اخر الاخبار

من منطلق الاستهلال تضعنا رواية (بنات غائب طعمة فرمان) الصادرة عن منشورات مسكلياني، تونس 2023 للروائي خضير فليح الزيدي إزاء عوالم متعددة تنطوي على لعبة سردية يستوحي من خلالها سيرة وأعمال وشخصيّات غائب طعمة فرمان على وفق متن حكائي افتراضي يتّخذ من النسق الفانتازي وسيلة للكشف والحفر في كثير من الثيمات والرؤى والاستحضارات والتناصّات والإحالات يستدعي فيها الكاتب أجواء (روايات) غائب نفسها إلى جانب التعمّق في سيرته ومواقفه ومكابداته في الإغتراب والهجرة واحباطاته الأخرى التي جعلته يشبه مصائر أبطاله التي تشي بالانكسار، وتبدأ اللعبة السردية في استهلال يكشف لنا عن أجواء مجلس عزاء يقام له:

“على حائط المسجد عُلقت لافتة قماش سوداء، خُطَّ عليها: “يشارك أبطال الروايات العربية ابناء عمومتهم من ابطال الروايات العراقية الثماني في هذا المصاب الجلل لموت مؤلفها غائب طعمة فرمان، سائلين المولى المغفرة والرحمة لروح الفقيد”، والحق أنه لا يوجد فقيد ولا وفاة مسجّلة رسمياً ولا هم يحزنون، فقد أشبع المؤلف موتاً، وهذا هو جوهر القضية، فكيف يقام على امتداد ثلاثة أيام مجلس عزاء رسمي على روح المغفور له السيد كاتب الروايات البغدادية (غائب طعمة فرمان بن رزوقي) مجلس بهي حضره وجهاء أحياء الرصافة القديمة ومختارو القطاعات وموظفون كبار وكتّاب القصص وأصحاب المكتبات ودور النشر وباعة الصحف الجوّالون”.  وهذا الاستدعاء او الاستحضار الفانتازي لشخصيّة الكاتب شكّل نقطة البدء للتوّغل في عوالم افتراضية لمتابعة وجوده وفق منطق الاستدعاء وخلق بنية سردية – درامية للجمع بين شخصيّات عاش معها وعاصرها مثل شخصيّة (تاجر القطن عبد الرزاق البيرقدار) الذي كان يهيء له غرفة في المصنع لكتابة رواياته فيها وقد عرف التاجر بحبّه للثقافة والأدب ومصاحبة المثقفين، وتوغّل الكاتب كثيراً في تضخيم لعبة الاستحضار فأوجد لقاء وحواراً وتواصلاً بين غائب وبين شخصياته مع فرضية ما حدث لها بعد مرور عقود من السنين مثل شخصيّة (سليمة الخبازة) و (حمادي العربنجي) و (تماضر) و (حسين) و (مصطفى) و (صاحب البيسكلجي) وغيرها.

عبر هذه الفرضية الفانتازية كان لابد أن تتوّج اللعبة وترصد كثيراً من الظواهر التي تعبّر عن المفارقة والتناقض وحجم التحوّلات والتقلّبات التي حدثت، ووسمت بطابعها كلّ جوانب الحياة وتشكّلاتها سياسياً وسيوسيولوجياً وسايكولوجيّاً وثقافيّاً وطبقياً، بدأ الروائي يمسك بخيوط البنية أو المبنى الحكائي لجمع المتناقضات والكشف عن المفارقة في التحوّلات وبطريقة الاستدعاء ومسرحة الأحداث والتصادم بين الشخصيّات الحقيقية والشخصيّات المتخيلة، ويتعمّق في رسم ملامح البناء الفني الذي يمزج الحقيقة بالخيال والحاضر بالماضي والذاتي بالموضوعي ويقدّم رؤية لمساحة التناقض بين عوالم الكاتب ورواياته وبين حركية وأزمة الواقع ولذا يلجأ إلى قصديّة استدعاء الأحداث في سنوات 2006- 2007، التي شهدت فوضى واضطراباً بنيوياً في المجتمع العراقي نتيجة إفرازات الواقع السياسي العاصف والدراماتيكي بعد الاحتلال؛ ووضع (غائب) وشخصيّاته مبثوثات سيرته الذاتية هو الذي أدّى إلى خلق عوالم التضاد والتناقض وتعميق روح المفارقة التي تكشف تصادم القيم والتداعيات فهو تصادم بين الماضي والحاضر بين الحقيقة والافتراض بين فعل الاستدعاء وفعل التأويل وفعل الكشف الجديد القائم على فرضية هذا الاحتدام الكلّي بين الثنائيات المتضادة.

وسعى الكاتب أن يقدّم رواية تحمل نكهة (فرمانية) في مجمل أجوائها وفرضياتها وشخصياتها وقدّم النسق الفانتازي بشقيّه العجائبي والغرائبي والفرق أن النمط الأوّل يقوم على فعل يخرق قوانين المنطق والواقع ويستحيل حدوثه، مثل حضور غائب ونزوله في – مطار بغداد والتحقيق معه من قبل أجهزة أمنيّة. أو وجود بعض الفرضيات الغرائبية التي تنطوي أيضاً على خرق المألوف لكنّها تنتمي إلى النسق الغرائبي محتمل الحدوث وفق المنطق الواقعي مثل شخصيّة (هاني بارت) بكل مواصفاتها السلوكيّة والثقافية والتي تنتشر بين أوساط المثقفين وأجواء وطقوس شارع المتنبي.

وتصبح رواية (بنات غائب ....) هي نوع من الشهادة على الحاضر ومحاكمته وفق المساحة التي حدثت ووفق التحوّلات التي غيّرت معالم الواقع بعد أن كانت شخصيّات الكاتب أليفة ومألوفة أصبحت هي الأخرى تعاني اغتراباً للمتغيرات الهائلة التي استجدّت وجعلتها تنتمي إلى واقع آخر مختلفاً تماماً.

من هذه القصدية الفنيّة والسردية انطلق الكاتب نحو تأسيس بنية فانتازيّة للكشف عن القطيعة بين الحاضر والماضي، والقطيعة بين القيم الكميّة والقيم النوعية والتضاد بين الفكر والواقع والسلوك العياني البراغماتي وتهويمات النسق الأدبي وقيمه.

ولعلّ العتبة التي ثبّتها الكاتب قبل الشروع بالمبنى السردي تحمل إشارة إلى السعي لإعادة اكتشاف غائب وعوالمه ومرحلته التاريخية كنوع من النزعة التوكيدية ومجابهة النسيان، وأن التناقض الذي رصده (غائب) في رواياته ينطلق أو ينبعث من جديد.

يذكر الكاتب في عتبة ما قبل البدء، مقولة تعود لغائب نفسه مما يعمّق دلالة الإحالة:

“يموت الكاتب عندما يُنسى... غائب”.

وكان لابد للروائي أن يوغل في لعبة الاستحضار وخلط وقائع الماضي والحاضر والارتكاز على فرضية أو بؤرة التناقض الذي يمثّل أحد موّجهات السرد والبناء الفني لكلّ مكونات السرد من شخصيّات وأمكنة وأحداث وأزمنة تسعى إلى إيجاد أو استحضار أجواء ترتكز على مسرحة الأحداث وخلق أجواء التداخل بين الشخصيّات والقيم والأجواء والتداعيات، ومن خلال نسق درامي ينطوي على تشويق وإثارة وملمح بوليسي لاسيما محاولة البحث المضني عن شخصيّة غائب من قبل (المحامي جبر الشوك) و (دلال البيرقدار) و (الكاتب المغمور هاني بارت)، وكذلك الغموض في تحطيم تمثال غائب في نهاية الرواية، ويمكن رصد كثير من الظواهر الفنية والتقنيات السردية التي كان لابدّ أن يلجأ إليها الكاتب للامساك بخيوط اللّعبة وإضفاء التنوع والتعدد ومستويات التوظيف في مجمل المسار الذي رسمه للمبنى الحكائي.

وما يلفت من هذه الظواهر لجوء الكاتب إلى كتابة فصول قصيرة مختزلة لضمان التصاعد الدرامي وعدم الاستغراق في الاسترسال الفائض ووسم كل فصل بعنوان فرعي لكن العناوين كانت تنتمي إلى استعارة الجمل والتوصيفات التي تستعمل في وصف حالة الاجواء والطقس وهي إشارة سيميائية للدلالة على التبدّل والتقلب في أجواء ومراحل التاريخ والانقلاب الزمني والقيمي وقد حملت الفصول هذه العناوين على سبيل الذكر لا الحصر (رياح نشطة مصحوبة بزوابع نفسيّة) و (غبار يتصاعد) و (نبوءة بمنخفض جوي خطير) و (غيوم قطنية) و (انخفاض طفيف في درجات العاطفة ليلاً) و (اكتمال القمر هذه الليلة) وغيرها من العناوين التي تحمل مثل هذه الدلالات للكشف عن التحوّلات التاريخية ووصف الحالة الشعورية والنفسية التي تكابدها الشخصيّات، فبعد فرضية حضور الكاتب غائب إلى بغداد، تبدأ الأحداث تتصاعد وتتشابك:

“لقد عاد الرجل – الغائب الحي – من المهجر بعد سماعه خبر موته المزعوم في الإعلام، وعندما اقيم له مجلس عزاء في مسجد الرحمة، حضر نخبة من أبطال رواياته من أبناء (المربعة) للتأكّد من موته لا من حياته، كما غاب ابطال مخطوطته الأخيرة غير المكتملة (بنات غائب طعمة فرمان) وحسب رواية المحامي جبر الشوك، كان قد تركها على طاولة الكتابة في غرفة المصنع وغادر البلد، وغرفة المصنع هذه هي المكان الذي كتب فيه معظم رواياته”.

وبذلك وظفّت الرواية ملمحاً من ملامح (الميتاسرد) بوجود مخطوط افتراضي لرواية أخيرة للكاتب تحمل عنوان رواية خضير الزيدي نفسها، لم يتسنَ له انجازها، ولابدّ من شخصيّات (دلال البيرقدار) و (المحامي) و (هاني بارت) من البحث عنها وعن وجود الكاتب وتلك هي العقدة الدرامية أو البؤرة السردية التي صاغها الكاتب لمواصلة اجواء الافتراض الفانتازي وتأسيس سنن الاستدعاء والاشتغال على التناقض والمفارقة والسخرية أو الاقتراب من التشويق البوليسي والكوميديا السوداء حين قررت (دلال) إحدى بنات (عبد الرزاق البيرقدار) أن تبحث عن وجود (غائب) وتسليمه المخطوط الأخير الذي تركه وكان يعمل معها ويقوم بخدمتها المحامي (جبر الشوك) الذي يستعين بالمثقف المهمش هاني بارت في مهمة البحث، لصلة قرابة به، وتتحوّل الرواية في أحد مستوياتها إلى روايات نسق التحرّي والتنقيب وما يرافقه من أحداث متشابكة ومن مفارقات ومصادفات وتقابلات وتقاطعت.

وقد حضرت (دلال البيرقدار) لمتابعة هذه المهمّة مع إيحاء آخر بوجود صراع بينها وبين اخواتها على إرث (البيرقدار): “بعد اسبوع واحد فقط كانت دلال البيرقدار تنزل بكل ثقة وشموخ من الطائرة التي حطّت في مطار بغداد، ولا عجب أن تشمخ وهي الملقبة بـ(قمر الرصافة) وأنسب ما تُشبه به (سجادة كاشان) فارسية لا يبليها الزمن ولا يخضعها لسطانه”. وكان السبب في حضورها إلى بغداد، وقيامها بالبحث عن روايات عرفت بأنّها كانت تعشقها ولقّبت بعاشقة الروايات إلى جانب أمور اجتماعية أخرى، “وعقب حلول دلال ببلدها بعد غياب طويل كان لزاماً عليها انجاز الأمرين المذكورين في برقية المحامي جبر الشوك، تصفية ما بقي من أملاك متفرقة في شعاب بغداد القديمة من جهة صوب الرصافة الضارب في القدم، وملاقاة الروائي غائب طعمة فرمان، لكن لم يذكر في البرقية أنها كانت تود تسليم الروائي الشيخ مخطوطة احتفظت بها طوال سنوات غيابه بوصفها أمانة”.

وتبدأ الأحداث وهي تتصاعد في مسارات متباينة فهناك عملية البحث عن الروائي (غائب) وهناك (المخطوط) الذي يجب التأكد منه وتحريره من جديد وهناك الصراع بين بنات (البيرقدار) حول الإرث ومشاكل التركة.

ووسط هذه المسارات نجد شخصيّة (غائب) وقد تحولت إلى محور مركزي يحرّك ويغذّي هذه المسارات ويضفي عليها نوعاً من الهيمنة والحضور بوصفه الغائب الحاضر والبطل السردي الذي تتمركز حوله الرواية بكل مساراتها وفرضياتها ورؤاها.

ونلحظ أنّ شخصيّات رواية (الزيدي) هي الأخرى تكتسب حضوراً وكأنها تبعث في زمن آخر وقد خرجت من متون الكتب إلى أرض الواقع المحتدم، وليس من المستغرب أن تتضمن الرواية كثيراً من الأفكار والإيحاء والانزياح والتأويل نتيجة هذه المفارقة الزمنية واللّعبة في تحريك الحاضر باتّجاه الماضي وتحريك المتخيّل باتّجاه الواقعي وتحريك دلالة اليومي باتّجاه التاريخي، فالتناقضات التي حملتها أعمال (غائب) بكل أبعادها التاريخية والسياسية والسايكولوجية والطبقية تراكمت وتصاعدت مع انحراف حركية الواقع لتتحوّل إلى واقع رث ومشوّه تجسد بسنوات الاحتراب الداخلي وتهشيم السلم الأهلي، وهذه الدلالة تتعزز حين اختار الكاتب أحداث روايته متزامنة مع هذا التصاعد الاحتدامي السلبي، وبدت الحياة تشبه أجواء (طولة أحمد آغا) ولم يعُد هناك (جيران) ولا (نخلة) سوى مخاض يومي يعكس تقاليد العنف والموت المجاني، وتبعثر القيم وانهيار المثل والأخلاقيات القديمة، وهذه التخريجات على مستوى تحريك الأفق الدلالي للمعنى كانت نتيجة للإنزياح الذي أحدثه النسق (الفانتازي) في الكشف وتعرية الواقع اليومي والنسغ التاريخي المتراكم.

عرض مقالات: