اخر الاخبار

لثورة 14 تموز في ذاكرتي، مواقف ثلاثة سببت لي قلقاً وحزنا، وثلاثة مواقف ملأت الروح بطمأنينة ويقين. ففي ذلك اليوم، لم أستطع كعادتي أن اتفحص ملابس المدرسة التي سألتحق بها بعد أسابيع، بسبب القلق الغريب الذي رأيته على وجه أمي والوجوم والسخط الذي غطى وجه أبي وصحبه. ولم يتطوع أحد حينها ليبدد مخاوفي، رغم تنقلي بين المطبخ حيث تقبع أمي كعادتها وبين “المضيف” حيث يجتمع ملاك الأرض لأمر خطير داهم “مملكتهم”. وإشتدت الخشية بعد ذلك بشهرين عندما تنّمر عليّ بعض أترابي لإني أنحدر من أسرة موالية للعهد المباد، دون أن أفهم معنى ما يقولون. وحين إعتقلت الشرطة أحد أقاربنا ممن عُرف بنضاله الوطني والطبقي العنيد قبيل الثورة وبسالته في الدفاع عنها، أمتزجت المخاوف بتساؤلات مضنية، فكيف يمكن أن تجمع سجون نظام ما أعداءه ومؤيديه معاً!

لكني كنت محظوظاً، بمعرفة رجال بددوا قلق الطفل وأزاحوا مخاوف الصبي وزرعوا في وعي الفتى، قيماً، ستبقى على الدوام خير ما حلم به بنو البشر.

كان أولهم، مدير المدرسة، الرفيق الراحل جلال علي أكبر، هذا التموزي الذي نجح في أن يبدد قلق الطفل، فسمح لي بالمشاركة الفاعلة في الإحتفالات المبهجة التي عاشها الناس في تلكم السنوات، وغمرني ـ ومن تنّمر عليّ ـ بحنانه وإهتمامه، فزال التنّمر وحلت محله، صحبة طيبة مع زملائي، قائمة حتى اليوم.

وكان الموقف الثاني بعيد إنقلاب شباط الأسود، يوم دخلت عصابة من سقط المتاع، لتعتقل معلمينا جميعاً، ماعدا واحداً، ولتحاول أن تكسرهم وتهشم ما في عقول الطلبة من صورعنهم. حينها بهرني ثبات أولئك الرجال الشيوعيين والتموزيين والعزيمة التي إستوطنت عيونهم والإبتسامة التي رأيتها على وجوههم والتي بددت مخاوف الصبي ومنحته ثقة لا حدود لها.

وفي الموقف الثالث، كنت أحدّث الرفيق جابر خضير، الشيوعي والتموزي الجميل، عن موقف حصل بين أبي وفلاح عجز عن تسديد قروض بذمته، فجاء يتوسل أن يؤجل موعد السداد، وكيف عجز عن ذلك، حتى أخبر أبي بأن عائلته لم تذق طعم اللحم منذ سنة، وكيف صرفه أبي إثرها، ليعترف، وربما على مضض، بدور الشيوعية في إستعادة البشر لإدميتهم ويقول: مو حقهم العالم يصيرون شيوعيين، إذا هذا وعائلته ما يعرفون شنو طعم اللحم. حينها فهمت من أبي نصير، أطال الله عمره، ما هي الشيوعية ولماذا قامت ثورة 14 تموز، وماذا حققته، وكيف أعادت الأرض الزراعية للمنتجين بعد إن كان 2% من العراقيين يملكون 70% منها ويتحكمون بـ 80% من الناتج الزراعي الإجمالي، ولماذا ومن وأد الثورة!

ومرت السنون، وأنا أستذكر تلكم المواقف وأولئك الرجال، وأتعلم عن الثورة، بمنجزاتها وخيباتها، ما يذكي جذوة العشق والفرحة، بذكرى إنتصار فريد ووحيد، للعراقيين في تاريخهم المعاصر. فلأول، وربما لأخر مرة، يحول الناس انقلاباً عسكرياً إلى ثورة شعبية عبر دعمه بإنتفاضة جماهيرية، زاد عدد المشاركين فيها عن 100 ألف مواطن، وإلزام (وربما إقناع) قادتها بتحطيم أسس النظام الملكي وإبداله بنظام مختلف عنه جوهرياً، وبتغيير القاعدة الاجتماعية التي يرتكز عليها النظام، من طبقة الإقطاعيين وملاكي الأراضي، إلى الفئات الوسطى والبرجوازية الوطنية، وبإعتماد الهوية الوطنية الجامعة وإعلاء شأنها، بديلاً أساسياً للهويات الفرعية.

ولأول مرة تتمكن الجماهير المنتفضة من تحقيق مجموعة منجزات كبيرة، دفعة واحدة، تمثلت في الإستقلال السياسي الناجز (إنهاء القواعد الأجنبية والخروج من حلف بغداد وإعتماد سياسة خارجية مستقلة) وفي تحسين الإستقلال الاقتصادي (قانون رقم 80 لتحرير الثروة النفطية والخروج من قبضة الإسترليني) وفي توفير قدر أفضل من العدالة الإجتماعية (الإصلاح الزراعي، قانون العمل، قانون الأحوال الشخصية، تطوير التعليم المجاني، إسكان الطبقات المعدمة). ورغم سعي الطبقات الوسطى، تبوء الدور الأرأس في الحكم، الا أن منجزات الثورة شملت أغلب الطبقات والفئات الاجتماعية، ولم تستهدف سوى النخب الحاكمة في العهد الملكي، من ملاكي الأرض والبرجوازية البيروقراطية، والتي كانت تستحوذ لوحدها، على ثلث الدخل القومي للبلاد.

وفي المقابل، عجزت الجماهير المنتفضة، بسبب الطبيعة الطبقية لقيادة الثورة، من صيانة هذه المنجزات وتواصل السير على طريقة التنمية والتقدم، مما أوقع البلاد في خيبات عديدة، قد لا تجرح صفحة الثورة الناصعة، ولكنها تشكل، بالتأكيد، دروساً مهمة للأجيال القادمة. فقد عجزت، أو مُنعت، الفئات الوسطى من أن تطرد الإقطاعيين والبرجوازية البيروقراطية وأن تتبوأ القاعدة الاجتماعية للنظام الجديد، وسرعان ما تفككت وتشظت لأسباب عديدة ليس أقلها الصراعات الأيديولوجية والمناطقية، بين شرائحها، الأمر الذي أفقد الثورة الرافعة الحقيقية لبناء هوية وطنية جامعة ومؤسسات ديمقراطية فاعلة. 

وكان للهيمنة غير المبررة للعسكر على جميع المواقع الحاسمة، دور تقويضي خطير، في ظل غياب مؤسسات شرعية منتخبة ومجتمع مدني قوي من جهة، وفي ظل غياب درجة مناسبة من الوحدة والإنضباط في صفوف العسكريين المتنفذين، وغياب الحد الأدنى من التوازن في تمثيلهم للتنوع الأثني والديني للشعب من جهة مكملة. وقد أدى ذلك كله إلى وقوع النظام فريسة سهلة لليمين والمحافظين، الذين تمكنوا من إسقاطه والإعتماد على البرجوازية الطفيلية والبيروقراطية العسكرية والمدنية (التي تغولت بإتساع دور الدولة كرب عمل رئيسي)، وإحلالها قاعدة للحكم.

وكان لضعف يقظة القوى الديمقراطية والوطنية وتشتتها والغرور، حد التصابي، الذي وقع فيه العسكر، دور إضافي في نجاح تحالف واسع من الاقطاعيين ورجال الدين المحافظين والليبراليين والقوميين في الداخل، والقوى الإستعمارية الكبرى كالولايات المتحدة وبريطانيا ودول الإقليم كأيران والسعودية وتركيا ومصر الناصرية في الخارج، في وأد الثورة والعودة إلى الخراب الذي يتواصل في وطننا حتى اليوم.

عرض مقالات: