اخر الاخبار

بسؤال البحث عن طمأنينة العيش في الزمان والمكان والاقتصاد والصحة يكون الموضوع قد جرح نفسه بما يعكّر الذهن من وجود هذا العالم الذي لا ينفك يزداد عداء وخوفا وصراعا وحروبا: الحروب التي تبدأ في موضع او جزئية ولكنها لا تنتهي إلا على فراش وفير من الخراب والألم والتدمير الذي يمتد ويتمدد فيلتهم داخل الانسان وخارجه دون رحمة. وبلا أدنى عاطفة يمكن أن تأخذ بيدنا نحو شاطئ أقلّ كراهة وخوفا وعنفا..

ذلك السؤال يتجذر فينا كبداهة لابد من تحقيقها على نحو يجعلنا في ذلك المرفأ السعيد. مرفأ الأمان في هذا العالم المزدحم بشواظ الكراهية والتقاطعات والخلافات الحادة التي تثير بين مدة وأخرى النزاعات سواء كانت تلك النزاعات بين الانسان ونفسه او بينه وبين العوالم الأخرى التي تشاركه هذا الوجود. ومرة يكون الصراع فرادى ومرة يبلغ أشدّه على شكل جماعات او دول.

وكما الوجود او العدالة او الحرية وغيرها يناضل من أجل تعزيز قيمته او ما يصبو إليه من عيش كريم كذلك السلام يتمتع بقيمة عالية. بل الآن وبعد هذا المدّ المتطرف من الكراهية والعنف والارهاب صار السلام كقيمة عليا يتقدم على الكثير من تلك المصطلحات لحاجة الناس إليه. ولمّا توارد على هذا الكوكب من اخطار النزاعات المهولة التي تعصف به نحو الخوف والدمار. 

قيمة السلام ضرورة كقيمة الوجود إذ لا فرق بين الوجود والسلام. كلاهما وأن تمتعا بوجهين إلا أنهم يشكلون عملة هذا العالم، إذ بدون السلام لا قيمة للوجود. أن كل وجود لا مناص من أن يقرن بسلام.  إن الحياة سلام وأن السلام حياة، وهذا يعني ان محور او قيمومة الحياة ترتكز على السلام وهو المفهوم الذي يستوعب الحياة كلها لأنه يستوعب ديمومتها او بقاءها.

يرتبط تحقيق السلام بما يضدّه، وما يضدّه هو النقيض الذي لا ينفك يتغالب عليه بقهره او محقه من تحقيق وجوده. ما يضد السلام ويؤرق او يهدد امتثاله في المجتمعات كافة هو ما يعكس حالة الفناء في عملة هذا العالم ويعجّل به او ما يعكس المزيد من الخراب والتدمير في النفوس او العلاقات او الدول على نحو العموم. السلام ضد الحرب والكره والعنف. بل السلام يعني الضد من كل ما يزعزع أمن الانسان او قيمومة وجوده.

والقول بأنه يضادد الحرب هو ذاته القول الذي ينسحب على نزعة الاختلاف المتأصلة في الانسان والتي وبسبب نوع من الأنانية او المصالح التي تتجاوز الحدّ المتآلف تتحول الى قوى خلافية عاصفة: القوى التي تمثل أقصى درجات التعصب والانكفاء على الرغبة القاهرة. تلك الرغبة التي يريد عبرها الكائن تحقيق ما يريد على حساب وجود او مصالح او أمن الكائنات الأخرى. يريد نفسه وان كلفت تلك الإرادة حيوات جميع من حوله او جاءت على حساب الجميع لمآربه الخاصة.

لا حضارة او مدنية او مجتمعات تستظل في رفاهة العيش ما لم يصاحب حيواتهم السلام. مالم يكن السلام القيمة الأولى التي هي أساس ما يقود تلك المجتمعات او الاساس الفوقي الذي يشكل هوية أمنهم الوجودي ابتداء مثلما يشكل ضميرهم الجمعي. إن السلام قارّ في الضمير الانساني، وأن ذلك كلّما أخذ حيز التنفيذ وتحول من منطقة تجريداته الى واقع ملموس في مجمل سلوكيات الفرد او الجماعات كلّما ارتبط ذلك مباشرة بتعزيز الحضور المجتمعي الأمثل وتعزز التقدم والرفاه المدني والحضاري.

لا تأريخ بلا سلام: الشاهد علينا ليس سجل التاريخ بل سجل السلام. إن مصنع الأرشفة هو السلام وبلا ذلك المصنع تتحول الشعوب الى مواد ثابتة وجامدة في اللحظة الآن بينما السلام يمنحها البعد الماضوي مثلما يمنحها البعد المستقبلي. إن السلام ذاكرة الشعوب. ودون تلك الذاكرة يفقد الناس الكثير من عبرهم واعتبارهم بل يفقد القيمة المتجلية من التأريخ المقرون بمدونة وروح السلام. يفقد وجود الشاهد – الانسان. إن ذاكرة السلام هي ذلك الشاهد الحي الوحيد الذي يمنح تأريخ الوجود قيمة وحضورا.

الانسان مصدرا والانسانية صفةً: كلاهما مقعدان في قيمة السلام. إننا إذ نكون هنا وفي هذا اليوم إنما نكون بدواعي السلام ذاته. نكون اليوم بفضل جهاز حمايتنا اللامرئي وهو السبب الرئيس لترائي وجودنا. هو السلام القيمة، الضمير، الذاكرة. هو الحياة. هو الذي يؤصل جوهر هويتنا من جهة، ويؤصل جوهر انسانيتنا من جهة ثانية. هو نحن في طريق العيش بلا خوف او كراهية او فناء.

الحرب والسلام في مدار التعاقب: اللحظة التي نجد السلام متحركا فيها هي ذاتها اللحظة التي تتجه نحو الحرب. وكما الليل سابق للنهار يكون النهار سابقا لليل في مدار يتجلّى في رحلة التعاقب. يحضر السلام بمقدار ما تغيب به الحرب والعكس أيضا صحيح. هذا يعني أن السلام أصيل في الانسان كما الحرب ولا يتبقى آنذاك إلا الاختيار: اختيار النهار على الليل او العكس، ومثل ذلك الاختيار يتضح في سعينا لمد السلام اصلا في كل اختيار على الحرب. واذا جاءت الحرب غاب السلام حيث تمضي رحلتنا نحو الشقاء، الأمر الذي يدفعنا الى تبني: اذا جاء السلام غابت الحرب لتمضي رحلتنا نحو الهناء.

إذن، ميزان الوجود قائم على ثنائية الحرب والسلام. الكره والحب. حضور هذه او غياب تلك. وإن الاختيار سيكون أسّ القضية بين الطرفين: بلى أن الحرب هي معادل لكفة الكره في حضورنا على المستوى النفسي او الاجتماعي او الانطولوجي عموما مثلما أن السلام هو معادل الحب في الاتجاه المعاكس. ومسألة تغليب الاختيار تقع على مقدار تفعيل هاجس الارادة التي من شأنها أن تمنع الرغبات المنحرفة للمصالح او الأنانية الذاتية او نزاعات الأفكار المختلفة لدرجة الخلاف المعنوي او ما يمكن تسميته بالحق الالهي الذي يحمله الانسان نيابة عن الله في تحقيق العقيدة الخالصة وبما يتصوره..

إن قدر الانسان هو قدر ذلك التعاقب الاختياري الذي تنقلب فيه ارادة الحرب على السلام او تنقلب إرادة السلام على الحرب. وهكذا نتبين أن العالم يجري لمستقر جريان الارادات المتصارعة فيه. يجري على نحو صراعاتي من داخل الانسان الى الانسان نفسه، في الانسان نفسه. ومن داخل الانسان الى ما هو خارج عنه. إن ما يتحكم في ذلك التعاقب هو الصراع: صراع مختلف الارادات التي لا تجد نفسها الا بمقدار ما توجِد الصراع في هذا العالم.

لا أرى في الحرب او السلام الا طبيعة العلاقة الرابطة والمتحركة بين الكائن وما يحيطه. إن أسباب العلاقة سواء كانت قصدية او اعتباطية. تلقائية او متكلفة، حتمية او احتمالية هي ما يشير الى وجود او غلبة نزعة السلام على الحرب او نزعة الحرب على السلام. العلاقة هي كل تلك الحرب وهي كل ذلك السلام. إن شرطها ومدارها في أصغر حالاتها او أكبر حالاتها وعلى نحو المموضعة التي فيها لحظة توسطها بين طرفين متغايرين هما من يسببان حضور او غياب الارادتين: السلام والحرب وقدرتهما في تحقيق التواصل بينهما على فرض البقاء او الفناء.

يبدأ السلام من أقلّ ما يتحرك به الكائن الحي سواء في ذلك الكائن او على ذلك الكائن وبين ( في الكائن ) و ( على الكائن ) ينطوي الانسان على حراك مجهول وعظيم بذات الوقت من تنازع الارادات. من نفسه او من خارجها. وإنه طالما تحرك طالما ازدادت الضرورة في رصد المتجه الذي سيؤول اليه الكائن: متجه الحرب أم متجه السلام. إن ما يميزنا هو الاتجاه. الاتجاه المميز لنا. اتجاه بوصلة الارادة التي تتناوب بين عماء الحرب وبصيرة السلام وهي ما تنتهي به الميزة في ذات الوقت. إن مجرد التمايز بالاختيار هو مجرد الانتهاء ببلوغ المتجه. وهذا الانتهاء يكتفي ويخلد الى الراحة عند بلوغه الهدف.

اذا كان السلام هو أنا. إذن، أن السلام كينونة حضور مثلها مثلي في الكينونة ومثلها مثلي في صناعة الـ هوية: هويتي في وجودي على مستوى الأنا – الفرد او الأنا – الجماعة او الأنا – الدولة او أنا – الموقف. كذلك الحرب هي أنا في سالب السلام وسالب الحياة والحضور بل هي سالب الأنا في الكينونة والهوية.. هذا يعني: كلّ حرب او كل سلام هما بالضرورة كل أنا بمداها العموم.

وبمثل ما أكون أنا كلّ ذلك السلام الحاضر اكون أنا كل تلك الحرب الغائبة او العكس بالعكس. أنا الحضور في السلام هي أنا اختيار الطريق وصناعة إرادة تتحكم في بوصلة الاتجاه. كذلك أنا الغياب في الحرب هي اختيار وصناعة إرادة لا محلّ لها من الغلبة في تبني الطريق والمتجه. إذن، المشكلة اختصارا هي أنا. وما ترافق من مصطلحات كالحرب والسلام انما هي من صفات الأنا التي تتنازع فيها فاذا طغت الاولى حضرت على شكل أنا الحرب واذا طغت الثانية حضرت على شكل أنا السلام.

يتجزأ السلام كما تتجزأ الحرب. هذا بالإضافة الى ملكتهما الكلية كقيمتين فوقيتين يتمثلها الانسان او الحيوان في مشوار وجوده المعيش: الانسان ونفسه من نفسه وفيها. الانسان والجماعة. الانسان في الجماعة الواحدة والفرد الخارج عن مؤتلفات تلك الجماعة. الانسان في الجماعة وجماعة أخرى. الجماعات في العقيدة الواحدة او القومية الواحدة مع سائر الجماعات الأخرى المتفاوتة والمختلفة. الجماعة من منظور الدولة مع الجماعات او الافراد في دولة او دول أخرى. الانسان والاجنوسة المتباينة. الانسان والبيئة. الانسان وقضايا التجريد الميتافيزيقية. الانسان والمصلحة.. هي كل تفاصيله الصغيرة او الكبيرة وهي كل كلياته المتعالية. هي كل ما له علاقة بـ: الكره، الحب، اللعن، الجريمة: الصغرى، الكبرى. الجريمة المنظمة، الارهاب، النزاعات الدينية، العرقية، الطائفية، المناطقية، الاقتصادية.. هي بالمنظور منها وغير المنظور وهي بما له صدى الآن وبما له على المدى الآتي والبعيد.

يأتي فن السياسة هنا وطريقة إدارتها لموضوع السلام كمن يدير أوانيا زجاجية رقيقة بين ماكنات من الغضب والكره والعنف والخوف ليعبر بها كل الرياح العاصفة التي تهز المركب: مركب السلام بدرجات من الشدة والقسوة لا نظير لهما. إن إدارة الحق والعدل والحرية والمساواة والنظام او القانون وكل ما يعزز السلام في دهاليز السياسة على نحو الفرد والفرد، والفرد والجماعة، والجماعة والجماعة والدولة والدولة والمصلحة والمصلحة والرغبات والرغبات.. كل ذلك لا يمنح السياسي فيها نفسه القدرة بما يسدّ جوع الرياح والاهتزازات الغاضبة التي تريد تقويض ذلك المركب.

إن الحرب هي ضرب من ضروب السياسة. كذلك السلام. وإن ما تقدره السياسة من فنون الأداء تقدره عبر ثنائية الحرب والسلام. كل سياسة هي تلازم بنائي بين مركبي السلام والحرب. تتعضى السياسة في السلام كصناعة فرد، جماعة، مبادئ، مصالح، هوية، دولة، نظام.. ولا تكون هذه التعضية الا حالة من حالات تمظهر الدولة في بلوغ اهدافها ومواطنيها برّ الوجود والحضور.

عرض مقالات: