اخر الاخبار

منذ ان تأسست الدولة العراقية عام 1921، كانت بريطانيا تسعى لأسباب عديدة لمنح صفة قانونية وشرعية للزعامة العشائرية، وكان نتيجة ذلك أن أصدر الحاكم البريطاني العام الجنرال ارنولد ولسون عام 1918 قانون دعاوى العشائر  المنقول عن قوانين هندية، والذي منح بموجبه لشيوخ العشائر سلطة القضاة ومهمة الجندرمة، وذلك لزيادة ولائهم للتاج البريطاني، ولحماية طرق تموين الجيش البريطاني، وكانت لسراكيلهم سلطة الاعتقال ولحواشيهم سلطة التنفيذ، وقد سارت الحكومات المتعاقبة في العهد الملكي على توسيع قاعدة الإقطاع من خلال التوسع في توزيع الأراضي الزراعية وتسجيلها في دوائر الطابو، على حساب جمهرة الفلاحين. وكانت نسبة 80 بالمئة من الأراضي الزراعية بيد الأقلية الإقطاعية ليلة الرابع عشر من تموز عام 1958. وقد دشن الدستور العراقي الصادر عام 1925 العهد الاقطاعي بالنص على ان يكون 25 بالمئة من أعضاء مجلس الأعيان من شيوخ العشائر يعينهم الملك بإرادة ملكية، مبشرا بموجبه بقيام دولة المشيخة ، أو (دولة العشيرة ). وكانت الاغلبية الساحقة لنواب مجلس الأمة من الاقطاعيين بالدرجة الأولى ومن كبار التجار ومن الجنرالات المتسللين عن مدرسة الاستانة العسكرية . ولم يكن للمواطن العادي من الفلاحين والعمال والحرفيين بل والمثقفين أي تمثيل يذكر في البرلمان، وحصيلة ذلك صار الرأسمال الاقطاعي الناتج عن استغلال جهد السواد الأعظم من السكان وهم من الفلاحين آنذاك ، أيضا ليلة الرابع عشر من تموز بيد قلة قليلة من العائلات التي صارت تسيطر على الشركات والبنوك وتملك الثروات الهائلة، وقد تولد في الطرف المناوئ جراء هذا الاستحواذ السياسي والاقتصادي حقد طبقي على ملاك الاراضي القلائل أو اصحاب النفوذ المعززين بالمال والسلطة المدعومين من قبل دولة الانتداب، وقد تجلى هذا الحقد الطبقي في حركات نقابية او نشاطات طلابية يقودها الحزب الشيوعي العراقي وحلفاؤه في بعض الحركات الوطنية الاخرى، والتي مهدت السبيل لقيام ثورة 14 تموز. وقد ساعد الالتفاف الشعبي العام صبيحة الثورة على انتصارها، مقابل تحركات اقطاعية أو رأسمالية لإنقاذ رجال العهد البائد منذ الساعات الأولى للثورة، ولم تكن حماية نوري السعيد ومحاولة تهريبه من قبل إحدى العوائل الارستقراطية الا دليلا سافرا على قولنا هذا. وهكذا تصدى الاقطاعيون للثورة منذ اللحظات الاولى، وقد زاد أوار الصراع مفعول الهوية اليسارية لمؤيدي الثورة ومادتها الأساسية، او شعاراتها المرفوعة ضد النفوذ الأجنبي والا قطاع والرجعية. وهكذا كانت جدلية الصراع منذ اللحظة الاولى قائمة بين أضداد طبقيين قادتها الثورة بقانون الإصلاح الزراعي أو قانون الاحوال الشخصية أو قرار الخروج من حلف بغداد أو إخراج العراق من منطقة الاسترليني أو إقدام العراق على تقييد يد الشركات النفطية المطلقة بقانون رقم 80 لسنة 1961 أو قرارات الثورة لإنصاف الفقراء، أو محاربة الثورة للكارتلات النفطية العالمية من خلال إنشاء منظمة أوبك في بغداد كي توحد قرار الدول المنتجة بالكميات المصدرة والأسعار المحددة، وقد نجحت هذه المنظمة لحد هذه اللحظة من تحقيق أهدافها.

إن الثورة رغم كونها محكومة بسلوكيات البرجوازية العسكرية إلا أن لقوى اليسار العراقي آنذاك، وفي المقدمة الحزب الشيوعي العراقي، الأثر المباشر في توجيه الثورة نحو المنجزات التي تتعلق بالسيادة أو المكتسبات التي تهم المواطن. وكان لتوسع القطاع العام الخدمي ولإنشاء مصلحة المبايعات الحكومية أن زاد الاقطاع وحلفاؤه من التجار الحقد على الثورة وزادت تحركات تلك الجهات باتجاه القضاء عليها وعلى منجزاتها. وكانت المؤامرات يقودها كبار الاقطاعيين المتحالفين مع اليمين السياسي وبإسناد من الجمهورية العربية المتحدة آنذاك، وعلى يد عبد الحميد السراج. وكانت فعلا جدلية الصراع تقوم بين نقيضين الأول يقوده اليسار المنفتح على الكادحين واليمين المنفتح على الاقطاعيين والرأسماليين. وقد تم وأد الثورة في الثامن من شباط عام 1963، واليوم يستمر الصراع بين الأضداد ولكن هذه المرة بأشكال مختلفة، فبعد ان كان الصراع مع الرأسمال المنهوب من الفلاحين والعمال، (لقلة المال بيد الدولة آنذاك )، صار الصراع اليوم مع الرأسمال المنهوب من الدولة والشعب معا، وسوف لن تنتهي جدلية الصراع في العراق ما دام المواطن الحقيقي بعيدا عن مكانه اللائق.