اخر الاخبار

الطارؤون عبر التاريخ غالبا ما تكن نهايتهم تراجيدية لأنهم خرقوا مألوف المجتمع مباشرة، كتعبير عن عزلتهم وضعف علاقتهم بالواقع، فالذي ليس لديه جذور راسخة معروفة ومجربة، لا يسعه أن يفرض واقعا جديدا بعيدا عن السياق العام.  

فالرجل ليس سياسيا أصلا في أكبر بلد مؤثر عالميا، كما انه ليس عضوا بالحزب الجمهوري الذي امتطى صهوته، ولكنه فاز في عام 1917 على هيلاري كلنتون، هذا ما يعكس هشاشة العمل السياسي بمعنى أن الشعبوية جاهزه لاقتناص الفرص في ضوء تراجع العقد الاجتماعي والمبادئ الأساسية للدستور.

فاليمين الامريكي يدعي دائما أنه رائد اللبرالية عالميا ويصدرها أو يفرضها بكل حماس، ولكن في حقبة ترامب خرجت امريكا من 12 اتفاقية دولية أبرزها اتفاقية التجارة الحرة برفع الرسوم الكمركية والخروج من اتفاقية المناخ وبناء السياج لعزل المكسيك اضافة الى جداول العقوبات على كل ما يخالف السياسة الرسمية.   

هذا الانغلاق لا يعبر عن ليبرالية حقيقية بل يعبر عن ازمة اقتصادية واجتماعية، تتقاطع مع أبسط أسس اللبرالية، هذه الأزمة هي انعكاس لما افرزه التفاوت الطبقي.  

لنا ان نتصور، ان 40 % من الامريكيين لا يملكون مبلغ (400) دولارفي حساباتهم الشخصية لمواجهة طوارئ الحياة، كما يذكر الروائي الامريكي بول اوستر هذه الحقيقة المفزعة. وتجسد هذا التفاوت الطبقي رغم أزمة كورنا أن ثروات المليارديرات نمت بأكثر من الربع خلال الشهور الأولى لتفشي الوباء بحيث وصلت 102 ترليون في تموز محطمة الرقم القياسي السابق وهو 89 ترليون في نهاية 2019 (عن دراسة أعدها البنك السويسري وشبكة بي دبل يو للخدمات المهنية، عن جريدة الصباح العراقية ليوم 10/10/2020). 

لا شك ان تاريخ الرأسمالية موسوم بالأزمات الدورية كما حددتها الماركسية وهذه طبيعة رأس المال ليصل الى تدمير الطبقة العاملة لتدفع الثمن بطالة وغلاء، فقد كشفت كورونا عن هشاشة الانظمة اللبرالية ليس في امريكا فحسب بل اوروبا أيضا والبرازيل، في حين تماسكت الدول ذات الأنظمة غير اللبرالية. وعكست كورونا جشع رأس المال وأزمته الاخلاقية تجاه كبار السن وشريحة الفقراء ممن ترك كثير منهم في ممرات المستشفيات وهم يلفظون انفاسهم الأخيرة وحيدين مستضعفين. هذا في ظل اللبرالية بكافة تجلياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. 

وهكذا تمخضت هذه التجليات في امريكا أن يصعد طارئ على العمل السياسي كونه مليارديراً دغدغ مشاعر شريحته بخفض الضرائب عليهم ليشتغلوا وينشطوا ليمتصوا بعض البطالة بطريقة شعبوية تحت شعار امريكا أولا وما يحتويه هذا المبدأ من تفسيرات اقلها عنصرية. لتصبح البطالة مجرد ورقة سياسية اثمرت كما تجلت في الانتخابات الاخيرة بحيازة ترامب على أكثر من 70 مليون صوت وهذه نسبة لا يستهان بها سياسيا وثقافيا واجتماعيا. فالرجل كما تذكر الواشنطن بوست أنه كذب وضلل 16200 مرة. هنا المفارقة التي تؤدي اشكالية أخلاقية لدى سبعين مليوناً وما زال يعاني من مشاكل العنصرية وهشاشة نظامه الصحي وازمة الذين ليس لهم مأوى اي (الهوم ليس). 

هذا الدرس يعنينا وهو يتجسد كاشفا عن نفسه في أعظم دولة بكل المقاييس، نستخلص من هذا ما يلي:

 أولا: إن الطارئين يقتنصون الفرص رغم أنهم لا دور لهم في إنضاج أو حصول الفرصة، وعلينا ان ندرك انهم يواصلون نصب الفخاخ للفرص حتى بعد ان يكون الزمام بيدهم حيث يلتف الزبائن والأقارب، كما قرب ترامب صهره كوشنير لحل ازمة الشرق الاوسط كما تجسدها القضية الفلسطينية.

ثانيا: يترتب على ذلك أن الزبائن عادة أي الحلقة الضيقة طاردة للجديد خصوصا إذا كان ينتقص من مصلحتهم أو امتيازاتهم كما حبذت حلقة ترامب الاستهانة بالكورنا لتصبح أبرز الاسباب في أفول نجمه.   

ثالثا: نفوذ قوي يترتب على صعود الشعبوية هم عادة المتنفذون ماليا الذين ارتفعت مداخيلهم رغم الأزمة بشكل قياسي أي انهم ببساطة يغوون البطانة أو حلقة القرار ونلاحظ تراجع بعضهم من المضي بهذه السياسة من المحترفين المهنيين من قيادات عسكرية او مدنية أو الذين لا يرغبون بالمجازفة بمستقبلهم المهني والسياسي. 

رابعا: إن أغلب البطانة وحلقة القرار ليس لهم مبدأ خارج مصالحهم ونرى عكسهم في المهنية والمصداقية كما جسدها كبير مستشاري ترامب في الشأن الصحي د. فاوجي لم تستطع الزبائنية احتواءها.  

خامسا: إن الرأسمالية عندما تصل الى التخوم هذه تحصل مراجعة عادة للدروس للاستفاده من مفكرين محترمين مثل نعوم شومسكي واقرانه لغرض ترقيع المؤسسة وتهيئتها لجولة أخرى ليبقى الفقر والتفاوت في الحدود الدنيا القابلة للسيطرة عليه وهكذا الا بعد عملية تراكم في المظالم يواكبها زخم ثقافي وتجديد في ظل ما تفرزه التكنولوجيا الرقمية وما تقدمه التجربة الصينية التي انتقلت من الدفاع الى الهجوم الناعم كما نلمسه يتحرك في طريق الحزام والحرير. 

نختم بأن درس ترامب هو جوهر الرأسمالية المتوحشة بلا مبادئ ولا عهود أو مواثيق ولا يمكن المراهنة عليها وقت الضيق اذ تتحول كل هذه العهود الى ورقة سياسية عادة، أي بدون بعد نظر الذي بموجبه كتبت المعاهدات.   وهذا ما ينعكس ليستنسخ في تجارب البلدان النامية المرتهنة لسياسات صندوق النقد الدولي وباقي المؤسسات التي تدور في فلكه.  

لذلك كان التورط مع الرأسمال العالمي كما يتصور البعض من أن امريكا طورت المانيا واليابان وفرنسا وبريطانيا، كلا ان كل هذه الدول لديه بنية تحتية وثقافية يصعب اغواؤهم كما أن الضغط السوفيتي آنذاك المهدد لهم كان سببا في مشروع مارشال وزير الخارجية الامريكية آنذاك. 

فدرس ترامب كان قاسيا على الشعب الامريكي بانقسامه بين رؤيتين ليس بسيطا كما أنه أي ترامب استعمل العقوبات سلاحا دفعت شعوبا كثيرة قبل الحكومات ثمنه. درس يقول إن المراهنين على الرؤية المعلبة فقط أن يروا جيدا التعصب ومآله والمراهنة على الطارئ الى أين أدت من نتائج لا يتشرف بها العاقل او الحصيف الحكيم.

عرض مقالات: