اخر الاخبار

ازدهر هذا الرهان ، بثلاثة أعمده لا رابط تكاملي أو موضوعي بينهما، فكل  واحد من هذه الأعمدة له ظرفه التاريخي وعوامله الموضوعية ، فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي انبرى فوكوياما الامريكي شامتا بكتاباته مبشرا بفجر جديد للرأسمالية اللبرالية بطابعها المتوحش في بداية تسعينات القرن الماضي، من أن الرأسمالية هي الأصح ايديولوجيا واقتصاديا واجتماعيا، واكب هذا الاندفاع موجه رأسمالية أشرس في المحيط الامريكي أي في جواره لممارسة التطبيق الحي لهذه القفزة، فبعد إنشاء منطقة التجارة الحرة لامريكا الشمالية (نافتا) والتي ضمت كلا من :الولايات المتحدة الأمريكية، المكسيك، كندا قصد إنشاء منطقه للتبادل الحر، سارت عملية الخصخصة إلى الأمام بخطى متسارعة وعلى وفق السراط المستقيم لصندوق النقد الدولي  وما حمله من( بشائر) . فقد خفضت اعداد الموظفين في قطاع الدولة إلى النصف في الفترة بين 1988و1994. ومع حلول العام 2000 كان عدد الشركات التي تملكها الدولة قد انخفض إلى 200 شركة مقارنة مع ما كان عليه هذا الرقم وهو 1100 قبل عام 1982. وقد وضعت شروط الخصخصة بأسلوب يشجع تملك الاجانب. (د. صالح ياسر حسن /الخصخصة والاصلاحات الاقتصادية بين خيبات العقيدة ورهانات الواقع /ص402/ 2016). هذا غيض من فيض يتميز كونه مع جار يبني الآن جدارا عازلا لمنع فقراء المكسيك هربا من الفقر باتجاه امريكا بحيث حجزوا الأطفال وحدهم بمخيمات. هذا حصاد مر.   

أما العمود الثالث بعد التجربة السوفيتية ثم الأمريكية، قفزت الصين معززة لدافع إعادة النظر من وجهة نظر صينية وحسب تجربة العملاق الاصفر، حيث الخصخصة طوع بنان حزب شيوعي يشذب ليرفع الإنتاج بدون جروح صندوق النقد الدولي والنافتا وما نسج في ضوئها عالميا. وهكذا باتت الصين ثانيا إلى حين اقتصاديا في العالم. حيث مؤمل الأولوية وفق التوقعات قريبا.   

مما يعني أولا وأخيرا أن المفاهيم الرأسمالية مأزومة في ضوء التجربة كما إنها ليست حلا وليست عصى موسى كما يلوح بها طبقة ال 1% من بارونات الرأسمالية العالمية، فاقتصاد السوق بمقوماته لا يعني أنه يسعى للمعقولية او الأنسنة في توجهاته عموما كما لمسناها من هشاشة النظام الصحي في كورونا، اذ يمثل سكان أمريكا 4% من سكان العالم توفى منهم 25% من عدد وفيات العالم، لأن الدولة غير معنية حيث تركت الأمر لاقتصاد السوق.  

إن العديد من مقومات السوق لا تتوفر اوتوماتيكيا بفعل السوق نفسه وانما من خلال تدخل الدولة، فالمنافسة لا تستمر إلا بفضل السلطة العامة، والتبادل السلعي لا يتم إذا لم تتوفر معايير الجودة والمواصفات الفنية التي توضع أو تعتمد من قبل هيئات رسمية أو مهنية لا علاقة لها بقوى السوق (المصدر اعلاه ص 549).  

فخيار أو رهان الخصخصة ليس مرفوضا مبدئيا، وانما مقبول في ضوء الحجم الحقيقي بتوسطه بين الدولة والمجتمع بدون التفافات عقائدية أو تقويض الهدف العام لاي مجتمع هو لبسط العدالة بتقليل وحصر التفاوت الطبقي الحاد لتصبح الاقلية القليلة تتحكم بالدولة والمجتمع. 

اذن رأس رمح اللبرالية المنفلتة في العالم هو صندوق النقد الدولي الذي تملك غالب اسهمه بلدان رأسمالية وتتبنى سياساته التي شرعتها له اعتبارا من بعد الحرب العالمية الثانية. فمن خلال تجربتنا مع صندوق النقد الدولي نستطيع أن نرى الصورة أوضح والموقف ادق، نعم كان موقف الصندوق في اتفاق باريس بعد 2003 في خفض 80% من ديون العراق أغلبها اسلحة للحرب وبسببها مع إيران والدول الخليجية لم توافق لحد الآن وسميت ديونها بالبغيضة. ومضينا مع الصندوق مقابل ذلك بشروط لقاء التخفيض أعلاه.  وكانت: على العراق إطلاق حرية التجارة، وفق التوجه الرأسمالي بتحرير تجارته المحلية والخارجية من القيود، وفتح الحدود أمام السلع المتدفقة إلى العراق، وكانت النتيجة، ووفقا لما صرح به أمين عام مجلس الوزراء، ان حجم العملة المتسربة أعذار واهية تقدر ب 180 مليار دولار بين عامي (2003--- 2012) ولم يخرج من هذا المبلغ بصفة شرعية غير 5% فقط. (د. عودة ناجي الحمداني /صندوق النقد الدولي (خصوصية العراق) ص85 / 2014).    

 وترتب بموجب هذل السياق بقيادة وتوجيه صندوق النقد الدولي، وحسب آخر إحصائية دولية في أواخر الشهر العاشر لعام 2021 ان ثلث العراقيين يباتون جياعا، هذا ناجم عن بطالة بلغت بين الشباب بنسبة 6/22% و3/56% بين الاناث، (عادل عبد الزهرة شبيب /اغتيال الاقتصاد العراقي /ص161 / 2020).   وان تقديرات دولية بلغت نسبة ذوي الاحتياجات الخاصة 5% من مجموع السكان في العراق، هذا بعد الشراكة الدولية الرأسمالية من خلال صندوقهم، فهذه الغمامة والحصاد المر لا تزيحها الخصخصة كأحد أبرز شروط النقد الدولي وادواته المحلية من شرائح الفساد التي هي نتاجه الحتمي، كما ان ذريعة رأس المال جبان لم تسر على رساميل مؤسسي صندوق النقد الدولي.   

 كل هذا لا يعني ان الديمقراطية كانت غطاء للخصخصة الكلاسيكية، ولكن تجاوز الخصخصة وامتدادها لرسم السياسات وتكيفها بلي عنقها بعيدا عن العدالة هنا الاشكال الاساس ’ انها أي الديمقراطية اداة حقيقية للعدالة التي ترسم معالم خارطة طريق التنمية السياسية والاجتماعية.  

فالخصخصة التقليدية ضمن أطر الدول الرأسمالية حدودها معروفة من حيث العموم، أهمها وأبرزها أن لا تكون خدمة الخصخصة واقعة ضمن الوظائف العامة الأساسية   للدولة، وهي الأمن والدفاع، والعدالة والسياسة الخارجية (د. ربيع صادق دحلان /الاتجاهات المعاصرة في ادارة المشروعات العامة /ص 250 /1981). إذن الخطر هو تغول الخصخصة سيما إذا كانت دولية بحيث تتحول الأطراف الأضعف لحدائق خلفية للدول ذات العلاقة التجارية، فتدمر الانتاج المحلي العام والخاص، كما نلمسه وبعد مرور18 عاما على تجربة اقتصاد السوق نتيجة التغول الناجم ليس من مساهمي الصندوق فحسب بل من استثمر بالانفتاح في فتح الحدود والتحويل الخارجي مع تراجع الوظائف الأساسية للدولة.   

الصورة القاتمة لها انفراجات نلمسها الآن من خلال انتفاضة تشرين، حيث اثبتت بشكل قاطع أن تغول الإثنيات والمذهبيات لم تصنع ديمقراطية حقيقية التي هي المعبرة عن عدالة تحسم من خلالها.  اذ يتوقف نجاح الديمقراطية في الدول المتعددة إثنيا على عدة عوامل، من أهمها: القدرة على خلق الانقسامات المتقاطعة، التي تقلل حدة الانتماءات الإثنية، عملية التنشئة الاجتماعية والسياسية، حجم الاتصالات الإثنية المختلفة وسعتها. (سهام فوزي / التحول الديمقراطي في المجتمعات الاثنيه / دراسة مقارنة/ العراق وجنوب افريقيا ص 315/ط 1 /2019).    

هذه الديمقراطية التي تضع مسارا للخصخصة والعدالة كما نجحت في جنوب افريقيا   وهذا فرقها عن ديمقراطية صندوق النقد الدولي بشروط قروضه وهيمنة مستفيديه في الخارج والداخل ليصبح الفساد بكل انواعه قاسما مشتركا لهم.   

فالخصخصة العراقية كمشروع مواكب لصندوق النقد الدولي لا نتوقع الفكاك منه ومنها حتى لو بلغ سعر النفط أكثر من مئة دولار للبرميل اذ سبق ان بلغ 120 دولار، لان العراق لا زال بعيدا عن خلق الانقسامات الافقية المتقاطعة مع التقسيمات ما قبل الدولة الحديثة، وفكر الخصخصة الحالية يجد جذوره في هذه الأرضية.   

فالأولوية تكون بالمطالبة بالحاجات الاساسية سلميا من البطالة إلى الخدمات الكهرباء والصحة والتعليم، سيما وان ملف المياه لا زال بدون حل حقيقي الذي بدأ تهديده كما أعلمتنا وزارة الري بخفض حصة زراعة الحنطة والشعير إلى النصف، التي يستحيل على اقتصاد السوق المنحرف انجازها، خصوصا وان البطالة في تزايد يومي وما يرافقها من كوارث.  لذلك ينبغي نشر الوعي الثقافي الذي يعيد تجسير العلاقة بين الاثنيات والمذهبيات التي هي حقل اقتصاد السوق المنحرف لنذهب لاقتصاد السوق الاجتماعي الذي يهدف لتلبية الحاجات الاساسية للإنسان.

عرض مقالات: