اخر الاخبار

لم اسمعْ في يومٍ منَ الأيامِ، ان في مديتنا حيّ سكني، باسم المحاربين، لكن الذي اعرفهُ، وجودَ جمعيةُ خاصةَ تهتّمُ بشؤون العسكريين المحالين على التقاعدِ، ولها يافطةٌ مهملةُ معلقةٌ قبالة مرآب البارودي تحملٌ عنوان جمعيةُ المحاربينَ القدماء.

 ويٌّذكر انْ اولَ رئيساً لها هو الجنرال جعفر العسكري عام 1935 م.

من هنا بدا البحثُ عن خلفياتِ هذا الحي!

توجهت الى مقهى سيد مجيد المعروفة بقدمها في كربلاء والمتاخمة لبناية الجمعية وسالت أحد كبار السن وهو أحد زبائن المقهى والذي لا يحلو له تدخين الاركيله الا وهو جالس تحت ظل شجرة السدر والنظر الى الشارع المزدحم   بالعمال والكسبة، وأصحاب المشويات المتوزعين على جانبي الرصيف يتنفس رائحة البصل المشوي ولحم الغنم الشهي المنبعث من مناقل الفحم.

بعد السلام استأذنت بالجلوس واعتذرت منه على تطفلي!

قلت له ارغب في طرح سؤال،

انتفض قائلا بكل اريحية..

- هل تعطني فكرة عن احياء مدينة كربلاء القديمة؟ 

- انظر عزيزي، انها مرسومةُ على وفقّ خطِ سير طريق القطارِ القادم من بغداد والذاهب الى سدةِ الهندية حيثُ يمرُ بأطرافِ المدينة ومناطقها المعروفة وقتذاك بأسمائها التراثية، بعضها يحمل اسم اضرحة الائمة أمثال حي العباس والحسين والحر، او بمداخل المدن التي تتجسد بالأبواب مثل:

 باب الخان وباب طويريج وباب السلالمة وباب الطاق، باب اليهودي.  لكن الحال تغير في العهد الجمهوري   عام 1958 م عندما شُّيدت احياء جديدة   كالجمعية والإسكان والمعلمين، ما لبثت ان تغيرتْ الخريطةُ مع ازدياد عددَ السكان يوماً بعد اخر حتى وصلنا الى العام 1980 م وهي السنة التي اندلعت فيها الحرب مع إيران التي تسببت في ازهاق آلاف الارواح.

وتعلم ان السلطة لها مجساتها المنتشرة حتى بين مسامات الجسد الواحد لتدرك وتتوجس تداعي الحال، الذي يتطلب اتخاذ ما يلزم من اجل الحفاظ على تماسك الجبهة الداخلية مشفوعة بحملة إعلامية ضخمة، لصرف نظر الناس عن حجم الخسائر والضحايا التي تهرس في جبهات الحرب. كان أولها الإسراع في توزيع الهبات من مال، وسيارة حديثة الموديل تستلمها العائلة التي فقدت أحد ابنائها مع قطعة ارض سكنية عند الحدود الإدارية التي تنتهي بجدارية للقائد مع اسم يليق بالحي الجديد يتناغم مع أجواء الحرب   ومن تلك الاحياء التي وضع لها حجر الأساس ايضا:

حي النصر، حي العسكري، حي سيف سعد، حي الشهداء واخرى لقوى الامن الداخلي وجميعها تمتد على الشريط الغربي من بحيرة الرزازة حتى مخازن التجارة التي شهدت افتتاح مقبرة جديدة تقع على الطريق العام كربلاء – نجف والتي شيد فيها أيضا محلات نظامية لغسل الموتى تتوفر فيها اكفان بيضاء وأخرى مطرزة بالزعفران والبخور وأماكن استراحة للمشيعين وانجزت في زمن قياسي لاستقبال جثامين وقود الحرب.

كان استعراضا وافيا على الرغم من عدم تطرقه لحي اسمه المحاربين.

في ألسنة الأولى للحرب، احيل والدي على التقاعد بعد خدمة طويلة جاوزت الأربعين عاما قضاها متنقلا بين مدن الوسط والجنوب ، منقولاً الى  الشطرة المحطة الأولى قادما من بغداد ولم يمر عام حتى  نقلوه الى سوق الشيوخ حيث ولدت ولم تتح فرصة التمتع في اجواء هذه المدينة الغناء حتى صدر امر اخر بأبعاده هذه المرة  صوب   قضاء الهندية ويطلق عليها أيضا  طويريج قضينا فيها عامين مًريين ، كنت شاهدا على معركة دموية دارت بين  العشائر والسلطة في العام 1961 م بعدها مباشرة  تقرر نقله الى  ناحية المحاويل القصبة الغافية الهادئة ، لكن المقام فيها لم يدم اكثر من عام ، لنشد الرحال  الى القرنة  قرب شجرة إبراهيم الخليل وملتقى النهرين عشنا عامين فيها ذقنا مرارة الفيضان ولسعات البعوض وشهدنا تحطم  مروحية المشير عبد السلام عارف عند زيارته المعروفة للبصرة مرددا:

هنيالج يمن بيتج على الشط

ومنين ما ملتي غرفتي.

لترد عليه المرأة القرناوية:

بس ليش من طارت احتركت؟

بعد عامين كان بانتظاره امر جديد يتوجب الرحيل الى البصرة ومنها الى أبو الخصيب وصولا الى الخليج العربي اخر مدينة في العراق، ميناء الفاو التي كانت ذات يوم منفى للسياسيين المعارضين للحكم الملكي.

كانت جدتي لأمي تقول:

- بيبي ابوكم، يومية في مكان، صرتٌ مثل ام البزازين!

للأسف توفت جدتي ولم تزرنا في محطة الوالد الأخيرة.. كربلاء.

في يوم استلامه كتاب التقاعد مع امر اداري يمنح بموجبه قطعة ارض سكنية تقديرا لجهوده الكبيرة والجليلة والمفترض ان تكون   في منطقة خاصة بالحقوقيين، لكن لسوء الحظ صدر قرار من مجلس قيادة الثورة يمنع توزيع الأراضي للموظفين وحدد بموجبه حصر الجهات المستفيدة في أبناء القوات المسلحة وعوائل الشهداء وقوى الامن الداخلي!

الوزير وقع في حرج فعمل جاهدا من اجل تنفيذ امره الذي تحقق بعد ان تم اصدار استثناء من وزير الحكم المحلي!

منح قطعة ارض مساحتها 137 اولك اسوة بالقوات المسلحة في الحي الجديد الذي   أطلق عليه اسم حي المحاربين، بدلا من ان تكون في حي الموظفين الذي مساحة الأرض فيه تصل الى 400 متر مربع بينهما شارع.

 بدا الوالد البناء بعد ان جاوز عمره الخامسة والستين وخاض مسيرة ماراثونية بين الديون والعمال وقرض المصرف العقاري، كل هذا في كفة واخبارِ الساعة الثامنة مساء في كفة أخرى حين أطل المذيع رشدي عبد الصاحب او شمعون متي وهو يتلو بيان سير المعارك في الجبهات!

 كان يمسك قلبه بكلتا يديه ويعصره بقوة حين يصل المذيع الى فقرة خسائرنا بالأرواح!

فقد كان لديه ثلاثة أبناء، كبيرهم في شمال العراق عند سفح جبل حصا روست والابن الأوسط في الجنوب في منطقة الدير والصغير في قصبة مندلي، بعد عامين أكمل تشيد البيت وتنفس الصعداء فلم يطارده سماسرة العقار او يقلقه دفع الايجار، ويا للحسرة رحل عن عالمنا في العام 1985 م والحرب لم تضع اوزارها بعد.

لكنه كان يطوف كل ليلة على ابناءه.

عرض مقالات: