اخر الاخبار

واصلت وزارة أرشد العمري نهجها القمعي ضد الحركة الوطنية، مما أثار سخطا واسعا بين صفوف الشعب، الأمر الذي اضطر الفئة الحاكمة الى التظاهر بالتراجع، فجئ بنوري السعيد ليؤلف الوزارة في خريف 1946 في اعقاب استقالة أرشد العمري، قاطعا وعودا كثيرة بإطلاق الحريات واجراء انتخابات نيابية حرة، واستدرج للمشاركة في وزارته حزبي الوطني الديمقراطي والأحرار بناء على وعوده التي سرعان ما ظهر كذبها، اذ واصل سياسة التضييق على الحريات العامة والحياة الحزبية وزور الإنتخابات بهدف المجئ بمجلس نيابي يستطيع من خلاله تمرير معاهدة جديدة مع بريطانيا تخلف معاهدة 1930الإسترقاقية، التي طالب الحزب الشيوعي العراقي وحزب التحرر الوطني وعصبة مكافحة الصهيونية بإلغائها.

وفي عهد هذه الوزارة جرى إلقاء القبض على الرفاق فهد وصارم وحازم وجمهرة من كوادر الحزب القيادية، وسيقوا الى المحكمة. وكانت محاكمتهم مدرسة نضالية فضحت النظام الملكي وتبعيته للإمبريالية، وعرفت جماهير واسعة بالحزب الشيوعي  وأهدافه ونضاله البطولي في طليعة الحركة الوطنية الديمقراطية العراقية.

وبعد اكمال مهمته في تمهيد الجو للشروع في عقد المعاهدة الجديدة مع بريطانيا، استقال نوري السعيد وجئ بصالح جبر لتأليف الوزارة في ربيع 1947، التي استكملت الإجراءات التي افترضت الفئة الحاكمة انها كافية لتمرير مشاريعها المعادية للشعب. فقد الغت اجازة عمل الحزبين اليساريين: الشعب والإتحاد الوطني، واغلقت صحيفتيهما: “ الوطن” و” السياسة” . وانزلت احكاما قاسية بالقادة الشيوعيين، وكان من بينها حكم الإعدام على الرفيق فهد وآخر على ابراهيم ناجي احد كوادر الحزب، تم فيما بعد تخفيضه الى الأشغال الشاقة المؤبدة بعد الحملة العالمية ضده، خصوصا في بريطانيا وفرنسا.

وشرعت وزارة صالح جبر في اجراء مفاوضات سرية مع بريطانيا منذ آيار 1947. ومن سوء حظ صالح جبر ان العراق شهد في هذه الفترة أزمة اقتصادية طاحنة وصلت حد صعوبة الحصول على الخبز الردئ. لذا سميت الوزارة بوزارة الخبز الأسود.

وفي خريف 1947 شارك الوصي عبدالإله في مفاوضات سرية في لندن لإعداد صيغة المعاهدة الجديدة، استكملها وزير الخارجية محمد فاضل الجمالي بعيدا عن رقابة الرأي العام والأحزاب الوطنية. وكان الحزب الشيوعي منذ تشرين الثاني 1947 قد فضح أهداف وزارة صالح جبر ودعا الى اسقاطها.

وفي 3 كانون الثاني 1948 أطلق الجمالي في لندن تصريحا استفزازيا امتدح فيه معاهدة 1930، كاشفا الوجهة التي تعتزم الوزارة انتهاجها في عقد المعاهدة الجديدة. قوبل التصريح بالشجب والإستنكار، مما اضطر رئيس الوزراء صالح جبر لتكذيبه. وتظاهر الطلبة في كلية الحقوق يوم 5 كانون الثاني 1948 احتجاجا على محاولات الوزارة لربط العراق بمعاهدة جديدة لا تختلف عن معاهدة 1930 ان لم تكن أشد منها ثقلا على شعبنا.

وقمعت المظاهرة الطلابية بالعنف، واصدرت الوزارة قرارا عطلت فيه الدراسة في كلية الحقوق، واعتقل العشرات من الطلبة، واغلقت الأقسام الداخلية. فأضربت الكليات والمدارس الثانوية. ونظم الطلبة يوم 7 كانون الثاني 1948 مظاهرة اتجهت الى المجلس النيابي، واستثارت تضامن بعض النواب والأعيان مع مطلبها بإطلاق سراح الطلبة المعتقلين واعادة الدراسة في كلية الحقوق، واضطرت الوزارة للإستجابة لهذه المطالب يوم 8 كانون الثاني رغم ان نائب رئيس الوزراء كان اصدر بيانا قبله بيوم هدد فيه بأن “ الحكومة ستضرب بشدة كل من تسول له نفسه الإخلال بالأمن والسكينة” .

وكان صالح جبر قد وصل لندن على رأس الوفد المفاوض وانتهت المفاوضات يوم 10 كانون الثاني، لأن كل شئ كان مهيئا، ووقع بالأحرف الأولى مع وزير خارجية بريطانيا بيفن على نص المعاهدة.

وفي 15 كانون الثاني وقعت المعاهدة في ميناء بورتسموث حيث كان الوفد بضيافة البحرية البريطانية. واوصى صالح جبر بعدم نشر نصوص المعاهدة الا بعد اطلاعه على نص الترجمة العربية. ولكن جمال بابان وكيل رئيس الوزراء لم يلتزم بما طلبه صالح جبر ونشر نص المعاهدة يوم 16 من الشهر نفسه. فكان نشر النص بداية للتحرك الجماهيري بعد ان توالت احتجاجات الأحزاب على عقدها.

ـــ  لجنة التعاون الطلابي، التي لعب فيها الشيوعيون دورا فعالا، قررت اعلان الإضراب والقيام بمظاهرات سلمية مدة ثلاثة ايام اعتبارا من 17 كانون الثاني 1948.

ـــ في اليوم الثالث 19، توجهت مظاهرة طلابية الى المجلس النيابي، كخاتمة للفعاليات السلمية: الإضرابات والمظاهرات التي استمرت ثلاثة أيام.

ـــ  جمال بابان أصدر بيانا استفزازيا يدعو فيه الطلبة الى الإخلاد لدراستهم وترك الأمور العامة الى “ ممثلي الأمة وقادة الرأي والساسة.. وأن لا يلجئوا الحكومة الى أن تستعمل صلاحياتها .. حفظا للأمن وسلامة المجتمع “ !

ــــ  البيان استفز الطلبة وحملهم على تحدي السلطة واعلان الإضراب مجددا والقيام بمظاهرات يوم 20 كانون الثاني 1948.

ــــ الشرطة تطلق النار على المتظاهرين فيسقط في اليوم نفسه اربعة شهداء والعديد من الجرحى.

ـــ  في 21 كانون الثاني الشرطة تطارد الطلاب داخل المستشفى وتفتح النار فتقتل اثنين، احدهما طالب في كلية الصيدلة تناثر دماغه بفعل الرصاص الغادر.

ـــ عميد كلية الصيدلة ومعه اساتذة كليتي الصيدلة والطب ومديرو الأقسام في المستشفى الملكي وعددهم 110 أطباء يستقيلون احتجاجا على وحشية الشرطة.

ـــ الوصي يضطر لقبول اقتراح وكيل رئيس الوزراء بعقد اجتماع في البلاط لبحث الأوضاع، يضم أعضاء الوزارة ووزراء ورؤساء وزراء سابقين وقادة الأحزاب: الوطني الديمقراطي، والأحرار والإستقلال ونقيب المحامين نجيب الراوي.

ـــ كل الحاضرين تحدثوا ضد المعاهدة الا واحدا هو عبدالمهدي المنتفكي، الذي أسند المظاهرات الى الحزب الشيوعي العراقي.

ـــ الوصي يطلب من بابان الإتصال بصالح جبر وعودته فورا الى بغداد.

ـــ صالح جبر يسخر مما جرى في بغداد ويستنكر دعوة السياسيين لمثل هذا الإجتماع، ويتوعد سحق المعارضة لدى عودته الى العراق.

ـــ بعد الإجتماع صدر بيان يقول ان الوصي لا يوافق على عقد معاهدة لا يرتضيها الشعب ولا تحقق أمانيه الوطنية.

ــ واصل صالح جبر استفزاز مشاعر الشعب، وهو في لندن، وعزا اعمال الإحتجاج الواسع ضد المعاهدة الى “ بعض العناصر الهدامة من الشيوعيين والنازيين الذين اعتقلهم عام 1941” وأعلن أنه “ سيعود الى العراق وسيسحق رؤوس هذه العناصر الفوضوية حتما” ! . هاج الرأي العام وعادت المظاهرات تملأ شوارع بغداد.

ــ أحد وزراء صالح جبر ، وهو ضياء جعفر، أعد منشورا خاليا من التوقيع وزعته سيارات الشرطة يستهدف بث الفرقة بين القوى الوطنية المعارضة للمعاهدة ويزعم “ ان القائمين بالمظاهرات هم من الهدامين والصهيونيين والطائفيين ومن اذناب موسكو” !.

ــ يوم 26 كانون الثاني 1948 وصل صالح جبر بصورة سرية الى بغداد. وعلى ظهر مدرعات توجه الى قصر الرحاب، معنفا وكيله جمال بابان لأنه لم يكن شديدا في مقاومة معارضي المعاهدة. وأيده نوري السعيد بضرورة سحق المقاومة الشعبية.

ـــ وأعد صالح جبر بيانا للإذاعة في اليوم نفسه. وعقد اجتماعا في وزارة الداخلية تقرر فيه استخدام القوة لتفريق أية مظاهرة في بغداد وخارجها، أي اطلاق النار. ونامت بغداد وهي على فوهة بركان.

ــ وفي صباح يوم 27 أعلن العمال الإضراب السياسي وقرر الجميع بقيادة لجنة التعاون الوطني ( التي ضمت الشيوعيين وأنصار حزب الشعب والجناح التقدمي للحزب الوطني الديمقراطي بقيادة كامل قزانجي والحزب الديمقراطي الكردي) ولجنة طلبة الكليات واللجنة العمالية في الحزب الشيوعي ، قرروا التظاهر في اليوم نفسه. وأصبحت بغداد في ذلك اليوم وكأنها ساحة حرب. إذ توزعت الشرطة لتحتل الشوارع ومداخل الطرق الفرعية ووضعت الرشاشات فوق البنايات العالية وعلى مآذن الجوامع على طرفي جسر “ مود” ( الشهداء) وراحت سياراتها المصفحة تجوب الشوارع.

ورغم ذلك خرج العمال والطلاب وانضمت اليهم جموع غفيرة من أبناء الشعب في مظاهرات صاخبة تطالب بإسقاط الوزارة والغاء المعاهدة. وجابهت الجموع رصاص الشرطة بعزيمة لا تفل. واصدر صالح جبر بيانا آخر يؤكد فيه اصراره على استعمال العنف لمواجهة غضب الشعب. وأصدر وزير الداخلية توفيق النائب أوامره الى متصرفية بغداد والى قوات الأمن بأن يصوبوا النار الى الصدور وان يحصدوا الأرواح حصدا. ويطلب من وزارة الدفاع اسعاف وزارة الداخلية بوحدات من الجيش لمساعدة الشرطة في مواجهة المتظاهرين. الا ان رئيس اركان الجيش صالح صائب الجبوري عارض ذلك.

ـــ مظاهرات صاخبة في الموصل والنجف وكربلاء والبصرة والناصرية والعمارة والحلة والكاظمية وبعقوبة وكركوك والسليمانية .

ـــ الجسر “ جسر الشهداء “ يشهد بطولة نادرة، فقد أراد المتظاهرون في الكرخ الإلتحام بإخوانهم في جانب الرصافة ، غير أن الشرطة، التي أحتلت مآذن الجوامع على جانبي الجسر، أصلت المتظاهرين بنار حامية اضطرتهم على التراجع. وفي هذه اللحظة المثيرة انطلقت فتاة شجاعة مقتحمة الجسر وتبعها المتظاهرون الذين أرعبوا بعزمهم الشرطة التي ولت هاربة.

ـــ نوري السعيد طالب بإعلان الأحكام العرفية ومنع التجول.

ـــ عشرون نائبا في المجلس النيابي استقالوا بمن فيهم رئيس المجلس احتجاجا.

ــ محمد الصدر طالب بإستقالة الوزارة “ لأن ثلاثة من اعضائها استقالوا .. وزمام الأمور يفلت من يد الحكومة” .

ــ الوصي اقتنع برأي الصدر بعد أن كان منحازا الى رأي السعيد.

ــ صالح جبر حاول التمسك بالسلطة وزعم أنه “ يريد انقاذ البلد من الفوضى قبل كل شئ” ولكنه اضطر تحت ضغط الإحتجاج الشعبي الواسع وخوف غالبية الفئة الحاكمة وعلى رأسها الوصي من تطور الأحداث الى تقديم استقالته وفر هاربا تحت جنح الظلام، الى منطقة الفرات الأوسط ومنها الى لندن.

ـــ الوصي أعلن استقالة الوزارة وطلب الخلود للهدوء والسكينة.

ـــ وكانت حصيلة المعارك النضالية، التي خاضها الشعب لإسقاط المعاهدة والوزارة التي أرادت فرضها على الشعب بالقوة، عشرات الشهداء ومئات الجرحى.

ــ وكانت الوثبة أروع انتفاضة شعبية عرفها تاريخ العهد الملكي.

ــ وقد مجد الشعب شهداءها أعظم تمجيد. وسمي الجسر الذي شهد أروع معاركها بجسر الشهداء قبل أن يحمل هذا الإسم رسميا بعد ثورة 14 تموز 1958 المجيدة.

عرض مقالات: