يشّن اليمين المحافظ منذ سنوات حملة شعواء، تبشر بنهاية الأيديولوجيات، بدعوى قيامها على أكاذيب مخالفة لجوهر الإنسان، ولاتساع الفجوة بين أطروحاتها وبين الواقع الذي يعيشه الناس. وعلاوة على اليسار، كهدف رئيسي لهذه الحملة، باتت الليبرالية في مرمى هذه الاتهامات والإدانات، لا في جانبها الاقتصادي والاجتماعي، وإنما فيما تدّعيه من احترام للحريات، لاسيما حين أدرك هذا اليمين حاجة الرأسمالية المعولمة لمنقذ ما، يخلصها من ضعفها المزمن تجاه تناقضاتها المحتدمة.
ويستفيد هذا اليمين في ترويج أكاذيبه من الإحباط الكبير الذي يعاني منه الشباب في المجتمعات الغربية، حيث بات ثلثا الشعب الأمريكي، مثلاً، لا يجدون صواباً في نظام بلادهم ولايثق 70 بالمائة منهم بالمحكمة الدستورية و93 بالمائة بالكونغرس. كما يستفيد هذا اليمين من تدني الوعي لدى الجمهور، وأتذكر هنا تصريحاً غاضباً لسيدة أمريكية فقيرة، اتهمت فيه أوباما بأنه “مسلم شيوعي أسود وكافر”، فقط لأنه دعا لتبني مشروع للتأمين الصحي، كان سيخدمها بالضرورة!
غير أن هذه الدعوات الرافضة لأفكار الليبرالية، غالباً ما تأتي مغلفة بشعارات مسروقة من اليسار، كالدعوة لتغيير ثوري للمجتمع واحترام حق الإنسان في التقدم والتطور لبناء عالم أفضل، رغم أن الجميع، بما فيهم هذا اليمين الديماغوغي نفسه، يعرف بأن استخدامه لهذه الشعارات حق يراد به باطل، فبدائله للديمقراطية البرجوازية تبدو إجمالاً وتفصيلاً مرعبة. إنه يهاجم مشروع الحرية الذي بدأ في القرن الثامن عشر وأدى بعد ذلك إلى نشوء الديمقراطيات البرجوازية، ممثلةً في حرية التعبير والتنظيم وحقوق الفرد والقيم المرتبطة بذلك. ويهاجم الدولة، كأداة لتنظيم العلاقات بين المواطنين، ويريد استبدالها بالزعيم أو النخبة. ويحارب التقدم بدعوى تخريبه للبيئة وإهماله لمستقبل الأبناء والأحفاد. وبدلاً من أن ترتبط انتقاداتهم لما نسميه “مساوئ” التقدم، بتحليل اجتماعي يضع بدائل تُصلح الواقع وتحدد مسارات سليمة لمواصلة التطور، يعكف هؤلاء على بث اليأس ومركزة الحل بالمنقذ، فرداً كان أم نخبة، والتي تتحدد الحريات وفق إرادته وحكمته، وهو الذي يحقق الحياة الفاضلة والمجتمع المتجانس الذي لا طبقات ولا تناقضات فيه!
ويكافح اليسار ضد أطروحات اليمين المحافظ هذه، لا دفاعاً على الليبرالية، بل لأنه يرى بأن البشر كمخلوقات اجتماعية، لا تتمكن من العيش إلّا في مجموعات، يعتمد بعضها على بعض من أجل البقاء، وأن حريتها مرتبطة بالتقرير الجمعي للمصير. كما يرى بأن للنظام البيئي الذي لا ينتمي لأحد، إستقلالية نسبية عن الطبقات، حيث تتجلى التناقضات فيما بينها في المقاربات التي تُعتمد للتعامل مع هذا النظام.
ويشدد اليسار على أن الإحباط الذي يسود المجتمعات الرأسمالية، ليس أمراً جديداً، بل هو نتاج طبيعي للمفهوم الليبرالي للحرية، الذي استنفد دوره الإيجابي منذ قرنين، والذي يقدم الإنسان، بمعزل عن مجتمعه وعن نشاطه داخل هذا المجتمع. فالرأسمالية، بعلاقاتها الإنتاجية وبالملكية الخاصة، تُفقد الإنسان سيطرته على عمله، سواء في اختيار العمل أو في تنفيذه أو في امتلاك نتاجه أو في التمتع بجوهره الانساني، وبالتالي تفقده القدرة على تقرير المصير، أي تُفقده حريته فيغترب عن المجتمع.
ولهذا لا يتحقق خلاص البشر وتقدمهم، بالإرتداد الرجعي نحو حكم المنقذ، بل بتخليص الحرية من قيدها الديمقراطي البرجوازي، عبر تحرير المجتمع من أشكال الاستغلال الطبقي وتنمية طاقات الفرد وقدراته الذاتية الخلاقة، أي بضمان المساواة في الثروة وتكافؤ الفرص والحقوق، وفتح المدى مشرعاً لإحلال الشكل الاشتراكي للحرية، الذي يعي فيه الإنسان الضرورة ويتمكن من توظيفها، محل الشكل البرجوازي، لأن به وحده، يمكن تأمين الخلاص من عدم اليقين ومن الخوف والاغتراب.