الذي ضرب البلاد منذ 3 أعوام، والذي لم تزل تداعياته قائمة الى اللحظة، لم يقتصر على الفلاحين ومربي الحيوانات، انما تأثيره امتد لجميع السكان الذين يكسبون عيشهم من الصيد والعمل بالمهن المرتبطة بوفرة المياه القريبة، تحديدا مناطق الأهوار”، لافتا الى ان “هؤلاء السكان عاشوا منذ آلاف السنين بناء على الصفات الثقافية المشتركة مع آبائهم وأجدادهم وصولا لهم، ليورّثوها بدورهم الى أبنائهم ثم أحفادهم”.

ويشير الكرعاوي في حديث خصّ به “طريق الشعب”، الى ان “اغلبهم اضطروا الى الهجرة لأماكن بديلة لكسب لقمة العيش، تاركين خلفهم جزءا كبيرا يرتبط بهوياتهم وتاريخهم”.

وكانت هناك أكثر من محاولة لدعم الحرف اليدوية، من خلال تنظيم معارض للصناعات اليدوية والفلكلورية، والتي تستهدف جذب الاهتمام الاعلامي والاجتماعي الى المنتجات الحرفية وتسويقها، لكن بعض الجهات ـ لاسيما وزارتي الصناعة والتجارة ـ متهاونة بشكل كبير في دعم هذه المهن، وتحديدا من ناحية تقديم أجور وقروض مجزية، بحسب ما بين الكرعاوي.

البضاعة الأجنبية

وعن أحد الأسباب الأساسية التي ساهمت في انحسار واختفاء بعض هذه المهن، يقول الكرعاوي ان “غزو الأسواق بالبضائع المستوردة التي تملك نظيرا محليا، دون وجود رقابة او إخضاعها لمعايير جهاز السيطرة النوعية أو حتى فرض ضرائب مناسبة عليها، أحد اهم الأسباب”، معتبرا ذلك “منافسة غير عادلة”.

ويسترسل الكرعاوي ان “بعض منظمات المجتمع المدني والفرق التطوعية تحاول دعم الأعمال اليدوية عبر ضمان مشاركتها في المهرجانات والمعارض التي تقام بين فترة واخرى في عدة اماكن، لكن يبقى هذا غير كاف لإعادة هذه المهن الى هيبتها التاريخية وأهميتها”.

أما هند العبيدي فتعمل في منظمة مهتمة بمكافحة الفقر في محافظة البصرة، وتحديدا في مناطق الزبير وشمال البصرة وأبي الخصيب.

وبسبب التغيّر المناخي وما لحقه من جفاف لهذه المناطق، تقول العبيدي لـ”طريق الشعب”، ان “مجاميع كثيرة من هذه المجتمعات فقدت أعمالها الأساسية مثل الزراعة وتربية الحيوانات، والتي هي بمثابة المورد الاقتصادي الوحيد لأصحابها”.

ضمن “خط الفقر”!

وتلفت العبيدي إلى ان “اغلب أصحاب هذه المجتمعات بعد فقدانهم مهنهم، أصبحوا في خط الفقر”، مشيرة إلى ان عملها تمحور حول تقديم منح طوارئ لهم، وإعادة تطوير الأراضي المتضررة من التغيرات المناخية.

وعرجت الى بعض أسباب فقدان هذه المهن في المحافظة، قائلة: ان “كثيرا من ممتهنيها رحلوا إما بسبب الهجرة او الوفاة او لكبر السن، ما أدى الى عدم استطاعتهم الاستمرار، إضافة الى قلة الطلب عليها”.

وتعد العبيدي أن فقدان هذه المهن واندثارها، له تأثير ليس بالقليل على هوية المجتمع وسكانه.

وعن بعض الحرف التراثية الأخرى، تستذكر العبيدي بعضا منها، مثل صناعة “التنور الطين والمراوح اليدوية (مهفة)، المصنعة من مادة الخوص، والمكانس اليدوية المصنعة من سعف وجريد النخيل” وغيرها.

وفي السنتين الأخيرتين بدأت بعض النساء اعادة العمل في هذه المهن، بعد أن أنعتشها “طلبات سياحية”، بحسب العبيدي.

وتجد المتحدثة، ان دعم القطاع السياحي من شأنه أن يعيد الروح الى هذه المهن.

عرض مقالات: