الفساد في بلادنا وباعتراف الكل، مستشرٍ على نحو واسع في جميع وزارات ومؤسسات الدولة ودوائرها، في المركز والمحافظات. بل ومدت منظومة الفساد، للأسف، خيوطها الى المجتمع أيضا.
فهل الهيئات الرقابية والقضاء في مستوى هذا التحدي الكبير، هذه الآفة الخطرة على حاضر البلد ومستقبله؟ وهل تركيبة الحكومة المؤسسة وفقا لمنهج المحاصصة والتخادم الزبائني، تسمح بالتصدي الناجع لهذه الظاهرة المستفحلة، وهي التي تتحرك ضمن مساحات محدودة ومؤطرة باتفاقات سياسية، تراعي مصالح الكتل التي شكلتها وساندتها.
لا يكاد يمر يوم الا وتكشف لنا هيئة النزاهة عن مبالغ ضخمة من الأموال العامة التي سرقت او اختفت، كذلك عن قوائم بأسماء من جرى استقدامهم او احالتهم الى القضاء بتهم الفساد بأنواعه ومظاهر تجلياته.
المعطيات المعلنة من هيئة النزاهة وحدها تدلل على ان بلدنا لا يزال بعيدا ليس فقط عن استئصال هذه المرض القاتل، بل وحتى عن تحجيمه.
والإجراءات التي تعلنها الحكومة والتي تؤكد فيها تصميمها على مكافحة الفساد، وان لا هدنة مع الفاسدين، هي حتى اللحظة لا تقنع المواطن بان هناك توجها جادا لمكافحة الفساد، والتصدي لرموزه المعروفة والمكشوفة ولجميع الملفات المرتبطة به. فالمواطن عند توجهه لمتابعة اية معاملة مثلا في دوائر الدولة المختلفة، يتأكد له حالا بان لا معاملة تمر من دون مبلغ متفق عليه في تلك الدائرة. وهذا للأسف غدا واقعا معاشا، وهو ما لا تجهله دوائر الرقابة المعنية.
من الخطأ بالطبع القول ان الجميع في مؤسسات الدولة كأفراد فاسدون، لكن الحقيقة المرّة تؤكد بان الفساد غدا ظاهرة ومؤسسة اخطبوطية، تحرسها بنادق ورشاشات وربما اكثر!
ولا يستطيع المواطن الاطمئنان الى كون ما يجري يتمتع بالصدقية، وانه جاء لمعالجة الظاهرة كليا، فيما يعرف قبل غيره بان هناك ملفات فساد مسكوت عنها، وان اصحابها معروفون، وان هناك انتقائية في اختيار الملفات التي يخف وزنها.
ان قلق المواطن يكبر وشكوكه تزداد عندما يرى ويسمع ان إجراءات الحكومة في بعض الملفات لم تستكمل، وقد وصلت الى نقاط حرجة لا يسمح بالاقتراب منها. وامامنا سرقة القرن، وثراء نواب ووزراء ودرجات خاصة ومتنفذين وغيرهم، معروفين ويصولون ويجولون ولا تمتد يد القضاء اليهم ! بل ان تصريحات بعض من كانوا على صلة بهيئة النزاهة تؤشر كونها قد تنجز ما مطلوب منها وتحيله الى القضاء، حيث تبدا المساومات والضغوطات والتهديدات، واخيرا التوافقات عبر قانون العفو “واسترداد ما يمكن استرداده من المال المنهوب والمسروق”؟
على ان ما يتم الإعلان عنه في مجال مكافحة الفساد يكاد ينحصر بنمط واحد منه، دون ان يلامس الأوجه الأخرى المتعددة من حالات الفساد الإداري والمالي، ومنها مثلا وضع الشخص غير المناسب في المكان غير المناسب له، وما يسببه ذلك من هدر للمال العام، وضعف للأداء، وقلة في المنجز، وحالات فشل متوقعة، وغير ذلك.
ان اعلان النوايا وحده من جانب الحكومة لم يعد يكفي امام ظاهرة آخذة بالاستفحال، والامر بالتأكيد يحتاج الى مقاربات أخرى، مثل بناء مؤسسات قادرة حقا على الحاق الهزيمة بطاعون الفساد.
وأخيرا.. لا أمل في تحقيق شيء يذكر من دون وعي مجتمعي، رافض لظاهرة الفساد ورموزها.