اخر الاخبار

21 عاما لم تكن كافية للنهوض بواقع التعليم العالي والبحث العلمي والارتقاء بجودة مخرجاته؛ فبعد الحروب وانهيار منظومة التعليم الذي تعود جذوره الى بداية التسعينيات في القرن الماضي، جاء نهج المحاصصة الطائفية بعد 2003 ليحوّل مؤسسات التربية والتعليم إلى مفاصل للاستحواذ والصراع على تقاسم السلطة.

 

ومع انتاج بنية سياسية – اقتصادية واجتماعية مشوهة تعتمد نمط الاستهلاك المفرط في جميع المفاصل، لم تنج مجالات البحث العلمي من عمليات الاحتيال والسرقة العلمية ونشوء اسواق سوداء لكتابة بحوث التخرج والرسائل والاطاريح لطلبة الجامعات، في مقابل صمت حكومي مريب أمام هذه التجارة القبيحة.

خيار سهل لكنه مدمر

يمكن للطالب أن يجد في أول عملية بحث على الإنترنت، عبارة شهيرة: “مستعدون لكتابة بحوث التخرج والرسائل والاطاريح، وبحوث الترقية أيضا”. وتقود هذه العملية دكاكين يشتغل فيها بعض الاساتذة والمتقاعدين وأصحاب الخبرة في المجالات العلمية والانسانية، لكنهم لا يعلنون عن اسمائهم لتجنب التعرض إلى المساءلة القانونية.

ويقول المختصون أنه وعلى الرغم من سهولة البحث عن المعلومة مقارنة بالسنوات الماضية وامكانية الوصول الى المصادر العلمية والكتب والمنشورات عبر فضاء الانترنت والمكاتب العامة، لكن بعض الطلبة والباحثين يميلون الى الخيارات السريعة والاعتماد في انجاز مهامهم الدراسية على آخرين مقابل مبالغ معينة.

وعند متابعة هذه الظاهرة يمكن الملاحظة بوضوح أنها تبدأ من بين أوساط طلبة الجامعات في المراحل المنتهية (وهم الأكثر) صعودا الى الدراسات العليا، بل إلى بحوث الترقية الخاصة ببعض الأساتذة الجامعيين.

سوق تعج بالجهلة

ويتحدث الطالب في جامعة بغداد علي حسين لـ”طريق الشعب” عن كيفية لجوء الطلبة لهذه الحيل بهدف انجاز متطلبات التخرج بسهولة ومن دون عناء.

ووفقا لحسين الذي تخرج مؤخرا، فإن “المشكلة الكبرى تقع على عاتق الطلبة الذين يمارسون هذه الأساليب، فهم مهملون ولا يريدون اعداد بحوث التخرج والبحث عن المعلومات رغم وجود أستاذ مشرف لكل طالب وهو مسؤول عن التوجيه والمتابعة والتعديل او حذف الأخطاء”، مضيفا أن “المشكلة الأخرى تكمن في مادة (أصول البحث العلمي) التي تفتقر إلى الاساليب التعليمية الجادة، بينما يجب أن تكون درسا تطبيقيا لتعليم كتابة البحوث السليمة”.

ويتابع حسين قائلا: “أنا وعدد قليل من زملائي اجتهدنا وقضينا أوقات طويلة في الدراسة والكتابة واستخراج المعلومات من المصادر التي اقترحها اساتذتنا، وبعد تقديم البحوث ومناقشتها حصلنا على فائدة علمية كبيرة”، مردفا “يصدف أحيانا وجود اساتذة لا يملكون الكفاءة، أو الوقت للمتابعة، أو البعض ممن لا يتجاوبون بشكل جيد مع طلبتهم ومساعدتهم بالطريقة الكافية لاعداد البحث، وبالتالي يتجه الطالب الى سوق الكتابة لشراء مراده وهذه مشكلة أخرى”.

طلبة يجهلون أساليب كتابة البحث

أما الطالبة عذراء جميل (بكالوريوس لغة عربية) فتقول أن أغلب الطلبة يتجهون مباشرة إلى المكاتب ويمكن اعتبار ذلك ثقافة شائعة حاليا “لأننا لا نعرف طريقة كتابة البحث، ولم نستفد من مادة أصول البحث العلمي في المرحلة الثالثة، وأن الاساتذة يتعاملون معها كمادة ثانوية للأسف الشديد”.

وتوضح جميل لـ”طريق الشعب”، “وصلنا إلى المرحلة الرابعة وطلبوا منا كتابة بحوث التخرج، لكن أغلبنا لا يعرف كيفية التعامل مع الأمر، خصوصا وأن الكثير من العناوين تكون غريبة وخارج الاطار المعتاد الذي درسناه رغم انها ضمن الاختصاص وتعتبر محطة تهيئة للدراسات العليا ولو بشكل أولي بسيط”، مضيفة “كانت عملية دفع مبلغ 75 ألف دينار للمكاتب أسهل علينا من الاستغراق بعملية البحث والكتابة. علما أن الطلبة وبشكل عام يبحثون عن الطرق القصيرة والسهلة ويتحملون جزءا كبيرا من مسؤولية نشوء هكذا ظواهر مشوهة نظرا لعدم اجتهادهم”.

في الدراسات العليا أيضا

وقبل أيام تناقل طلبة الدراسات العليا احد الكتب الصادرة عن الجامعة المستنصرية (كلية الآداب) والذي جاء كأمر جامعي لانهاء علاقة احدى طالبات الماجستير بالدراسة، وذلك “نظرا لثبوت واقعة السرقة العلمية”، مع حرمانها من التقديم الى الدراسات العليا في المستقبل.

وفي اثناء الاستفسار منهم بشأن ذلك، يؤكد طلبة في الدراسات العليا وجود البعض ممن يعتمدون على آخرين في كتابة الرسائل والأطاريح الخاصة بهم، وتحدث أحيانا اخطاء عند الاعتماد على شخص لا يعرف كيفية ادارة عملية الاحتيال هذه، لتفضح لاحقا على ايدي الاساتذة وتتسبب بدمار المستقبل الدراسي للطالب الذي قرر السرقة أو الاعتماد على الآخرين، بدلا من الاجتهاد والبحث والتنقيب.

ويقول الاستاذ الجامعي ايمن صادق، أن التعليم العالي يواجه أزمة حقيقية في ظل وجود أساليب تؤسس الطلبة على ثقافة الحلول الجاهزة والمعلبة.

ويوضح صادق الذي طلب ذكره تحت اسم مستعار، أن اللوم يقع بشكل مباشر على الحكومات المتعاقبة والمؤسسات المعنية، لكنه يؤكد أيضا بأن هذه التجارة نمت شيئا فشيئا بعد الحصار الاقتصادي، مبينا أن المكاتب الآن مشرعة لكتابة كل المتطلبات الأكاديمية وهي تنسق العمل بالخفية مع اساتذة ما زالوا في الخدمة وآخرين متقاعدين.

وعن امكانيات الطلبة في الدراسات الأولية باعداد البحوث العلمية، يقول الاستاذ أنها تكاد تكون منعدمة، وعند قبول البعض منهم في الدراسات العليا نرى الضعف والعجز عن تأدية المطلوب واللجوء إلى الحلول الجاهزة من أجل انهاء المرحلة البحثية، ومن ثم مناقشة الرسالة، رغم أن السنة الدراسية التحضيرية تكون مليئة بمتطلبات اعداد البحوث وتقديمها ومناقشتها في حلقات دراسية.

وينقل الاستاذ حادثة حصلت معه بشكل شخصي بعد أن أتصل به احد اقربائه طالبا منه مساعدة إحدى طالبات الدراسات العليا في الجامعة التي يعمل بها، ليكتشف لاحقا أنها محاولة لاقناعه بـ”كتابة رسالة الطالبة مقابل المال وليست لغرض الحصول على بعض المصادر أو المقترحات العلمية”، الأمر الذي دعاه إلى الاستنكار والرفض، داعيا وزارة التعليم العالي إلى “اتخاذ اجراءات حاسمة لغلق هذه المكاتب بشكل فوري ومحاسبة كل من يساهم بارتكاب هذه الجريمة”.

مقاولات من نوع آخر!

ومن جانبه، يصف الدكتور وائل الأسدي الاساتذة الذين يشاركون في هذه إعداد هذه البحوث بأنهم مقاولون، يتعهدون بكتابة رسالة أو أطروحة مقابل ثمن، مبينا أن هذا الفعل لا يملك أي قيمة أخلاقية بل يسهم في تدمير مستقبل البلاد وحاضرها.

ويعتقد الأسدي خلال حديثه مع “طريق الشعب”، أن الجهات المعنية “تفتقد أي أرقام دقيقة بشأن عدد المكاتب والذين يتعاطون مع هذه التجارة الإجرامية التي تتطلب الفضح والمحاسبة”، معتبرا أن هذه الحالات “لم تعد غريبة في الدراسات العليا في ظل غياب أساليب الردع”.

ويشير الدكتور إلى أن الحال وصل بالبعض إلى “الغش في الدراسات العليا وأن بعضهم مُسك متلبسا بجريمته وأن الاستاذ بشكل عام يعمل جاهدا لمحاربة هذه الظاهرة، لكن الأمر يتطلب جهدا شاملا واجراءات رادعة واعادة النظر بطبيعة القبولات والغرض منها”، فالكثير من المقبولين بحسب قول الدكتور “يطلبون الشهادة العليا من أجل زيادة الراتب وليس لزيادة التحصيل العلمي”.

مستوى الطلبة

وتحدثت “طريق الشعب” مع احدى الطالبات في الدراسات العليا (تخصص تاريخ) والتي تصف المستوى الأكاديمي للعديد من الطلبة بـ”الضحل والمتواضع”، ما يجعلهم يواجهون صعوبات جدية بكتابة الرسائل أو الأطاريح، ولكن هذا لا يمحو حقيقة وجود طلبة متميزين ومبدعين.

وعن طريقة كشف عمليات السرقة في الكتابة، تقول نور احمد أن لدى الاقسام العلمية (فلاتر) عديدة لمعرفة أي سرقة، فضلا عن وجود ما يسمى “كاشف الاستلال” والذي تعتمده الجامعات لمعرفة نسبة استلال الباحث من الرسائل والأطاريح السابقة أو الكتابة عبر الذكاء الاصطناعي، علما أن نسب الاستلال محددة قانونيا، ولكن تلجأ المكاتب إلى مساعدة الطلبة باعادة صياغة الرسائل المستلة بشكل كامل والاحتيال على القانون، ومع هذا فأن اساتذة كثيرين لا تفوتهم هكذا أساليب.

وتشير أحمد إلى أنه “من الطبيعي أن يستل الطالب من الدراسات السابقة ولكن بشرط أن تكون ضمن الحدود الاكاديمية ولتدعيم ما يطرحه، وأن يكون البحث أصيلا لا منسوخا”، لافتة إلى أن “السبب وراء تجارة البحوث العلمية يعود إلى طريقة قبول الطلبة في الدراسات العليا، وايجاد قنوات عديدة للقبول والتمييز لا تراعي المعايير العلمية، فيما يحرم او لا يحظى الطلبة الأوائل والمتفوقون والباحثون الحقيقيون بهذه الامتيازات، الامر الذي يجعل الكمية تتفوق على النوعية”.

وتفيد المتحدثة بأن الخراب “وصل إلى الكوادر التدريسية، فمن ينجح بهكذا طرق ويصبح تدريسيا لن يضيف شيئا إلى المسيرة العلمية، بل راح البعض منهم يلجأ إلى هذه المكاتب لتقديم بحوث الترقية الخاصة به في الوظيفة”، معتبرة هذه الظاهرة “كارثة حقيقية”. وتقترح الباحثة تطوير مادة أصول البحث العلمي بشكل جاد، ومحاسبة أصحاب المكاتب التي تتاجر بالبحوث الاكاديمية، واعادة النظر بطريقة القبول بالدراسات العليا والمعدلات الكبيرة بين خريجي الجامعات الأهلية والتي لا يحققها المتفوقون في الجامعات الحكومية، وما لهذا الأمر من تداعيات مستقبلية على عملية القبول وجودة المقبولين”.