اخر الاخبار

تمثل الهدف الرئيس لحركة الضباط الأحرار في 14 تموز 1958 في تغيير نظام الحكم من الملكي إلى الجمهوري، وقد تمت تلك الخطوة بعلم القوى والأحزاب السياسية الوطنية المنضوية في جبهة الاتحاد الوطني التي قامت سنة 1957، فحظيت منذ اللحظة التي أصبح فيها التغيير ضرورة بتأييد جماهيري واسع، وكان نجاح تلك الانطلاقة واحدة من المآثر الوطنية في التاريخ العراقي المعاصر، لكونها قد أُنجزت تخطيطاً وتنفيذاً بواسطة العراقيين دون علم أي من الجهات الأجنبية، وبانت توجهاتها التحررية مبكراً، فقد نشدت الخروج من نفق التخلف والاستبداد وتحطيم أشكال الاستعباد والولاء للأجنبي، مما أذهلت القوى الاستعمارية وحلفاءها. وكل ما يحتاجه المرء لإدراك طبيعة تلك الوجهة، هو القاء نظرة سريعة، تجاه ما تنطوي عليه التحققات المنجزة، وكان أول عمل قامت به الجمهورية الوليدة اطلاق سراح  السجناء السياسيين وإرجاع حقوق جميع المبعدين والمنفيين، كما أطلقت حريات التجمع والنشر والرأي والتنظيم بصورة عملية (بلا تشريعات)، وجاء إصدار الدستور المؤقت  الذي نشر رسمياً يوم 27 تموز 1958 حدثاً مهماً، لأنه حرص بالنص الصريح أن يكون العراق جزءا من الأمة العربية، مثلما نص على أن العرب والأكراد شركاء في هذا الوطن، وضمنت نصوصه أيضاً، مساواة المواطنين جميعاً أمام القانون في الحقوق والواجبات العامة.

  كما جرى إلغاء الاتفاقية الثنائية مع بريطانيا، والانسحاب من ميثاق حلف بغداد رسمياً في 24 آذار 1959. وإلغاء اتفاقية الأمن المتبادل مع الولايات المتحدة، كذلك شجب مبدأ أيزنهاور، فضلاً عن الانسحاب المبكر من كتلة الإسترليني النقدية التي حررت النقد العراقي من الوصاية البريطانية، وقد تعززت هذه التحققات بتوقيع اتفاقية التعاون الفني بين العراق والاتحاد السوفياتي في 16 آذار 1959، التي تضمنت منح العراق قروضاً بقيمة (137) مليون دولار أمريكي، وتم بموجبها إنشاء عدد من المشاريع الصناعية المهمة. وذلك كله، أدى إلى انجاز شأن وطني يتطلع اليه كل انسان وطني غيور على العراق، يتمثل في انسحاب كامل القوات البريطانية من قاعدة الحبانية أواخر شهر أيار 1959. واتخاذ سياسة نفطية جديدة تمثلت بالعمل منذ الأشهر الأولى وفق خطة مدروسة، يجري تنفيذها على مراحل، تنطوي على تحرير الثروة النفطية من سيطرة الاحتكارات الأجنبية، بدأت أولاً بتعريق مصلحة المصافي الحكومية وتصفية الإدارة الاستعمارية، حتى وصلت إلى إصدار قانون رقم (80) لسنة 1961.

ولا يفوت المتابع المتأمل لما تقدم عبر ملاحظة مجمل الإجراءات السياسية الجوهرية التي جرت خلال السنة الأولى، من حيث أنها حددت الإطار العام لطبيعة توجه حركة الضباط الأحرار بكونها ثورة وطنية تقدمية معادية للاستعمار، ويجانب الحقيقة، بل والأزيد يتجنى على التاريخ كل من يعدها مجرد (انقلاب)، لكون التغيير لم يقتصر على البناء الفوقي فقط. فقد سعت ثورة 14 تموز الفتية بموازاة ذلك كله، إلى تحرير السياسة التجارية من القيود الاستعمارية، وانجاز الاستقلال الاقتصادي، ودفعت باتجاه النهضة الصناعية عبر تشجيع النشاط الصناعي من خلال التوسع في مشاريع القطاع الصناعي العام، وزيادة رأسمال المصرف الصناعي لتوسيع فعالياته، لأجل دعم الصناعيين العراقيين للنهوض بمشاريع القطاع الصناعي الخاص وتطويرها، والتوسع في مشاريع توليد الطاقة الكهربائية، وتطوير الزراعة ومشاريع الري مما يضمن توفير المواد الأولية والخامات اللازمة للصناعة. وتوجيه سياسة الاستيراد بما يضمن الحماية الكافية للصناعات الوطنية الناشئة من منافسة السلع الأجنبية، وفي المحصلة النهائية، فتحت الآفاق أمام مسار تقدم البلد، وأحدثت تغييرات جذرية في طبيعة المجتمع العراقي، فنالت باستحقاق أن تكون ثورة قضت على النظام السياسي وقوضت نفوذ القوى الاجتماعية السائدة، وكانت بحق الثورة التي عملت أكثر مما قالت في سبيل تلبيه مطالب الشعب العراقي.

 استقبلت مختلف الأوساط الشعبية ثورة 14 تموز 1958 المجيدة بفرح وحماس كبيرين، وعبرت عن مشاعرها المؤيدة في المظاهرات العارمة، المصحوبة بالاحتفالات التي اجتاحت غالبية المدن العراقية، واستمرت لعدة أيام، كما جاء التأييد من كافة أوساط المؤسسة الدينية في النجف، فقد بارك المرجع الديني الأعلى السيد محسن الحكيم الثورة في 27 تموز 1958، هو وعدد كبير من المراجع وعلماء الدين، إذ بعثوا عدة رسائل موجهة إلى الزعيم عبد الكريم قاسم وإلى مجلس السيادة، (تاريخ الوزارات العراقية في العهد الجمهوري، ج1) ولكن العلاقة الودية بين مرجعية السيد الحكيم وثورة 14 تموز مرت بأطوار متباينة، تفاوتت بين الشد والجذب إلى أن انتهت عند حدود القطيعة. فاتخذ السيد الحكيم منها موقفاً متشدداً وعمل جاهداً على إسقاط تلك التجربة الوليدة. وبالمقابل في الضفة الأخرى، قام عدد من المراجع الدينية وطلبة الحوزة العلمية بدوافع تأييد ثورة 14 تموز ومناصرتها بتأسيس (جماعة علماء الدين الأحرار)، وقد أصدرت تلك الشخصيات بياناً يستنكرون فيه ما يسمونه بالتآمر على سلامة الجمهورية، جاء فيه: «نحن نخبة من رجال الدين بالنجف الأشرف ندرك الفرق الواضح والبون الشاسع بين حكومة العهد البائد والعهد السائد.. نحذر من حب السلطة والإمرة، ومن السعي اليها بالحيل والكذب والبهتان والتشويش.. ونرى أن الحرية هي النظام. لأن الإنسان مجبر تارة ومختار تارة أخرى، فالحرية مقيدة بطاعة الله، ومعرفة مصلحة النوع الإنساني». (رشيد الخيون، مائة عام من الإسلام السياسي بالعراق «الشيعة»، ج1)

وهكذا كانت مشيئة الأقدار، فقبل أن تشرع الثورة بمهماتها الأساسية الطموحة وفق منطق الأولويات، الأهم أولاً قبل المهم، أن تحتدم النزاعات وتتسع الخلافات بين موالاة الثورة ومعارضتها إلى سائر أنحاء البلد. ويأخذ الخلاف الجذري أشده بين القوى والأحزاب السياسية حول الوحدة مع مصر (الجمهورية العربية المتحدة آنذاك)، فتصدعت جبهة الاتحاد الوطني، ما أدى إلى تقويض المشروع الوطني، وضاعت البوصلة الوطنية عند البعض بين الأوهام، وشاهت عيون الناس، الذين انقسموا على أهواء المصالح السياسة ما بين الاتحاد الفدرالي والوحدة الفورية، وشقت الايديولوجيا نسيج المجتمع إلى أكثرية موالية تناصر الثورة، وبالضد منها تقف أقلية مناوئة تعارضها، الأمر الذي أدى إلى اصطفاف بعض قوى الثورة إلى جانب القوى المعادية لها، حيث ضمت جبهة الردة كل من الإقطاعيين والقوى الرجعية وعناصر الأحزاب السياسية القومية، ومن ثم تكريس الاستقطاب الطبقي في المجتمع العراقي على نحو تدريجي، وبانت معالمه بوضوح وبشكل لافت لما اتسعت دائرة معارضة توجهات ثورة 14 تموز التقدمية ومنجزاتها، فدخل البلد في لجة عدم الاستقرار والاضطرابات وحوادث القتل، وأخذت دائرة الأحقاد تكبر، وتكبر معها دائرة معارضة الثورة المستقوية بالبعد القومي والإسلامي، معززة دورها التآمري بالمساندة التي حازت عليها من بعض الدول الإقليمية والدولية، في مقدمتها الدول التي تضررت من قيام ثورة 14 تموز، فسعت هذه القوى السياسية وتلك الدول مجتمعة إلى استغلال الاختلافات الداخلية لتحقيق مطامعها ومصالحها وأهدافها، فأتسع الصراع التناحري بين الأحزاب السياسية، وتبدى بأشكال عنيفة، وتعاظمت الأهوال التي أحاطت بالبلد وثورته الفتية. ومع ذلك كله، لم تستطع عصي المناوئين المعيقة أن توقف دولاب الثورة عن الدوران، فشرعت أحوال البلد تتحسن، وشرع عامة الناس يتنفسون الصعداء في الوضع الجديد، وهم يتلمسون انجازات الثورة ومكتسباتها التي شملت مختلف مفاصل الحياة، ولامست أحلام الفقراء، في الصحة والتعليم ورفع مستوى المعيشة وتوفير السكن اللائق، وتمثلت أبرز القرارات الوطنية، في:

1- إلغاء قانون دعاوى العشائر التي أصدرته قوات الاحتلال البريطاني في شباط سنة 1916، على غرار (نظام جرائم الحدود الهندي) لدعم نفوذ شيوخ ورؤساء العشائر السياسي والقضائي. وهو كما يلاحظ يميز بين المواطنين ويجعلهم على نوعين إزاء القانون، مدنيين وعشائريين، بينما تقضي قواعد الحكم الحقة والشريعة الإسلامية أن يكون المواطنون جميعهم سواسية أمام القانون. غير أن سلطات الاحتلال البريطانية التي ظل الكثير مما أدخلته إلى البلاد سارياً فيها حتى بعد زوال عهد الاحتلال، كان من مصلحتها تثبيت الإقطاع والروح العشائرية في هذه الديار فجاءت بمثل هذا القانون. وجاءت خطوة الإلغاء المهمة بحسب المرسوم الجمهوري رقم (56) بتاريخ 27 تموز 1958، والهدف منه تحقيق العدالة الاجتماعية والمساوة بين المواطنين، حيث تم بمقتضاه سحب السلطات الواسعة التي كان يمارسها شيوخ ورؤساء العشائر على أفراد عشائرهم، إذ كانت الخصومات والمنازعات تفصل وفق (السواني) الأعراف والتقاليد العشائرية.

2- قانون الاصلاح الزراعي رقم (30) الذي شرع بتاريخ 30 ايلول 1958، ويهدف إلى تصفية العلاقات شبه الإقطاعية وتفتيت الملكيات الواسعة وتوزيع الأراضي على الفلاحين، وتفيد نصوصه على خضوع الملكيات الزراعية التي تزيد عن (1000) دونم سيحاً، و(2000) دونم ديماً إلى إجراءات الاستيلاء الذي تقوم به لجان خاصة ذات معرفة بالقوانين العراقية. وتعهد الأراضي المستولى عليها إلى دوائر الاصلاح الزراعي التي تأسست حينذاك لكي تقوم بإدارتها بصورة مؤقتة. ويعوض أصحاب الأراضي التي خضعت للاستيلاء حسب تقدير لجان مالية بقدر المثل وتقوم وزارة المالية بتسديد هذه التعويضات لهم بأقساط موزعة على (20) سنة على ان تستوفي هذه الأقساط من الفلاحين الموزع عليهم الارض. وتقوم دوائر الإصلاح الزراعي المختصة بحصر هذه الأراضي، ومن ثم إصلاح وتقويم ما يقتضي من شؤون الري والصرف وغسلها عند الضرورة من الأملاح الفائضة الضارة ثم توزيعها على الفلاحين المستحقين من فلاحي تلك الأراضي غير المالكين للأرض بمساحات تقع ما بين (30-60) دونم سيحاً و(60-120) دونمh ديماً تبعاً لطبيعة الأرض والمحصول وتوفر الماء. ومن أجل تنظيم ما يقتضي للزراعة المنتجة من خدمات واستشارات ومستلزمات زراعية ينتظم عدد من الموزع عليهم مع ما بحوزتهم من الأرض في جمعيات تعاونية، يقوم بإدارتها (النظار التعاونيون) وهو زراعيون من خريجي المدارس او الكليات الزراعية. وبعد أن أوجزنا مضمون هذا القانون، لابد لنا من قول الحقيقة التي لا يجوز إنكارها إن هذا المشروع وعلى الرغم من أهدافه النبيلة، إلا أنه واجه إشكالات كثيرة، أدت إلى تقويضه، بسبب ترك عدد كبير من الملاك الجدد أراضيهم.

3- قانون الأحوال الشخصية المرقم (188) لسنة 1959. ومما جاء في الأسباب الموجبة لصدوره، أنه قد وجد في تعدد مصادر القضاء واختلاف الأحكام مما يجعل حياة العائلة غير مستقرة، وحقوق الفرد عير مضمومة، فكان هذا دافعاً للتفكير بوضع قانون يُجمع فيه أهم الأحكام الشرعية المتفق عليها، وقد استمدت مبادئه مما هو متفق عليه من الأحكام الشرعية، وما هو المقبول من قوانين البلاد الإسلامية، وما أستقر عليه القضاء الشرعي في العراق. وبعد أن أكملت اللجنة عملها أعلن عنه بتاريخ 19 كانون الأول 1959. وكان خطوة متقدمة على صعيد تنظيم العلاقات الأسرية، والتقريب بين المذاهب الإسلامية، وتوحيد العمل القضائي في العراق، وبطبيعة الحال واجه معارضة القوى التي ناصبت العداء لثورة 14 تموز، واقترنت بمؤازرة بعض المراجع الدينية بحجة مخالفته للشريعة الإسلامية، ومما لا ريب فيه أن هذا القانون يقلل من دور رجال الدين في المجتمع، من حيث أن معاملات الطلاق والزواج وغيرها ستكون بيد أجهزة الدولة المعنية.

4- قانون تعيين مناطق الاستثمار لشركات النفط رقم (80) لسنة 1961، الذي حددت مناطق امتيازات الشركات وقصرتها على المناطق التي يجري استثمار النفط منها فعلاً والتي بلغت مساحتها حوالي (1937) كيلومتراً مربعاً. إن القانون المذكور قد ضمن لشركات النفط (الوطنية) مناطق تؤمن لها نشاطاً مستمراً لمدة طويلة وبمعدل يزيد عن معدل انتاجها الحالي إلى جانب تحقيقه مطلباً شعبياً عادلاً سيؤدي إلى مضاعفة الجهود في استثمار الثروة النفطية ومضاعفة الموارد المتأتية منها مما سيؤمن للحكومة الوطنية الأموال اللازمة لإعمار البلد ورفع مستوى ابنائه. وبذا فقد حرم هذا القانون الشركات الأجنبية من امتيازاتها النفطية في 99.5 بالمائة من الأراضي العراقية التي سبق ان كانت بيدها. وليس ثمة أكثر دلالة من هذا القانون على الجوهر الوطني لثورة 14 تموز 1958.

ولو رجعنا بذاكرتنا إلى يوم اهتدى العراق إلى طريقه المؤمل في الرابع عشر من تموز 1958، وانتعشت الآمال بانبثاق ثورته التقدمية، لوجدنا أن المكتسبات الوطنية امتدت إلى أبعد نقطة في الوطن، ولكن المخاطر التي كانت تحف بها أخذت تحوطها من مختلف الجوانب والجهات، واستطاع أعداؤها الرجعيون، نساجو التآمر في الخفاء على خنق ثورة الفقراء، فذوت ثمرة الوطن المرتجاة قبل نضوجها، لما نكب البلد بانقلاب وحشي دموي يعتلي القطار الامريكي، فغرق العراق في بحر من الدم وانتشر الظلام، وها هي السنوات تتوالى وتمضي، ستة عقود ونيف، وتتوالد الأحقاد نحوها من جديد، ولكنها بقيت حتى الآن في الذاكرة نبراساً للوطنيين، ودرساً بليغ المعاني في التاريخ الوطني العراقي.

عرض مقالات: