اخر الاخبار

أكدت الماركسية، حين كشفت عن نشوء وتطور الوعي كإنعكاس ديناميكي للمتغيرات المادية التي تسبقه، على أن تاريخ كل مجتمع هو نتاج سلسلة الصراعات الطبقية، وأن القوة المحّركة لأحداث التاريخ الكبيرة هي الجماهير، داحضة بذلك الإدعاء البرجوازي القائل بأن تلك الأحداث، إنما هي نتاج الرجال “الخارقين” ذوي الأفكار “العظيمة”، من الذين يتمتعون بقدرات خاصة وبحزم يجعل من الناس مجرد تابعين سلبيين لهم.

لكن الماركسية في ذات الوقت، لم تنكر تأثير العامل الذاتي في أحداث التاريخ، بل أشارت إلى الدور الحيوي الذي يلعبه القادة في إيصال تلك الأحداث لنهاياتها، منبّهة إلى أن هذا الدور، لا يمكن أن يتجاوز المدى الذي تحدده ظروف العصر، فحتى أكثر الأفراد تصميماً وذكاءً وجاذبية، يبقى مقيداً بالظروف المادية وبالعلاقات الاجتماعية السائدة.

وتمّثل ماركس وأنجلز هذه الفكرة في مسيرتهما النضالية، فرفضا تقديسهما أو حتى إطراءهما، معربين عن اشمئزازهما من عبادة الفرد، ومشترطين خلو أدبيات الأممية الأولى من أي شيء قد ينحو بإتجاهها. كما كانت صراعات لينين الفكرية، التي اقترنت بعلاقات جيدة مع الذين اختلف معهم، شاهداً على رفضه التام لإستثمار كارزميته في فرض آرائه. ويبدو أن التقديس الذي تعرض له بعد موته، كان المؤشر الأول على سنّة عبادة الفرد، التي أسسها ستالين، والتي أضّرت كثيراً ولعقود، بالحركة الشيوعية.

ولهذا صارت المشكلة نقطة حوار هام بين الماركسيين، الذين يعتبرونها سبباً من أسباب إنهيار تجربة المعسكر الإشتراكي وتراجع دور اليسار العالمي، وأدت إلى تعطيل الإدارة السليمة للصراعات الداخلية، وأعاقت تطبيق الديمقراطية في التخطيط والمركزية في العمل، وحجبت حق المساهمة الجماعية في إتخاذ القرارات المصيرية، وسمحت لبعض الأفراد، إنابة أنفسهم للتفكير، بدلاً عن الجميع. 

وفي إطار تقييم المشكلة وتشخيص سبل الوقاية منها، سعت أطياف يسارية إلى لوي عنق التراث الفكري كي تبرر ما حدث، وتمنح شيئاً من المصداقية لجمودها العقائدي. كما قامت أطياف أخرى، بجلد الذات معتبرةً العلة سبباً لكل إخفاق تعرض له اليسار في مساره الطويل، عسى أن يبرر ذلك انتقالها لمواقع مخالفة.

وبين هذا وذاك، تعّد الأغلبية، عبادة الفرد، ظاهرة غريبة عن الماركسيين، تسللت إلى صفوفهم لأسباب عديدة كالنزعات الفردية البرجوازية أو الإرث الثقافي الاستبدادي المستمد من تشكيلات ما قبل الرأسمالية أو تخلف البنى الاقتصادية والاجتماعية أو عزلة المناضلين عن قواعدهم الطبقية، بسبب القمع والإرهاب السلطوي البشع أو جراء التواجد في المؤسسات البيروقراطية.

ويرون بأن برامج معالجة هذا المرض وتأثيراته السلبية، لم تك موفقة دوماً، جراء عدم تصالح العقل الإيماني مع تلك البرامج، أو لأنها جاءت في معزل عن تجديد شامل، أو افتقدت لشروط إنضاجها على نار هادئة وبصبر وتفان، يصون وحدة الإرادة والعمل وينّشط الحوار الفكري في إطار تنوع محّفز على التقدم.

وفي الوقت الذي تدعو فيه هذه الأطياف اليسارية لمواصلة الحذر من بقاء أية ثغرات تسمح بنمو الظاهرة بشكل ما، تعيد التأكيد وبقوة على أهمية التمييز بين عبادة الفرد، وبين التنفيذ المبدع وغير المشروط لتوجيهات القيادات، لأن هذا التنفيذ، يمثل ببساطة جوهر الالتزام الطوعي، المرتكز على رفقة نضالية، يخلقها منح العقل الجمعي، وبحرية تامة، حق قيادة العمل لعدد من المناضلين، في فترة زمنية محددة. كما يستمد حيويته من تمتع أولئك المناضلين بثقة من انتخبهم، وقدرتهم على أن يعكسوا خلاصهم من الركود اليقيني وإمتلاكهم القدرة على إصلاح أي شقوق قد تحدث في جدران السفينة التي يمسكون بدفتها.

عرض مقالات: