اخر الاخبار

إدارة الديمقراطية ليس “فكرة مثالية” تماما، فهي ليست بعيدة عن إدارة السلطة، ولا عن قدرتها في إخضاعها للأطر التنظيمية والتمثيلية، لكنها تبقى شكلا لنظام انساني، وسياسي واداري، يمكن أن يضبط مسار السلطة، وأن يُكبِح بعض مركزيتها..

هذا الأمر يتطلب وجود سلطة نظيرة، وهو الدستور، لأنه سيكون “قانونا عاماً” وفيه من الضمانات القادرة على إنجاح الممارسة الديمقراطية، وعلى ايجاد علاقة تشيرعن هوية السلطة، وتأطر عملها من خلال فواعل سياسية وثقافية واجتماعية، تُسهم في ضمان خيارات الإدارة والمشاركة في التبادل السلمي للسلطة، فضلا عن دورها في حماية مؤسسات النظام العام والمال العام والحق العام والشخصي، وفي ضمان التعايش والتكافل بين الجماعات والمكونات، وعلى نحوِ يضمن القوة على امكانية صيانة المشروع الوطني، وعلى وفق مراعاة الحاجات إلى المشاركة الجامعة، وإلى تحقيق الإشباع المادي والرمزي، فضلا عن النجاح في ادارة مؤسسات الهيمنة والأمن وضبط مسارات العملية السياسية، وإنجاع البنى الاقتصادية، وتحفيز الأطر الثقافية ذات البعد الاخلاقي والتنموي.

ما يجري في العراق- الآن- لا يرتبط إلا بذاكرة مواجهة تاريخ النُظم الاستبدادية، وسسيولوجيا والاستبداد، بوصف أن السلطة كانت هي المركز الحاكم للإدارة والقوة والأمن والثروة، وهذا ما جعل الحديث عن الديمقراطية “جديدا” وإلى اجراءات تفترض نوعا من “التمرين الوطني” في ممارستها، وفي الرهان على نجاحها في ادارة الاجتماع السياسي والعمراني، وبتوظيفها في إنجاح مشروع الدولة الوطنية، فهذا ال”مشروع” يواجه ازمة خطيرة، على مستوى التوصيف والتمثيل والتطبيق، فضلا عن هشاشة البنى المؤسِسة لهذا المشروع، وعن ضعف القوى الايجابية التي تملك أهلية العمل والتنظيم والتخطيط والتمكين، ومواجهة نتائج الفشل التاريخي والوضعي.

أنموذج تطبيقات الدولة الفاشلة، لا يرتبط بضعف التطبيق الديمقراطي، بل هو نتيجة لتراكم عوامل داخلية وخارجية، بعضها يرتبط بالأعطاب المؤسسية، واستشراء الفساد، وقوى اللادولة، فضلا عن وجود اشباح رهاب “الدولة القديمة” أي دولة الاستبداد والقمع، عبر وجود الجماعات الارهابية والانتهازية، والبعض الآخر يرتبط بعوامل الضغط الاقليمي والدولي، وبالأجندات والتحالفات التي تعمل على تعويق المسار، وعلى تغويل الأزمات، وإضعاف البرامج والمشاريع التي تخصّ مصالح الدولة وعلاقتها بمصالح العالم اقليميا ودوليا. 

الدولة وخطاب الاصلاح.

البحث عن مشروع الإصلاح هو هدف سام، يرتبط بجوهره بالبحث العملي عن فكرة الديمقراطية، وعن وجود الآليات التي تكفل عملية البحث والاجراء، مثلما تساعد على تحريك القوى الفاعلة، في سياق وعي مشروع الدولة، والايمان بمشروعيته وبمسؤولياته، وبالخطط العملياتية التي تتبنى برامجه، مثلما تقوم بالتعاطي العقلاني مع انساقه واستحقاقاته، بما فيه التعاطي مع بنى الأطر الحاكمة، على المستوى التشريعي/ القانوني، أو على مستوى الأطر المؤسساتية، وبما يضمن حيازة آليات التنمية، وعناصر التخطيط والتنظيم والتمكين، مثلما يضمن حيازة مشروعية القوة لمواجهة مظاهر استشراء الفساد واسبابها، وعبر تغذية ذلك بروح النقد، وبجدّية الموقف ووضوح الرؤية، بعيدا عن “صناعة الحرائق الوطنية” إذ أن تعريض الجسد السياسي الوطني إلى عوامل التفكك والانهيار، يعني تعريض مؤسسات الاجتماع الوطني والجماعوي إلى اضرار بنيوية، وإلى انهيار قد يُطيح بالتماسك الوطني، ويضع خطاب الاصلاح خارج التداول، وداخل ازمة الصراع الاجتماعي والسياسي، وبما يجعل منطق التحرر محكوما بعوامل ضاغطة، وبحيثيات تتطلب وعيا نقديا، يقوم على التصدي لكل مظاهر وسياسات إضعاف الانساق الحاكمة/ الدستورية، ولجماعات الفساد السياسي والمالي والاداري، فضلا عن مواجهة عوامل الضعف في ادارة وتنظيم أطر التعددية السياسية والاجتماعية والثقافية..

إن حسم الصراع الاجتماعي، يتطلب وجود عوامل فاعلة ومؤثرة، يمكن أن تثق بوجود العامل الثوري/ الشعبي، وبإطارية العامل الدستوري، لكن ذلك لا يعني القفز على الواقع الهش، ولا إلى تحويل هذا الصراع إلى صراع أهلي، بقدر ما يتحاج إلى حزمة من الفعاليات التي تبدأ بالحوار الوطني، وترسيم حدود عقد اجتماعي، لا تتقاطع فيه عوامل التقدم والتعايش، وباتجاهٍ يضمن مشاركة واسعة، وبضمانات قانونية، تمنع انزلاق القوى السياسية إلى الغلو، والتطرف، وربما إلى الصراع المفتوح، الذي قد يُهدد الديمقراطية غير المكتملة، ومشروع الدولة وفكرة الاصلاح، فضلا عن ايجاد المسوغات التي تدفع إلى نشوء جماعات عصابية، او اديولوجية، تتبنى خطاب العنف، وتعمل على تعطيل العمل بشرعية الدولة والدستور وشرعية التعايش، والقبول بالآخر..

التبني الثوري لمشروع الاصلاح لا يكفي لضمان مواجهة حقيقية مع مظاهر “الفشل الدولتي” والجماعات الفاسدة، بل يتطلب الأمر وجود ضمانات أكثر فاعلية، تلك التي تملك أهلية “ الشرعية الواعية” أي الشرعية الدستورية، ومسؤولية التواصل والرقابة، والتعاطي مع الجمهور الانتفاضي والتظاهري بواقعية، بعيدا عن تعويمات المخيال الثوري، وعن الأوهام المُضلِلة، والتي تم تسويق الكثير منها منذ عام 2003.

ترابط مشروع الدولة بفقه الاصلاح، يعني العمل على وجود ضمانات حقيقية، على مستوى تأطير  مفاهيم الحرية السياسية والمواطنة والشراكة المتساوية، أو على مستوى ايجاد آليات تتعزز فيها قوة الدولة الاتحادية، عبر القوانين، وسياقات العمل، بعيدا عن الإثرة والفرادة وضيق الأفق، وبما يجعل التعاطي مع الحقوق السيادية مرتبطا بفاعلية الدولة الفدرالية، وبالتنسيق مع الأقاليم التي يؤطر عملها الدستور والنظام الفيدرالي في الحقوق والالتزامات، وعلى نحوٍ يكون فيه خطاب الاصلاح هو الخطاب الجامع، مثلما يكون فيه الخطاب القانوني هو البيئة التي تتعزز فيها الحوارات الفاعلة، حول طبيعة “المسألة الديمقراطية” و”الهوية الوطنية” والحقوق الدستورية ومفهوم الدولة الاتحادية كما معمول به في العالم. 

التنمية والثقافة والدولة.

يعكس هذا الثالوث تركيبا منطقيا لفهم تأسيس مشروع الدولة، وإلى تمثيلها عبر المؤسسات والنُظم، وعبر الحقوق التي تجعل من التنمية هدفا وسياقا للعمل عبر الخطط والبرامج والمشاريع الستراتيجية، ومن الثقافة فاعلا في توسيع مديات الوعي بتلك التنمية، وعبر سياقاتها البشرية الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية والخدماتية، مثلما تجعل من الدولة/ المؤسسة هي القوة الجامعة التي تتعالق بها الأهداف الواقعية للتنمية والثقافة، وعلى نحوٍ يضمن إدامة فواعل التقدم والتحديث والتحضّر، وبما يُسهم في انضاج عوامل التحول من التخيّل إلى الواقع، ومن الشعب إلى المجتمع، وهي النقلات الكبرى للتحضّر، ولتأطير النجاحات الحقيقية للتفاعل ما بين التنمية والثقافة والدولة.

تقول الكاتبة الهندية يوتي سوكرهار “ تمّ إدراج الثقافة لأول مرة في جدول الأعمال الدولي للتنمية المستدامة، وذلك ضمن أهداف التنمية التي اعتمدتها الأمم المتحدة في سبتمبر 2015. ولقد ابتهجت اليونسكو بهذه الخطوة وحيّت هذا الاعتراف غير المسبوق”.

هذا الإدراج والاعتراف يؤكد اهمية الوظيفة الثقافية، ودورها في تحقيق اهداف التنمية المستدامة، وعلى نحوٍ يستلزم التكامل مع الفواعل الأخرى، والتي في ربط التنمية بالمدن الحضرية، أي خلق الفضاء الثقافي/ الحداثي الذي يمكنه استيعاب كل المشاريع والبرامج التي تدخل في مجال ربط التنمية بالمدينة، وبالتالي ربط التنمية بمشروع الدولة، أي عبر تحفيز مؤسساتها ومشاريعها، على مستوى البناء المجتمعي المتكامل، وعلى مستوى انضاج عوامل البيئة الحقوقية للمرأة والطفولة وللرعايات الاجتماعية والصحية والتعليمية، فضلا عن توسيع المجال التشغيلي الذي تتعزز فيه الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للتنمية المستدامة، ولمسؤولياتها في المحافظة على التراث الثقافي وفي تغذية القدرات الابتكارية.

الديمقراطي والتنوع الثقافي

من أكثر عناصر البناء الديمقراطي حيوية هو ايجاد البيئة الثقافية التي تُغذّي عوامل التحوّل والبناء، والدفع باتجاه تغذية مجالها التمثيلي في البناء، وفي الانتخابات، وفي صيانة عناصر التنوع والتعدد للمكونات العراقية، وزجهم  في المساهمة الجامعة، وضمن توجهات التفاعل مع واقعية مشروع الدولة، ومع السياسات الثقافية الساندة لها، وتشجيع الثقافات المحلية بوصفها ذات حمولات رمزية للموروث الوطني، وصولا إلى توظيفها في مجال انتاجي، يمكن أن يساعد في التعرّف على الثقافات المتنوعة، وعلى تنمية الدخل المحلي من خلال دعم برامج عملياتية للصناعات الثقافية..

إن الفشل في إدارة التنمية لا يقل خطورة عن الفشل في إدارة الديمقراطية، لأنه سينعكس سلبا على الفشل في إنضاج مشروع الدولة، وعلى تداولية خطابها السياسي والاجتماعي والثقافي والحقوقي، فضلا عن تمظهره عبر مظاهر الفشل، وتكرار “التجارب المرهقة التي استنزفت الموارد والوقت والهوية وأضرت بالأمن والتماسك فضلا عن عدم تحقيق الاحتياجات والأولويات الأساسية” كما يقول ابراهيم غرايبه.

إن نجاح الديمقراطية يرتبط بسلسلة من النجاحات الأخرى، حيث التنمية والتعليم والخدمات والمعرفة والعلاقات السياسية، وهو بمجمله لا يعني التلويح بتثبيت أسس ذلك النجاح، لا بمنع اعادة انتاج مظاهر أخرى للديكتاتوريات السياسية والعصابية، بل يعني من جانبٍ آخر، شروعا واقعيا ودستوريا نحو تأسيس وعي تداولي للسلطة، ومنع احتكارها، وحتى منع توصيفها بمحددات معينة، وضمان حقيقي ل”الفصل بين السلطات” والاعتراف بمدنية الدولة، لأن هذا الاعتراف يمنع التدخل العسكري والديني والطائفي والقومي بشؤون اداراتها، وبإجراءاتها في تحقيق العدالة الاجتماعية والسلم الأهلي، فضلا عن ضرورة الاتفاق على آليات قانونية ورقابية لإدارة “المال العام” على مستوى حمايته، واستثماره، وعلى مستوى تعظيم وارداته، وباتجاهات يتعزز فيها الأداء التنموي، وعلى مستويات متعددة، منها ما يتعلق بالعوامل الاقتصادية والثقافية والتقليل من هدر الثروات، ومنها ما يتعلق بالعمران والصحة والتعليم والمعرفة والتكنلوجيا، ومنها ما يتعلّق بتحقيق العدالة الاجتماعية، وكل ما يمسّ الحريات العامة، فضلا عن ضمان المشاركة، وعبر الأطر التمثيلية لديمقراطية للانتخابات، ولقوننة ما يكفل حريات التعبير والرأي والتمثيل الحقوقي للثقافات التي يزخر بها المجتمع العراقي.

إن تعزيز المسار الديمقراطي لا يمشي في “أرض براح” بل في أرض مفخخة، بالتاريخ والمصالح والعنف، وهو ما يعني العمل الجامع على تأهيل المؤسسة التشريعية، من خلال ايجاد أطر وشروط للانتخابات، وللذين يحق لهم الترشيح، بعيدا عن الشعوبية والعمومية، وصولا إلى بناء المؤسسة التنفيذية، وآلية اختيار الوزراء والدرجات الخاصة والمستشارين والخبراء، وبما يضمن بشكل واضح أهداف صيانة المشروع الوطني، ومواجهة الفساد الذي تضخمت مؤسساته العميقة- عبر القانون ومؤسساته الواضحة-، فضلا عن العمل على اعتماد التخطيط العلمي للمشاريع الكبرى، بما فيها المشروع السياسي، لتدارك أي فشل يمكن أن يحدث خلال مسارات العمل، فضلا عن اعتماد السياسات الناجحة في مواجهة مظاهر التضخم والعجز الاقتصاديين، وايجاد معالجات حقيقية، وعبر خطط تكفل معالجة مظاهر الفقر والرثاثة، والتغافل عن ظاهرة هجرة العقول، وعدم ايلاء ظاهرة تضخم الاستيرادات على حساب الصادرات اهتماما واقعياً، وهو ما يعني ضرورة المواجهة، وباتجاه العمل على وضع ستراتيجيات مضادة، وعبر سياقات وفواعل من الصعب عزل بعضها عن البعض الآخر في مجالات السياسة والاقتصاد والأمن والاجتماع، وحماية الأمن المجتمعي والأمن الثقافي، إذ يتطلب الأمر عملا رقابيا وتشييدياً، يتلازمان بكفالة الفعل الرقابي، وبتعزيز الفعل التشييدي.

عرض مقالات: