ان الملاحظات السابقة تشير الى ان هناك تداعيات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية للاقتصاد الريعي في العراق من بينها على سبيل المثال لا الحصر:
- تفشّي “ثقافة” اللامساءلة واللامحاسبة وما رافقها ويرافقها من تجذير لـ “ثقافة” الفساد. وعادة ما تبلور القوى المرتبطة بالاقتصاد الريعي “ثقافة” جديدة يمكن ان يطلق عليها “ثقافة الريع” حيث تساهم هذه “الثقافة” في:
- تفشي وازدياد الفساد؛
- نمو اقتصاد الخدمات على حساب الاهتمام بالصناعة والزراعة والاقتصاد الحقيقي، الانتاجي؛
- هذا اضافة الى نشوء ما يطلق عليه “راسمالية المحاسيب” Crony Capitalism.
- ثانيا: السعي لتحقيق الربح السريع عبر ظاهرة المضاربة. فمن بين اثار الاقتصاد الريعي هو ان الذين يدخلون عالم الاعمال والاستثمار لا يحملون معهم “روح المشروع الراسمالي”، بل ان معظمهم تحركهم روح المضاربة القائمة على الكسب السريع. ويطلق بعض الباحثين على هذا النمط من “الرأسماليين الجدد” تعبير “رأسماليون هلاميون” وعلى الرأسمالية الناشئة تعبيرات من قبيل “رأسمالية الانابيب” او “راسمالية وسيطة وسمسارية” قوامها المصدرون والمستوردون والمقاولون والمضاربون والعقاريون وكذلك بعض كبار المسؤولين الذين يتقاضون عمولات مقابل تسهيل اتمام الصفقات.
- ثالثا: زيادة الارتباط الوثيق بين الفساد (الذي اصبح “مؤسسة” راسخة البنيان في العراق!) والاقتصاد الريعي، حيث الوفرة المالية ونقص مراقبة أوجه صرفها الناجمة عن انعدام الشفافية.
وبحسب رئيس مفوضية النزاهة الاسبق في العراق، فإن “نسبة الفساد في الحكومة العراقية بلغت 70 في المائة وفق تقارير وتصنيفات هيئة الشفافية الدولية”. إن الانتشار الواسع والكبير للفساد في العراق يتناسب طرداً مع كبر حجم الدولة العراقية، واتساع دورها وعمق تداخلاتها في إدارة المجتمع وأنشطته المختلفة، الاقتصادية والاجتماعية، والسياسية، ويتخذ أشكالاً وتجليات مختلفة ومتنوعة يعاد تطويرها، يوما بعد يوم، من قبل الفاسدين والمفسدين.
وبالمقابل فإنه وفي ظل عدم تبلور استراتيجية تنموية واضحة لحد الآن، تنامى دور الفئات المرتبطة بالتهريب وبرأس المال التجاري والمضارب ذي الطابع الطفيلي المرتبط بوشائج مختلفة برأس المال الأجنبي، فلا بد أن يؤدي ذلك الى استشراء الفساد. إن هذه “الرأسمالية الجديدة” تتعامل مع الأنشطة الطفيلية وخاصة التجارة وتهريب المحروقات وغيرها، تمارس قطاعات عريضة منها الفساد والإفساد، وتنظر الى العراق باعتباره حقلا لأعمال المضاربة، تنشر فيه اقتصاد الصفقات والعمولات، وتقيم مجتمع الرشاوى والارتزاق، وتدمر منظومة القيم الاجتماعية.
- رابعا: أما على الصعيد الاقتصادي فإن الطابع الريعي يتلازم مع الانكشاف الخارجي. فالدولة عندنا لا تنتج ما يكفي لاشباع حاجات سكانها الأساسية وبالتالي تلجأ للاستيراد من الخارج ما يلزمها مما يؤدي إلى تبعية واضحة تجاه الخارج (بلغت استيرادات العراق 72,283 مليار دولار في عام واحد وهو عام 2019 في حين كانت قد بلغت 7.5 مليار في عام 2003. وهذا يعني ان حجم الواردات العراقية خلال الفترة 2003 – 2019 قد تضاعف بعشر مرات تقريبا). اما خلال الفترة 2012 – 2019 فقد تذبذب حجم الواردات العراقية بين سنة وأخرى لجملة عوامل.
لقد اصبحت الأسواق المحلية مرتعا للشركات الأجنبية عبر وكلائها الحصريين الذين يجنون الأرباح غير المشروعة ويقتنصون إضافة إلى مجهود الغير ما يُسمّى بالفائض الاستهلاكي. ان هذا يساهم بشكل مباشر في تمركز الثروات بيد القّلة المستفيدة، وهذه القلة مقرّبة من أواسط الحكم والنفوذ والميليشيات المسلحة وبالتالي تترسخ العلاقة بينها وبين “النخب” الحاكمة.
- خامسا: من تداعيات الاقتصاد الريعي التهديد بالأمن الغذائي. فقد ادى إهمال القطاع الزراعي لمصلحة السلع الاجنبية والقطاعات الخدماتية والقطاع النفطي الى إضعاف القدرة على توفير الأمن الغذائي، وبالتالي عادة ما تلجأ البلاد الى استيراد حاجاتها من المواد الغذائية. فالقطاع الزراعي الذي يضم ثلث سكان العراق تقريبا وحوالي ربع قوة العمل لايساهم في الناتج المحلي الاجمالي الا بنسبة لاتتعدى 5 في المائة (2010) وواصل التذبذب طوال الفترة ليبلغ 3.7 في المائة في 2019 و 4.8 في المائة في عام 2020 ، مما جعل البلاد مستوردا شبه صافٍ للغذاء او السلع الزراعية، علما ان هذا القطاع المهم قد تعرض للعسكرة والاهمال على مدى العقود الماضية، لايمتلك المقومات الكافية في توفير الامن الغذائي من الحبوب او مستلزمات الانتاج الزراعية بعد تقلص المساحات الزراعية المنتجة بفعل التصحر والتملح والبنية التحتية الضعيفة فيه وغير القادرة على مواجهة تحديات الواقع الزراعة الفعلية وافاق تطورها.
هذا مع العلم ان خطة التنمية الوطنية 2018 – 2022 وضعت هدفا يبدو طموحا للغاية وهو تحقيق نمو في القطاع الزراعي في سنة الهدف (2022) يصل الى 8.4 في المائة.
ويلاحظ بالملموس ازدياد الواردات الغذائية لتصل إلى حوالي 90 في المائة بسبب عدم كفاية الإنتاج الزراعي لتحقيق الأمن الغذائي وارتفاع تكاليف الإنتاج قياساً إلى التكلفة المنخفضة للمنتجات المستوردة، الأمر الذي دفع الأمم المتحدة مثلا إلى إدراج العراق ضمن 32 دولة تحتاج إلى مساعدات غذائية عام 2009.
وحسب تقرير للأمم المتحدة حمل عنوان”مؤشر الاكتظاظ السكاني “(overpopulation index)”، وتناول وضع السكان والغذاء في 77 دولة، بينها معظم البلدان العربية والشرق الأوسط، ومستويات الاستهلاك الفردي للأراضي المنتجة حيوياً، أي الأراضي المنتجة للغذاء والمياه، وتلك المخصصة للثروة الحيوانية، وحصة الفرد من الأراضي المنتجة المتاحة، والقادرة على إنتاج المصادر الحيوية، والتعويض عن النقص الناجم عن الاستهلاك البشري، فقد أدرج العراق في قائمة الدول العشر الأوائل عالمياً على مستوى التبعية الغذائية، وبلغ مؤشر التبعية فيه 81.5 في المائة.
وكل هذا يجري في ظل جملة من التحديات التي تواجه القطاع الزراعي ومن بينها:
- محدودية الاراضي الزراعية المستغلة فعلا والتي لا تتجاوز الـ 25 في المائة من الاراضي الصالحة للزراعة.
- زيادة رقعة التصحر وما يتركه من اثار سلبية كبيرة على القطاع الزراعي وعلى المجتمع عموما.
- تدني كبير في انتاجية وحدة المساحة وفي انتاجية الحيوانات الزراعية.
- محدودية الاستثمارات الموجهة للقطاع الزراعي.
وهنا لابد من وقفة سريعة عند بعض المؤشرات. ومن بين هذه المؤشرات هناك مؤشر درجة الانكشاف الاقتصادي. من خلال هذا المؤشر نرى ان العراق يعاني من التبعية ، حيث ان قيمة المؤشر بلغت 83.3 في المائة، علما انه إذا كانت قيمة هذا المؤشر تقع بين 50 -70 في المائة فان الدولة في حالة انتقالية ، واذا كانت القيمة اقل من 50 في المائة فان الدولة ذات استقلالية. اما مؤشر التبعية الغذائية فيمكن قياسه من خلال نسبة الاكتفاء الذاتي الغذائي من عدد السلع الغذائية، فاذا كانت الدولة قادرة على انتاج المواد الغذائية بنسبة 85 في المائة فاكثر فإنها تعد في حالة استقرار اقتصادي، اما اذا كانت بين 70 – 85 في المائة في المائة فانها في حالة انتقالية بين التبعية والاستقلال. اما اذا كانت نسبة الاستقلال الذاتي اقل من 70 في المائة فان الدولة تعد في حالة تبعية اقتصادية.
على صعيد الفجوة الغذائية في العراق، وبالارقام المطلقة فقد بلغت قيمتها في عام 2019 حوالي 33,6 مليار دولار مقابل 28,9 مليار دولار في عام 2010، أي بمعدل نمو سنوي بلغ 1,7 في المائة. وشكلت مجموعة الحبوب النسبة الاكبر من قيمة الفجوة الغذائية، حيث بلغت قيمتها الغذائية حوالي 20,7 مليار دولار وتمثل حوالي 61,7 في المائة من اجمالي الفجوة. بالمقابل بلغت فجوة القمح حوالي 9.3 مليار دولار وتمثل حوالي 28,4 في المائة من اجمالي فجوة الحبوب، وحوالي 28,4 في المائة من اجمالي قيمة الفجوة الغذائية، تليها فجوة اللحوم بنسبة 21,8 في المائة والالبان بنسبة 9,9 في المائة، والسكر والزيوت النباتية بحوالي 9,3، 3,8 في المائة على التوالي.
هذا مع العلم ان السياسات والخطط في معظم البلدان العربية، ومنها العراق طبعا والتي تعاني من الفجوة الغذائية، لا تتضمن البرامج والخطط الكفيلة بمعالجة هذا الواقع المر وتحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي. ان المنطقة العربية تعتبر اكبر مستورد للسلع الغذائية حجما وقيمة على الصعيد العالمي، فهي تستأثر بما يزيد عن ثلث الواردات العالمية من سلع رئيسية خاصة الحبوب.