اخر الاخبار

عرفته طفلاً، وحين التقيته بعد ثلاثة عقود، بادرني بالسؤال عن السبب الذي دفعني لأصبح شيوعياً، أنا الذي كنت محاطاً بعالم مخالف، وعن سرّ تمسكي بذلك، رغم إختفاء النجمة الحمراء من سماء موسكو. لم يكن تساؤل الفتى غريباً، بل ربما واجهه كل اليساريين، منذ إنطلاق المكارثية الجديدة، التي تحاول ان تلصق كل العيوب بالشيوعية، وتنسب اليها الأخطاء التي أرتكبت، عسى ان يندم البعض فينتقل إلى الضفة الأخرى، حيث مستنقع العدو. 

والحقيقة، أن قراءاتي لم تك هي التي دفعتني للشيوعية، بقدر ما دفعني اليها حال الفلاحين، الذين يكّدون عاماً كاملاً ليأخذ الإقطاعي ثلثي ناتجهم مقابل “أرضه”، وحال عمال المساطر الذين يجس رب العمل سواعدهم قبل أن يختار منهم من يستعبده. صرت شيوعياً لأن المرأة “حرمة تكرم من طاريها”، ولأن الأمية تعمي البصيرة والبصائر، ولأن  المثقف مطارد أو سجين أو يبادل إبداعه بلقمة خبز حاف. صرت شيوعياً وبقيت، لأن أسباب إنتمائي ما زالت شاخصة، ولأني أيقنت بأن جلوس الإقطاعي ورب العمل والحاكم في البيت، لا يضير أحداً، لكن غياب الفلاح عن أرضه والعامل عن مصنعه والمثقف عن كتبه، يُفقدنا قدرتنا على مواصلة الحياة.

صرت شيوعياً وبقيت، لأن لليسار تاريخا طويلا من الفخر، فالمشانق التي نُصبت لإبنائه، تحولت لمطالع أقمارٍ بددت ظلمة لياليه. وبدل أن تُغيّبَ زنازين الطغاة فتيانه وصباياه، صاغتهم مشاعلاً مفعمة بالصدق والحنين، ورايات أودعت الوطن سر بناء مجتمع، يستعيد فيه البشر أدميتهم المستلبة.

وصار ذلك كله ممكناً لهم فقط، حين تبّنوا فكراً يقوم على تحليل مجتمع الإستغلال والصراعات الطبقية التي يتسم بها، ويرسم مسار استبداله بمجتمع يرى في التطور الحر لكل فرد شرطًا أساسيًا للتنمية الحرّة للجميع. أنه الفكر الذي يحدد معالم الصراع ضد كل اشكال القمع، وينير المسار نحو إنتزاع السلطة من رأس المال وإعادتها للمنتجين.

لقد أكد الصراع الفكري مراراً، على أن عجز العدو الإمبريالي، على تبشيع أفكار الشيوعيين، إنما كان بسبب قوة وطهرانية ما انطوت عليه من حرية وعدل، كما كانت خسارته في محاججتهم حول أهدافهم، نتيجة لفضحها بشاعة ووحشية التمييز في المجتمع الرأسمالي، وقدرتها على صياغة بديل إنساني عنه. ولذا لم يبق أمام العدو الاّ التركيز على أخطاء التعامل مع الحريات، في بعض دول المعسكر الإشتراكي وتضخيمها.

وعلى الرغم من أن تلك الأخطاء كانت تُبرر بصيانة التجربة في وجه غول مدجج بالسلاح والمال، فإنها خضعت مراراً للإدانة، وبروح جريئة من نقد ذاتي قاس، في وقت لم ينتقد فيه العدو نفسه يوماً، سواءً على دعمه للجلادين في البلدان النامية أوحمايته لدكتاتوريّ اسبانيا والبرتغال واليونان وجنوب أفريقيا، ناهيك عن آلاف الحروب التي أشعلها وأدامها، وإفتضاح مسؤوليته عن مئات المجازر التي أرتكبت ضد ملايين الشيوعيين في الدول التي لم تكن إشتراكية يوماً.

إن كراهية الإمبرياليين للشيوعية لا علاقة لها بالمفردة، ولا ببعض الإنتهاكات التي حدثت بإسمها، بل إنهم يكرهونها، لأنها الفكرة التي إستجابت لحلم البشر الأزلي، في قيام عالم خالٍ من الملكية الخاصة، مصدر الظلم والعبودية. ولهذا فإن من البداهة تماماً أن تكون عصّية على الموت، وأن يشعر أي يساري بالفخر من إنتمائه لها، لأن أي شعور بغير ذلك، برأيي، ليس سوى نتاج لنقص في وعي المرء وثقافته الإشتراكية.

عرض مقالات: