اخر الاخبار

تُعد الآداب بشتى صنوفها المرآة الحقيقية للمجتمعاتِ والشعوب، إذ يعكس الأدب الحالة الإنسانية والاجتماعية والثقافية للمجتمع. وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أنَّ للأدب دوراً مهماً في نشر الوعي الثقافي والمعرفي ويسهمُ في تطوير المجتمعات، لهذا توجب علينا دراسة الأدب بكلِ فروعه، شعراً وروايةً ومسرحاً، ومن أهم تلك الفروع التي ظهرت بشكٍ جلي بعد الحرب العالمية الثانية هو أدب ما بعد الحرب. والذي يحمل سماته التي تميزه عن باقي الأنواع الأدبية الأخرى من حيث الأسلوب والهدف، وأظهار الصورة البشعة للحروب والسلبيات والكوارث التي تخلفها تلك الحروب على كل الأصعدة، والمساهمة في إبراز مخلفات الحروب وسبل معالجتها بمخاطبة المجتمع بشكلٍ مباشر. أن الأدب الهادف الذي يحمل المبادئ الإنسانية ويعمق الدور الايجابي ويشخص السلبيات الحقيقية هو المرآة الحقيقة لثقافة ورقي المجتمعات.

القصة القصيرة، وهي شكلٌ من أشكال الأدب النثري الذي كان له صدى كبيرا في (أدب ما بعد الحرب). وتم استثمار هذا النوع من الكتابة  استثماراً رائعاً لكي يحقق الأهداف التي نشأت من أجلها. لقد برز عدد غير قليل من الكُتاب الذين أسهموا أسهاماً كبيراً في التصدي للكتابة وتطوير تقنياتها وأسلوبها الأدبي المميز.  ومن بين هؤلاء المؤلفين كان بورشرت و شنورا برشت وآنا زيغرز. وقد تأثر بعض هؤلاء الكُتاب بالتجربة الأمريكية في كتابة القصة القصيرة ومن بين أهم من تصدى لذلك هم  فولكنير، همنغواي وأدجر ألن بو. ويبقى الكاتب الألماني الكبير بورشرت مميزاً رائداً في كتابة القصة القصيرة في تلك الحقبة الزمنية ، ومن أهم أعماله كانت (ساعة المطبخ)، و (في ذلك الثلاثاء) و(الكرز). ويتناول أدب ما بعد الحرب تجارب الأمة تحت الحكم النازي وفي الحرب. فقد ركز كارل تسوكماير في مسرحيته “جنرال الشيطان” على الماضي النازي عندما حلل الصراع بين الضمير والطاعة لدولة فاسدة أخلاقيّاً.

ويُعد كل من دورنيمات وماكس فرتش السويسريين من أبرز المسرحيين الذين كتبوا بالألمانية.

ويتناول الفن القصصي في مجمله الدمار الروحي والدَّمار المادي الذين تسببت النازية فيهما. وتُعدُّ رواية (طبلة الصفيح) التي كتبها جونتر جراس أقوى مثال لهذا الموضوع. وقد أسهم العديد من كتاب ما بعد الحرب مثل بول وغراس في قيادة الأدب الألماني اليوم. وقد أبدى كتاب ألمانيا الشرقية في العصر الحديث وقبل اتحاد الألمانيتين، اهتماماً كبيراً ومتعاظماً بعلاقة الفرد بالدولة. ومن أبرز كُتَّاب ألمانيا الشرقية سابقاً هو أولريش بلندسدورف. وبعد أعادة دمج الألمانيتين الشرقية والغربية في عام 1990، بدأ أدباء ألمانيا الشرقية السابقة في التعبير عن التجربة التي مارسوها في الكتابة في ظل ألمانيا الشرقية. أما أدباء ألمانيا الغربية ومنهم غنتر غراس ومارتن ولسر فقد أسهموا بفاعلية في الكتابة عن المشكلات التي صاحبت تقسيم ألمانيا ثم اتحادها والحقبة التي تلت الاتحاد.

وبعد الحرب العالمية الثانية كانت ألمانيا خاوية من أي إنتاج أدبي يستوقف القارئ الجاد، لذا كان لا مفر من إعادة الروابط مع العالم خارج ألمانية النازية التي انتهت عام 1945. وقد برزت أسماء أدباء لم يكونوا مشهورين في حياتهم مثل روبرت موزيل (1880 - 1942) وهرمان بروخ (1886 - 1951).

في عام 1947 نشأت في ألمانيا الغربية (جماعة 47) ضمت مشاهير الأدباء الألمان، منهم من عاد من المنافي الاختيارية، ومنهم من ترك ألمانيا الشرقية مثل جونتر جراس، والذين يسيطر عليهم جميعاً رعب الحرب العالمية الثانية والشعور بثقل الخطيئة، التي جرّتها على البشرية ألمانية النازية. وقد كان التعبير عن ذلك يتخذ مسارب شديدة الخصوصية والعرقية أحياناً لكنه كان يتخذ توجّهات تتشوّف إلى عوالم أرحب في أحوال غيرها.

وكان من الظواهر الملموسة في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية إقبال القراء الشديد على استيعاب التيارات الأدبية التي شاعت في العالم الخارجي، ولم تصل إلى الألمان إبّان الحكم النازي، مثل الواقعية الجديدة  في روايات الأمريكي إرنست همنغواي ووجودية الفرنسي سارتر، كما اشتد الإقبال على مؤلفات الألمان الذين اختاروا حياة المنافي، أو أُرغموا عليها منذ عام 1933، مثل هاينريش وتوماس مان والفريد دوبلين وبرتولت بريخت وآنّا زيغرز، وقد شاع بين الكتّاب الشبان رغبة شديدة لـ (البداية من الصفر)، وإجراء (تنظيف شامل) في الساحة الأدبية. وظهرت عناوين تعبّر عن أيام الرعب التي عاشوها، مثل مسرحية (في الخارج أمام الباب) ، فقد كان لهذهِ المسرحية صدى كبيراً في كافة أرجاء ألمانيا لِما تناوله الكاتب بأسلوبٍ راقٍ لمعانان الناس جراء الحروب وويلاتِها على المجتمع الألماني. وتحكي هذهِ المسرحية قصة جندي عائدٍ من الجبهة إلى موطنهِ ليجد نفسه خارجاً من كل الأبواب التي أتعاد دخولها، وكانت البداية حين ذهب إلى بيته ليجد زوجته وقد ارتبطت بشخصٍ آخر ليسكن في بيتهِ ويرتدي ملابسه، ليجد نفسه خارج الدار وخارج الأبواب. وكان لهذِه المسرحية تأثيراً كبيراً داخل المجتمع الألماني الذي عانى الكثير من ويلات الحروب التي خاضتها ألمانيا النازية، والتي جلبت الدمار الكبير ليس فقط على البنى التحتية لألمانيا فحسب، بل على النفسية والشخصية الألمانية التي خاضت تلك الحروب العبثية. أن كتابات أدب ما بعد الحرب تشير إلى ميل الأدباء في هذه الحقبة إلى تسخير الأدب لخدمة قضايا المجتمع. لكن ذلك الميل ما لبث أن تضاءل في عقد الستينيات،

أنَّ لدراسة (أدب الحرب وتأثيره على المجتمع الألماني) ومن خلال دراسة وتحليل هذه المسرحية لبورشرت، عرض السماة التي تميز أدب ما بعد الحرب عن باقي أنواع الآداب الأخرى والتركيز عليها وإبرازها بشكلها الصحيح بالاعتماد على المصادر الألمانية الحديثة ،  وإبراز المعاناة الحقيقة للمجتمع الألماني التي عاشها بفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ومقدار الخراب الحاصل نتيجة تلك الحرب المدمرة ليس على الصعيد الاقتصادي فحسب بل على كل الأصعدة وبالأخص الإنسانية منها. وقد أستطاع الكاتب المعروف بورشرت من توظيف آلته الأدبية المميزة في هذا النوع من الكتابة التي تكون في الغالب سريعة الانتشار والتأثير لسهولة قرأتها وعظيم تأثيرها. أنَ المسرحية  المذكورة في اعلاه أحدثت ضجة كبيرة ليس في ألمانيا فقط بل في أنحاء كبيرة من العالم وتُرجمت الى العديد من اللغات بما فيها اللغة العربية, لقد أثار هذا الكاتب الكبير المشاعر الإنسانية والتفاعل العاطفي من خلال جعل بطل مسرحيته فتى يافعا في مقتبل العمر يعود الى مدينته المدمرة جراء الحروب،  بعدما أمضى فترة تزيد على ثلاث أعوام في الجبهة، وهنا سرُ التأثير الكبير لهذهِ المسرحية،  حيثُ ركز الكاتب على موضوعة الحرب والمعاناة التي يعشها الناس بصورة عامة والجنود بصورة خاصة جراء الحروب التي لا علاقة لهم بها ولكنهم يتحملون العبء الأكبر في هذهِ الأحداث. ووتلخص المسرحية في أن بطلها هو ذلك الجندي العائد من جبهات القتال الى مدينته التي دمرتها آلة الحرب ليجد ان كلَ شئ قد تغير فيها حتى الناس, فوجد ان زوجته قد ارتبطت بشخص آخر وما  عاد بامكانه الرجوع إلى بيته, وأن أبويه الكبار في السن قد غادرا الشقة التي كانوا يسكنون فيها لتحل فيها أمراة غريبة لا يعرفها هو، فوجد نفسه في الشارع حيث لا بيتٌ يأويه ولا زوجةٌ تحتضنه عند عودته ولا أهلٌ يحنون عليه بعد طول غياب , فلم يكن امامه من بدٌ سوى الانتحار الذي لم يفلح في تحقيقه أيضاً، لأن النهر الذي حاول الانتحار به هو نهر الالبة الذي لفضه ورماه مبتلاً على الشاطئ. ودار حوارٌ جميل بينه وبين أحد ابطال المسرحية والذي يعرفُ ب (الآخر) والذي كان يمثل التفاؤل في هذه المسرحية. وكان الحوار بينهما يداعب المشاعر الإنسانية ويثير كل الكراهية الى ما أوصلتنا إليه الحروب، ومن الضروري التأكيد بأن الكاتب الألماني لم يشر مباشرة الى ما يروم الوصول إليه من أهداف مباشرة في المسرحية، حيث أعتمد الأسلوب غير المباشر في الوصول إلى الأهداف، وهذا هو السر الحقيقي في نجاحه وقوة التأثير التي تمتعت بها المسرحية.

لقد حاول أغلب كُتاب هذهِ الحقبة وهذا النوع من الكتابة الوصول إلى الاهداف المتوخاة من أدب ما بعد الحربِ، وهي التأثير المباشر على القارئ وكذلك الوضوح في طرح السلبيات وأن كانت الطروحات غير مباشرة، وكذلك سرعة الانتشار. أن أدب الحرب من الآداب المهمة والعظيمة وبالأخص للمجتمعات والشعوب التي عانت الكثير من ويلات تلك الحروب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أستاذ الأدب الألماني الحديث.. قسم اللغة الألمانية – كلية اللغات – جامعة بغداد

عرض مقالات: