اخر الاخبار

مرت خمس وسبعون سنة، مذ اعتلى يوسف سلمان ورفاقه الثلاثة أعواد المشانق، مترعين بالثقة والإقدام، ومذ باتت أسماؤهم مشاعل نور في عتمة، كانت ولا تزال جاثمة على صدر الوطن، مشاعل رسمت طرقات المدينة التي شيّدوها، بيوتاتها والأزاهير، أحلام أطفالها والينابيع التي تروي العاشقين.

وقبل أكثر من نصف قرن، انتقلت للإقامة في تلك المدينة. لم يك سهلاً أن أتأقلم مع قواعدها واشتراطاتها. لكنها سرعان ما صارت الهواء الذي أتنفسه وجمهرة كبيرة من أترابي. ربما كانت هناك أسباب عديدة أدت لهذا، لكني أجزم على أن اسم يوسف سلمان كان الأبرز فيها، مذ لملم الندى من شفاه صبح عراقي حزين وحصّن قلوبنا من الصدأ، ومذ تحول لألواح بلور منحت أرواحنا ألقاً حجب عنها أشواك الوهم، ويوم صاغ العراق صلاة بهية ناغمت بين أعراقه وأنسابه، بين ألوانه وأطيافه، بين جباله وسهوبه. 

في مدينة يوسف سلمان، كان للعمال دوماً الدور الأرأس، لا في تحقيق الخلاص من عبودية رأس المال فحسب، بل وفي تحرير جميع البشر من الطغيان والعنف واللامساواة. وفيها رأينا الفلاحين المعدمين، وهم يحيلون طباعهم الأصيلة مظلات للمتعبين الجائعين. والتقينا بصبايا وفتية، طلاب وشباب، تمثلوا قيم التضامن والإيثار وحب الأرض، وأسكنوا العراق حدقات العيون، أزاحوا جدران الزنازين الخانقة، وغادروها نحو زرقة السماء الطليقة، فمازجوا بين مذاق الوطن ولون الشهادة. 

في مدينة يوسف سلمان، تكاملت الفكرة مع القيم والأخلاق الثورية، حتى وُضعت في النظام الداخلي، وصية واشتراطاً. وارتكز الانتماء والالتزام على أريج القدوة فصار واضحاً كالبداهة، وارتوت الأنفس من زلال التواضع والشرف والنزاهة، وزهت بجمال التآخي بين البشر.

وفي مدينة يوسف سلمان، تعلّمنا التسامح والمرونة والحنو حتى مع المتلكئين والمقصرين، وألفنا الحزم مع ما يناقض القيم الأخلاقية للناس. عرفنا أن للأخلاق طابعا طبقيا تحدده ظروف الحياة الاجتماعية، ولذا دأبنا على أن نستوعب كل ما هو تقدمي في تراث شعبنا الأخلاقي، لاسيما الأكثر تنوراً فيه، وشرعنا ببناء منظومة أرقى، من قيم الحرية والعدالة، تُنهي ثقافة الاستغلال والقمع والإرهاب والحرب والجشع والفساد وغياب الضمير.

كما علّمونا في مدينة يوسف سلمان، كيف نعترف بهفواتنا أو نتجرأ على نقد الأخرين، وأن نمتن لمن يبصّرنا بأخطائنا، دون أن تخنقنا رواسب البداوة والتخلف وحب الذات، ودون أن نحّول النقد إلى تصفية حسابات شخصية أومعول يمس وحدتنا. كيف نحترم مشاعر الناس ومقدساتها، كيف تكون المرأة صنواً للرجل، كيف يحتل المبدع مكانة في الأرواح تضاهي ما يخلقه من جمال، وكيف يكون الأطفال «طبقة» في مجتمعنا اللاطبقي.

وكان علينا في مدينة يوسف سلمان، أن نُحسن اختيار أشكال عملنا وأن نجمع بين أساليب كفاح عديدة وأن نديرها بما يعزز كل منها الآخر. أن نتقن فن سماع المختلفين معنا، وأن نُعْمل العقل في ما نقرأ ونرى الواقع بالنظر. أن نعيد دوماً تحسس قلوبنا، وأن نطهّرها من الحقد والغيرة والحسد والأنانية وحب الظهور والتباهي، ونذكي فيها نبض الوفاء والتضامن لرفاقنا وكادحي بلادنا، وأن يكون سباقنا لنثر زهور الحزب على الناس، متعة لنا وتنافساً يوثّق لحمتنا، فنفرح لأن أحدنا تمّكن من أن يروي سنديانة الحزب بأفضل منا، نقبّل جبينه، ونقتدي بمساره العذب.  

في مدينة يوسف سلمان، بقيت تتوحد لعقود تسعة، الأصوات المختلفة والآراء المتعددة والمواقف النابضة، في صوت واحد ونشيد واحد وفعل واحد، يبزغ منه فجر الأحلام.

مدينة يوسف سلمان، تبقى نظرة وأقوى من الموت كما أرادها مؤسسوها الأماجد. 

عرض مقالات: