اخر الاخبار

وفي ذروة المأساة يتحدّث (غائب) نفسه عن الواقع وعن مصير شخصيّاته في هذا الزمن الأكثر غرابة في حواره مع السائق الذي يقلّه: “ربما سأستمتع بقصص هجرة الجيران إلى المنافي لا يهم، الغربة دربتني على تلّقي الصدمات الموجعة بصدر رحب، وسأتابع أيضاً ما حصل لصاحب البايسكلجي وحمادي العربنجي في هذه المدينة، ربما تحوّل البايسكلجي إلى سياسي معروف في واحدة من القوى السياسية، وهذا أمر طبيعي وفق نظرية التطور حتى (ابن الحولة) من الممكن أن يصبح رجلاً ورعاً وصاحب دين وتقوى، وكذلك تماضر قد تغدو سياسية ونائبة في البرلمان، وهذا أمر أصبح مألوفاً لكن المشكلة في شخصيّة (مصطفى الدلال) فهو الوحيد الذي سيعبث بدبلوماسية وزارة الخارجية وهذا الأمر متوقع الحدوث بالنظر إلى التحولات المريبة، أتمنى أن أجد مخلوقاتي على حالها التي أعرف، لأرسم مصائرها مرة أخرى وفق المخطط الجديد والتحوّلات الدرامية اللازمة يا عزيزي..

- وسليمة هذه ؟

- ما بها ؟

- هل عندها بنت مؤهلة للزواج يا حاج ؟

- لا طبعاً، عندها ولد يدعى حسين فهي لم تنجب من مصطفى قط، إنها ضحيتي التي جئت لتغيير مصيرها بصراحة أنا هنا لترميم صدوع رواياتي بعد ما تغيّرت الاحوال، لا تخف لقد جلبت نسخاً منها في حقيبتي

- والله يا حاج من الجنون العودة إلى بغداد في هذه الظروف، أنت ترتكب جريمة كبرى بحق نفسك بهذه العودة، بصراحة أنا خائف عليك أكثر مما أنت خائف على نفسك”.  ويمكن التقاط جزء من حوار غائب حول رغبته بتفقد شخصيّات رواياته ومصائرها في هذا الزمن ويتحدّث بشكل ساخر عما يمكن أن تكونه في هذه الظروف والملابسات التاريخية بهذه الصياغة التي تقترب من النسق العجائبي، يتواصل السرد باتّجاه بؤر ومنحدرات ومسارات جديدة يحتّمها الواقع الجديد، ولعلّ مخاطبته بكلمة (يا حاج)  من قبل السائق هي إشارة إلى إفرازات واقع العراق بعد الإحتلال.

إنَّ فكرة اللعبة الفانتازية تشير إلى أن الواقع أصبح أكثر غرابة وسريالية من المتخيل السردي لذا نجد مخيلة غائب لا تستطيع استيعاب هذا البون الشاسع والخروقات التي أصابت الحياة وحولتها إلى حياة أخرى تماماً لا تشبه الصورة والنسق القديم ولا تشبه أي صورة أخرى ترتكز على المغالاة والتحرّر من أي منطق وهذه الدلالات استطاعت الرواية عبر اشتغالاتها الجمالية ولعبتها السردية أن تمرّرها وتوظفها وتكشف عن المسكوت عنه واللامفكر فيه في تفاصيل المفارقة الفادحة بين اشتراطات الزمنين والمرحلتين، حتى أن غائباً يشعر بأنه صنع ضحايا وليس أبطالاً لروايات حين حصل هذا التجسيد بين المتخيّل والواقعي بين التجريد والتجسيد أيضاً ويشعر بالذنب إزاء مصير (سليمة الخبازة) التي تبدو أكثر خسارة في هذا الزمن وهي رمز الإستغلال والقسوة التي وقعت عليها في ذلك الزمن، فكيف يمكن أن تعيش في زمن التوحش والعنف والموت وانتشار المليشيات والمزيفين والصراع النفعي والضياع القيمي؟ وتلك هي بؤرة المفارقة في فرضية السرد ودلالاته وسحب الأبطال والشخصيّات والكاتب نفسه إلى واقع مأزوم ومن هذا التماحك تولد الأفكار والمقارنة والكشف والتعرية لكلا الواقعين المتخيّل الذي تحول إلى واقع والواقع الذي تحوّل إلى متخيّل أكثر ضراوة وقبحاً.

وهذه التبادلية أو تبادل الأدوار والإحلال والإزاحة هي خصائص الإشتغال الذهني الذي تعبّر عنه الفرضيّة الفانتازيّة بوصفها الدال الذي كشف عن مدلول أكثر تأثيراً وأكثر فضحاً وتوّغلاً في الواقع وبتوقيت التحولات التي طرأت وأزاحت كثيراً، وانتجت كثيراً من القيم الغريبة والصادمة ونجد الرواية في مسافات ومساحات كثيرة تثير مثل هذه الصدمة والادهاش وتقديم الواقع الجديد الذي يتحول بفعل الظروف التاريخية إلى متاهة سريالية وضياع لا يشمل أبطال الروايات القديمة بل يشمل أيضاً كلّ البشر الذين يعيشون تحت وطأة هذه الظروف المستجدّة والضاغطة والمتّصفة بالانحراف باتّجاه العدمية القيمية والصراع اليومي الغرائبي.

بعض الشخصيّات استطاعت أن تتكيف مع الواقع المزري الجديد مثل شخصيّة المحامي (جبر الشوك) الذي ينطلق من سلوك براغماتي يستطيع من خلاله أن يوظّف ثقافته الحياتية والقانونية للعيش في زمن آخر يحمل قيماً أخرى، ونجد شخصيّة (دلال البيرقدار) تتكيف مع الواقع بشكل معكوس حين تحمل قيماً مضادّة لهذا الواقع ممّا يجعل شخصيّتها في مربّع إشكالي فهي تعيش في واقع ترفضه وهي لم تتخل عن عشقها للروايات وتحدث طفرة في سلوكها حين تتعاطف مع شخصيّة الكاتب المغمور (هاني بارت) وتفترض فيه المعبّر عن الوعي والثقافة والنقاء القديم لكنّها في النهاية تصطدم لأن (هاني بارت) هو نتاج لواقع مرتبك ومضطرب يحمل بذور التشتّت وحماقة الحوادث وملامح الخراب العولمي، لاسيما أن الرواية قد وظّفت الحاسوب كرمز لتحوّل الإنسان وتماهيه في (السيبرنطيقا) والأتمتة والثقافة الرقمية.

ومثلما رفض غائب وشخصياته الواقع المتردّي حدثت مضاهاة في نوع الرفض حين تكشفت الأحداث عن رفض الواقع بكلّ مقاساته للكاتب وهزيمة شخصيّاته في الصراع الجديد، وعلى الرغم من الاحباطات النهائية والانكسار الذي يشبه تلك الانكسارات التي وسمت روايات غائب كانت رواية (بنات غائب..) هي الأخرى تحتفي بالنهايات التراجيدية، فلم يستطع (جبر الشوك) و(دلال) و(هاني بارت) من العثور على غائب ، ولم يستطيعوا إخراج الرواية الجديدة بطبعة جديدة، أي أنّهم بمعنى آخر لم يستطيعوا استعادة الموروث وتقديم الفكر القديم في مثابات الغرابة والتوحش الذي نسخ الواقع القديم .

كانت معاناة ومكابدة دلال هي الأكثر حضوراً وضراوة، وهي الشخصية الحالمة القادمة من الزمن القديم لمواجهة شراسة الحياة بنسختها الاحتلالية ولم تكن عودتها سوى حالة اغتراب وتصادم بين عشق الشخصيّات الروائية وبراغماتية الشخصيّات التي انتجها المنطق الجديد، “في ذلك اليوم يوم عودتها إلى أرض الوطن، ما إن بلغت قاعة المطار الخارجية حتى أسرعت تتأمل الأشخاص الموجودين هناك لاستقبال الوافدين، لعلّها تميّز بينهم المحامي جبر الشوك، على الصورة التي رسمتها له في مخيلتها وفقاً لنبرة صوته في الهاتف”.

إنَّ حضور الشخصيات وبهذه الطريقة الاستدعائية جعلها تقترب من روح الإثارة لاسيما أن الرواية كشفت أن التاجر (عبد الرزاق البيرقدار) قد تعرّض هو الآخر إلى جريمة قتل وحين وصل الكاتب إلى بغداد بدأت الشرطة بفتح الملف من جديد، أي أن هناك جريمة مؤجّلة على شكل ملف ينمو ويتصاعد ويؤدي إلى جرائم وارتكابات  متباينة ليتحوّل الواقع برمته إلى خريطة للخراب والتهشيم وسيادة الزيف والنزعة العشائرية واختفاء المعنى، وكل معنى وليس فقط المعنى الكامن في روايات الروائي الذي استدرج وتم استدعاءه إلى زمن لا يشبه زمانه ومآلاته وتصوّراته، وأصبحت الأحداث خارج منطق المخيّلة التي تخلّفت عن ملاحقة الإيقاع الجديد للحياة.

وبدت دلال هي الأقرب إلى أبطال غائب لأنها حملت قيمه وأصبحت عاشقة لرواياته، وما تضمنته من بعد إنساني وطبقي، ولذا فإنّها البطلة التي استحقت أن تكون المحور الإيجابي والقيمي الذي يجابه الخراب الجديد، ولم يكن إحباطها دليل انكسارها وهزيمتها بقدر ما كان تعرية وفضحاً وادانة للواقع وليس لها، وهي لم تحضر إلى هذا الواقع المتصارع بنزعة نفعية بل كانت تردّد المعنى القديم للحياة والقيم، فوجدت الوطن منفى آخر وهذا ما يفسّر رفضها للواقع واختيارها السفر والهجرة والعودة مرة أخرى إلى المنفى حين لم تجد وطن (غائب) ووطن أبيها الذي يرمز إلى الكدح ومحبّة الأدب والثقافة وليس مجرّد برجوازي وتاجر.

ولعل من تجليات هذه الشخصيّة أنها لم ترفض عشق (هاني بارت) لها، بل بالعكس كان يمكن أن تثمر هذه العلاقة لاسيما أنها أحدثت نقلة في شخصيّته وخلصته من طقوس الضياع والصعلكة والعدميّة السلوكية إلى رجل رصين وإيجابي لكنّه محكوم بقواعد الهيمنة الكلّية للقيم الجديدة فلم يستطع مضاهاة توجهها الإنساني إليه وانتهى به الأمر إلى أن يكون متّهماً بجانب تمثال غائب الذي تحطّم بفعل فؤوس وفعل غامض، وأظن أنَّ هانياً كان يهلوس إذ لم يتحمل صدمة قبول (دلال) به ورغبتها في مرافقته.

فغائب لا يمكنه التماهي مع الحياة المثيرة والمرعبة، ولم يكن أمامه سوى أن يتحوّل إلى كتلة صماء وتمثال يقف شاهداً على الخراب في إحدى ساحات بغداد، بغداد التي عشقها وتوغل في أزقّتها وحاناتها وأجوائها وفي أعماق القاع الذي عاشه في (العوينة) و(المربعة) و (شارع السلطان علي)، “بدا وكأنه مخمور خرج للتو من حانة (جبهة النهر) أو (شريف وحداد) التي تقابلها كان يترنّح لا يستطيع تمييز الملامح، هل تقدّم به العمر إلى هذا الحد أم أنَّ وجوه الناس قد صارت متشابهة كلها؟ كيف له أن يتعرّف على شخصياته إذا مرّت إحداها أو بعضها أو جميعها من أمامه؟ قد يمنعه الشرخ في عدستي نظارته من رؤيتها، عوّل على فرادة ملامحها وميزات أصواتها لكن دون جدوى، حتّى حدسه لم يسعفه “انتبه إلى حقيبتك يا شيخ”، قال له صاحب مقهى ذلك ليحذّره من (القفاصة)، انعطف إلى اليسار قبالة قاعة سينما الزوراء تماماً، سار في الزقاق الترابي الفقير المؤدّي إلى النهر، كما مشى في ذلك الزقاق وتنسم هواء النهر المنعش، وكم مرة عاد خفيفاً مثل خطّاف بعد لقاء تماضر.

بلغ ضفة النهر زفر زفرة وافقت تموّجاً خفيفاً ثم خنقت أنفاسه تلك الـ(أين) اللعينة: أين فندق الأمراء، من هذا الزقاق المظلم؟ أين أنا؟ وأين النخلة والجيران”. هذا المقطع السردي يكشف عن حالة الاغتراب الفادحة بين غائب والواقع الذي تدحرج وأصبح أسيراً لتحوّلات لم تخطر بذهنه وأصبح مثل الهائم الذي يتلمّس طريقه بحثاً عن ذاته وعن شخصياته، وهو يعاني شعوراً بالغربة بعد أن استحال كلّ شيء إلى بقايا وأطلال وكل ذلك يعكس الصراع السايكولوجي بين الذات والموضوع وبين الذات والآخر، ذلك الشعور الفادح نفسه وقد تجسّد في شخصية (دلال) التي بدت وكأنها إحدى شخصيات رواياته وهي تحمل الذاكرة القديمة والإحساس والوعي القديم الذي لا يجد صدى له في هذا الواقع الذي يعاني اضطراباً داخلياً ولم تجد سوى (هاني بارت) يمكن الإمساك به وإخراجه من هذا الجحيم والخراب ولم تكن تدرك بأنَّ قواعد اللّعبة أصبحت خارج المشاعر الحقيقية وخارج النسق القيمي وأجواء النقاء الرومانسي لاسيما وهي تعشق الروايات وتعيش في خيالها الذي لم يلوّثه الواقع المحتدم بالتناقضات، وحتّى السفر لم تفكّر به وحدها بل سعت لإنقاذ الآخر المتمثّل بشخصيّة (بارت):

“- سأسافر ؟     /  هذا متوقع      / لن أكون وحدي هذه المرة

- تقصدين الشوك  ؟   أقصدك أنت يا هاني

لم يجب وربما لم يكن يتنفس أيضاً، فسألته :

- ما بك ألا ترغب في أن تكون معي

- لا أرغب في أن أصدّق .

- لا تصدق ولكن وافق، أعرف أنّك الوحيد الذي لا يخذلني

- واعرف أنك لست مجنونة، فكيف؟ ومتى ؟ ولماذا؟ اتخذت هذا القرار .

- عزيزي .. انظر إلى نفسك كم تغيّرت، من عبثي حد الجنون إلى رجل رصين تدعوه امرأة مثلي إلى السفر لرفقتها ويرفض .

- هول المفاجأة جعلني مرتبكاً ، لا أعرف ما أقول سوى إني موافق .

- هناك شرط واحد فقط.

- سأنفذ قبل أن أعرف

- تحضر لي العم غائب بأية طريقة، هذا مهري ، مخطوطة رواية بنات غائب طعمة فرمان، لا تكتمل إلاّ بحضوره الروحي .

- نعم ؟!   /  - فقط “.

 ولعلّ الإشارات الموحية في هذا الحوار الدرامي وفي اللّحظات الأخيرة بين (دلال) و(هاني) تكشف عن الحلّ الذي يتجسّد بالحب ومغادرة المكان إلى جانب الشرط الآخر والأخير، وهو حضور (العم غائب)، ولعلّ الشرطين يقتربان من الاستحالة، لا عودة لغائب ولا مساحة تتقبل الحبّ بصيغته الجميلة والنقية؛ وينتهي الأمر باتّهام (هاني بارت) وسوقه إلى أجهزة التحقيق وهو يقف أمام الحطام أو بقايا تمثال غائب.

وليس من المستغرب أن نجد كثيراً من الشفرات والإحالات والإيحاء التي عبّرت عنها الرواية لتقديم صورة بانورامية لواقع ينتمي إلى العبث، ويذكّرنا بمنطق مسرح العبث لتنافر أجزاء اللّعبة وفداحة التصادم بين القيم المتضادّة والقطيعة بين زمن وآخر.

ومن معطيات هذا الاشتغال الجمالي وتوظيف مستويات عديدة لتعميق المعنى الكلّي للرواية، نجد جانباً آخر لا يقل ثقلاً أو أهمية يرتبط بالسعي الضمني للرواية وسعيها أساساً إلى الاحتفاء بغائب على وفق استعادة سردية ولعبة ذهنية، وكان هذا الاستحضار ينطوي على تضمين النسق السيري وحياة (غائب) ومكابداته وابداعه واغترابه وهجرته مع تسليط ضوء على شخصياته وتحولاتها حتى وصل التماهي معها في تحوله إلى شخصيّة (فرمانية) وبدأ يعاني إحساساً مضاعفاً بالغربة، الغربة عن نفسه وعما خلقه من عوالم وغربة عن الأمكنة التي وصفها وعاشها لكنّه لم يجد لها أي وجود محسوس في عودته الافتراضية. ولعلّ روايات (غائب طعمة) قد كشفت عن اهتمامه وتعاطفه ووصفه لنماذج من المرأة المستلبة التي تعاني القهر بكلّ أبعاده اجتماعياً وسايكولوجياً وطبقياً، ولذا كان الافتراض بوجود رواية لم تكتمل فكانت هي الأخرى تهتم بالمرأة فأصبح العنوان الذي يحمل دلالة عميقة هو (بنات غائب طعمة فرمان)، وفي ظني أنَّ الذي أراده (الزيدي) ليس على مستوى الحقيقة، إنما على مستوى التورية، فالبنات في العنوان تعني (بنات أفكاره) أي شخصياته، وليس من المستغرب القول إن شخصيّة (دلال البيرقدار) تشبه تماماً شخصية (تماضر) أو (سليمة الخبازة) أو (مظلومة)، ولابدّ من الإشارة إلى أنَّ (غائب) يمثّل الأمل المفقود الذي ينتظره الجميع ولم يأتِ، ولعل في اسمه ما يشي بالغياب فهو محسوس في كل الرواية ولكنه غير ملموس فلم يظهر حتى نهاية الرواية، لأنّه مفقود مثل الأمل. استطاعت الرواية عبر النسق الفانتازي أن تقدّم مسألة ذهنية تكشف عن القبح والخراب في ظل واقع مأزوم يرتكز على صراع المتضادات وتباين القيم والتوجّهات.

عرض مقالات: