اخر الاخبار

يقدّم الروائي زهير الجزائري في رواية (آخر المدن) الصادرة عن (دار سطور- بغداد 2024) تجربة انسانية عميقة ودالّة وهو يستشرف أبعاد رحلة المواجهة والتصدّي ضد النظام الشمولي والسلطة الجائرة، إبّان الصدام، واتخّاذ الجبال والوديان والأرض الوعرة مرتكزات وساحات لهذه المواجهة المحفوفة بالمخاطر وبسالة التحدّي، وعدم التكافؤ من حيث العدّة والعدد ومستلزمات القتال.

ولعلّ هذه المأثرة الإنسانية والوطنية تمثّل تجربة استثنائية متفرّدة في تاريخ نضال الشعوب وتعكس وعياً وخياراً وربّما حلماً ثورياً رومانسياً مؤطّراً بيوتوبيا جيفاريّة فكيف يستطيع مجموعة من البواسل والمثقفين والأدباء من تحدّي السلطة المدجّجة بالطائرات والدبّابات وجميع أنواع الأسلحة، ليقف هؤلاء المتصدّون فوق قمم الجمال جبال (قنديل) و (العاشق) وهم لا يملكون إلاّ أسلحة تقليدية وبنادق لا يعتمدون عليها بقدر اعتمادهم على حماستهم الثوريّة وروحهم المتوثّبة باتّجاه امتلاك الذات وتحقيق الخيار واعلان الاحتجاج والثورة ضدّ الاستبداد والانفراد المقيت.

حركة الأنصار: حركة وطنية وانسانية وثوريّة تشكّل جزءاً مهماً ومؤثّراً في تاريخ المعارضة المسلّحة للنظام بعد أن وصلت الأحزاب والقوى الوطنية والتقدميّة إلى طريق مسدود وإلى نقطة اللاّعودة مع نظام دموي فاشستي، وقد جاءت هذه الحركة بعد انهيار الجبهة الوطنية والكشف (الكارثي) الذي مارسه النظام مع القوى اليسارية التي قلبت التعاون وتغليب الروح الوطنية على الخلافات والتقاطعات الفكرية لكن ورثة شباط الأسود لم يكونوا سوى قتلة ومشعلي حرائق ودمويين يستهدفون الآخر من أجل الانفراد بالمقدّرات وبالسلطة والاستحواذ.

ولعلّ تجربة بهذه المواصفات وبهذا المنطلق الباسل كان من الضرورة أن تؤرّخ تفاصيلها وأحداثها المليئة بالقصص وحكايات البطولة والصمد في تلك الأجواء القاسية وبقدرات فردية لمواجهة نظام يمتلك كلّ مقدرات الجيوش الحديثة والأسلحة الفتاكة وأجهزة البطش الوحشية، الروائي زهير الجزائري اختار أن يقدّم أبعاداً وخفايا لطقوس هذه المواجهة عن طريق السرد الروائي والرصد الإنساني بعيداً عن التوثيق المحض والكتابة التقريرية لأنه يدرك أبعاد العمل الأدبي والروائي في تجسيد مثل هذه المآثر، ولأن الخطاب الروائي هو الأقدر على تجسيد المعاناة وحجم الألم وحجم التصدي من خلال التعمّق السايكولوجي والتحليل والوصف لمواقف وحدوسات ومظاهر هذا الاشتباك، فهو يركز على تقديم الشخصيّات ببعدها الإنساني والفكري والوجداني فهي تعشق وتضعف وتفكّر وتبحث عن ملاذها وبقائها وصلابتها ومن ثمّ هي ليست مجرّد أرقام آيديولوجية تقاتل وفق سياق عدمي، فشخصيات مثل (بهاء) و(رؤوف) و(ابراهيم) و(هشام) و(سمية) و(الدكتورة عشتار) وزوجها (مالك) وشخصية الشاعر و(جوتيار) و(علاء) و(أسعد) هي شخصيّات نابضة بالحياة وروح التصدي وتشعر أنها شخصيّات تحمل على راحتها الموت وتتوقعه بأيّة لحظة وهي تترجّل وتمشي على سفوح الجبال والوديان المليئة بالألغام والمخاطر ولا تجد مواضع مثالية للاختباء ضد قصف الطائرات ولهيب المدافع وقد كان الكاتب قصدياً وهو يمزج بين وقائع الجمر والمواجهة وبين الصياغة الأدبية والوصفية والتعّمق في تقديم الحكايات والأحداث والمواقف والقصف لكي يضع هذه المأثرة الأدبية كنوع من التوثيق بحس إنساني، وينفتح على تقديم صور إنسانية لأناس وأفراد اختاروا طريق التضحية بكل شيء من أجل وطن معافى سعيد ومن أجل دحر قوى الإقصاء والمحو والجريمة القادمة من المجهول التي ستذهب وفق حتميّة الصراع وتداعياته إلى المجهول وإلى العدم.

حرص الروائي على تقديم عناصر البنية السردية وتفعيل دورها في الكشف والاستدلال وتجسيد متعة التلّقي بلغة شعرية تصويرية عبر توظيف تقنيات السرد من استرجاع واستباق ووقفة ومشهد وحذف وتلخيص، وقد طغى على أسلوب الروائي التوّجه إلى المونتاج في مزج الأمكنة وتقديم الصورة السينمائية بكل لقطاتها وهو يتابع الأفراد وصراعهم المضني مع الطبيعة القاسية.

وكان العنوان اشارة وعلامة سيميائية للأماكن البعيدة والقصيّة وانفتح على معنى تأويلي مرادف قصد منه الإيحاء بالذهاب إلى اقصى حالات المواجهة وآخر الخيارات بكل معانيها ودلالتها ولم يكن القصد مقتصراً على المعنى أو التحديد المكاني بل انفتح على سبيل الإحالة على فكرة الحلول البديلة واقصى حالات الرهان.

و(آخر المدن) هي إشارة لتجاوز كلّ الأرض باتّجاه مكان أخير يختاره الإنسان وهو الحل الأخير لصنع (يوتوبيا) البطولة بنسختها الثورية ويبدو الكاتب منشغلاً بهذه الوقائع وهو يحملها معه في المنفى وفي المستقر ويكتسب جزءاً من هذه الطقوس في زمن بعيد ثم يعود إليها في زمن آخر بعيد، وهي دالّة من دوال الإنشغال بقيمة وقدسية وجمالية هذه الوقائع الاستثنائية التي بدت عصيّة على الإندثار والتلاشي، وتعبّر العتبة الأولى عن هذا الإصرار على الكتابة وهو انعكاس للإصرار بمعناه المتعالي والمنتمي إلى روح الاحتفاء والمكاشفة والتعبير عن زمن استثنائي وملغوم وقد كشف أنه قد بدأ الكتابة في موقع الأحداث وفي قرية (بيشناشتان) ونجتزئ هذه العتبة (المقدمة) لقيمة الدلالة:

“بدأت بكتابة هذه الرواية في موقع المجزرة وفي قرية (بيشناشتان) الواقعة في السفح العراقي من جبل (قنديل) من يومياتي عن شهادات من عاشوا الحدث، تشكلت الرواية وطبعت في عام 1992، أُغلقت دار النشر في دمشق ورحل صاحبها عن دنيانا”. (الرواية: 5)، فالكاتب ظل مأخوذاً بهذه اليوميات والشهادات التي تملك بعدها الوطني والإنساني والثقافي فكان لابدّ من حتمية العودة والتجسيد مرة أخرى: “ابتعدت مكاناً وزماناً فتغربت الأحداث والشخصيات، لكن الحدث نفسه، ومن فقدت فيه لا يزال يسكن روحي، وكوابيس، اردت ان اراجع الرواية لأعيد طباعتها، لكن كما يحدث دائماً تحوّلت الرواية إلى رواية أخرى بإضافة شخصيّات وأحداث في زمن وعنوان مختلفين”. (الرواية: 5)، وهذا الكشف الذي تضمنّته عتبة (المقدّمة) ينطوي على دلالات سايكولوجية وفكرية تضاف إلى قيمة هذه الرواية التي أبدت وعبرّت عن اشتغال إنساني وتاريخي جمع بين جماليات السرد وجماليات التوثيق، والرصد وتقديم الصورة المثالية للخيار الأخير وإلى المواجهة الحقيقية وذروة الرفض والاحتجاج بدرجة التضحية التامّة من دون استئثار ومن دون أي رغبة أنويّة وذاتية.

كان الجبل رؤية وأرض (البختيار) هي الساحة التي تشهد تفاصيل الأحداث بكلّ أبعادها الإنسانية والسايكولوجية والوجودية، “بعد أيام من الانتظار على حافة الأرض الحرام جاء الرسول ليبلغنا:

- (البختيار) اعطاكم الأمان في أرضه وأمر بالحماية والزاد حتى تستقروا وتدّبروا أموركم..

كنا اول الجماعات التي افلتت من الهزيمة والحصار وتسلّلت عبر الحواجز وحقول الألغام، مع قافلة المهربين حتى وصلت إلى حافة الجبل التي تسيطر عليه قبائل البختيار”. (الرواية: 7).

ومن الظواهر الفنيّة والأسلوبية في البناء الفني نجد السرد الكلّي قد ارتكز على ضمير الراوي (المتكلّم) بضمير الأنا، وقد عبر عن ازدواج الروي أي السارد المتماثل حكائياً (الراوي المشارك) بالحدث والقائم على إيصال المعنى وبطبيعة هذه التقنية السرديّة يقوم السارد بمراقبة ورصد كلّ التفاصيل والأحداث وهو يتموقع في نقطة الرؤية، والمشاركة تتيح له التوثيق والتوصيف والمشاهدة الدقيقة.

وتعكس الرواية في أبعاد دلالاتها وخصائصها خاصيّة العمل (السردي – البيئي) حيث يتوغل الكاتب بوصف بيئة الجبال والوديان والطرق الملتوية والزوايا والصخور الحادّة كمساحة أو فضاء يحتضن الأحداث والوقائع والشخصيّات، والسرد البيئي يتطلّب قدرة على الوصف الدقيق وإمكانية تكشف عن معايشة وارتباط حقيقي بالتفاصيل الفيزيقية وانطولوجيا المكان وتضاريسه وليس مجرّد فرضيّة للحيز الفيزيائي أو استعارة لأرض من اجل تعميق روح الصراع وتقديم ملامح البيئة التي من المؤكد تحمل في دلالتها قيمة العيش والذود والمطاولة والمواجهة فيها، فاختيار البيئة هو دالّة من دوال الخيار الإنساني وإضفاء روح المغامرة على المنطلق الإنساني، ويعتمد الكاتب بناء المتن الحكائي وتراتبيّة الأحداث والصراع الفردي والعقدة المتصاعدة بل اختار الوصف والبنية الأفقية والسرد المفتوح ليقدّم من خلاله الوقائع والأحداث والشخصيّات وهذا الميل يكشف عن دلالة أنّه لم يتحدث أو يتناول عقدة فرديّة وبطولات فرديّة أو شخصية بل يرصد روح المجموعة وتشكّل الفريق أو الخلية الثورية ولم يعمّق المسار الأحادي الشخصاني، أي لم يشخصن العقدة السرديّة بل اتسع اسلوب الكاميرا البانورامية في تقديم اسلوب الومضات التي تلاحق الشخصيّات والأحداث والانعطافات وبعض المشاهد المؤثرّة إنسانياً وعاطفياً وفكرياً، أي أن البنية السردية لم ترتكز على الحكاية الأحادية ونظام (الحدوتة) بل ركّز الكاتب واستعان باسلوب السرد (الومضة) الكاشف بطريقة شاملة وذلك لصعوبة تحويل العمل إلى حكاية مقتضبة والأحداث تعبّر عن تجربة من الصعب اقتصارها والتعبير عنها بموتيفات فردية، ومن استدلالات هذا الاشتغال يلجأ الروائي إلى أسلوب الوصف الجمعي وغالباً ما يتحدّث بضمير (نحن) أو ضمير الجماعة لتكتمل دلالة الروح الجمعيّة وروح الخليّة الكبيرة، والابتعاد عن روح الفردية أو الحكايات الشخصيّة، ويمكن تأمل هذا المقطع السردي: “منذ الأيام الأولى لوصولنا تعوّدنا أن نستيقظ فجر كل يوم، نراقب الطريق الذي جئنا منه بانتظار سحابة غبار تنكشف بعد قليل عن الإدلاّء أنفسهم يقودون قافلة جديدة تضم رفاقاً جدداً، خرجوا توّاً من جولات التعذيب أو هرباً من مطاردات سلطة المدينة.. يصلون مجهدين من مشقّة الطريق وقد تهرّأت أحذيتهم وأدميت أقدامهم وتيبسّت شفاهم”. (الرواية: 12).

وعلى الرغم من قساوة هذه الظروف الصعبة والجبال الشاهقة والألغام والخوف من هجمات السلطة وأجهزتها والمصير المجهول غير أن الحياة لم تخل من مواقف إنسانية ووجدانية وهذا ما عبرّت عنه سميّة التي شعرت بميل إلى أحد الرفاق (بهاء) وكانت تحاوره وتقترب منه: “ما من أحد منا يجرؤ على القول إنها أحبّته بالذات ومع ذلك كان لكل منّا معها بداية حب، فقد كانت حريصة على أن تحاط بحب الآخرين، وتوحي بدون أن تدري لكلّ منا باهتمام خاص، فتطري أقل الخصال والملامح جمالاً، وعندما نطمح أو نتوهّم تبتر مشروع الحب بالمزاح أو بابتسامة تحذير، فقد شفّ الألم جلد روحها، ولذلك تحصّنت بحذر حصيف”. (الرواية: 21)، بهذا الوصف والتحليل السايكولوجي تقدّم الرواية شخصيّة (سميّة) وينطبق هذا النوع من الوصف على جميع الشخصيّات وفق اسلوب الإشارة الكاشفة السريعة، ولعلّ من المشاهد الدالّة ما قامت به الدكتورة (عشتار) وزوجها (مالك) في معالجة من يحتاج إلى علاج وعناية بل إنها أقامت مشفى لهذا الغرض، مما يجعل الرواية تسلط الضوء على مشاهد وسلوكات ومواقف دالّة ووجدانية تعكس روح الجماعة وتعكس طقوس الدفاع عن الذات والفكر، وجمالية الرهان على الرفض وتأسيس منطق التشبّث والبقاء تحت سطوة جميع الظروف الحالكة، “قبل أن ينصب خيمة لهما بدأت الدكتورة عشتار وزوجها الدكتور مالك ببناء مشفى ميداني بردهتين وغرفة للفحص، اختاروا موقعاً خلفيّاً عند سفح (جبل العاشق) قريباً من النهير”. (الرواية: 27)، ولكي تكتمل الرؤية الإنسانية المنفتحة على قيمة هذا الاختيار وتمجيده والرهان على المواجهة نجد لمسة الختام تنبئ عن جوهر وقصديّة الرواية بالمقطع الآتي الذي ينطوي على التفاؤل والتوّهج: “يسمع وشوشة الثلج اصطكاك الحصى، تمس الأقدام ويغالب صرخة تمور في داخله ومن دون أن يرفع وجهه عن الأرض قال بصوت خافت ومسموع:

-لنغنِ!!”.

هذه الكلمة الشفرة لم يطلقها رؤوف فحسب إنها كانت تسكن كلّ الأرواح والأجساد السائرة باتجاه مغامرة الرفض والاحتجاج.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*اصدر الجزائري مؤخراً كتابه المعنون “سيرة الفاسد من الحواسم الى المافيات المسلحة” دار سطور/ بغداد 2023.

عرض مقالات: