اخر الاخبار

يبقى الإسكان يشكل قضية اجتماعية مركزية للناس في بلادنا. وشكلت سياسة الإسكان والبناء العادلة اجتماعيا ولا تزال أحد الاهتمامات الأساسية للشيوعيين العراقيين. فالسعي لوضع وتحقيق سياسة إسكان وبناء عادلة إلى جانب سياسة التنمية الحضرية المستدامة، يشكل إحدى ركائز التماسك الاجتماعي في بلادنا.

أهمية الإسكان الميسر ازدادت بشدة ليس فقط بسبب زيادة عدد اللاجئين والمهجرين والنازحين من الريف ومن المناطق التي سادها العنف والإرهاب في السنوات الأخيرة، ولكن لان المزيد والمزيد من المواطنين ذوي الدخل المنخفض والمتوسط لم يعد في استطاعتهم تحمل زيادة الإيجارات أو أسعار العقارات. فلقد أصبحت مساحات السكن الميسور التكلفة والمناسب نادرة وخاصة في داخل المدن ومراكزها.

كتب انجلز في عام 1872: “ وهذا بالضبط ما يحصل مع أزمة السكن. إن توسع المدن الكبيرة الحديثة يمنح الأرض زيادة مصطنعة، وغالباً هائلة، في قيمتها في مناطق معينة، وخاصة مراكز المدن. والمباني المقامة عليها، بدلا من ان تزداد قيمتها تنخفض في الواقع لأنها لم تعد تتوافق مع الظروف المتغيرة؛ لذلك تُهدم وتستبدل بأخرى. ويحدث هذا قبل كل شيء في مساكن العمال ذات الموقع المركزي، والتي لا يمكن لإيجارها، حتى في ظل الاكتظاظ الشديد، أن يرتفع أبدا أو فقط ببطء شديد فوق حد أقصى معين. فيتم هدمها وبناء المحلات التجارية والمستودعات والمباني العامة في مكانها.” (فريدريك انجلز، حول مسألة السكن).

وهكذا يتم دفع العديد من ذوي الدخل المنخفض وحتى المتوسط إلى أطراف وضواحي المدن ويضطرون إلى مغادرة أحيائهم القديمة بسبب ارتفاع الإيجارات أو بسبب عدم الاهتمام بصيانة وتأهيل المباني القديمة. ان توفير السكن بأسعار معقولة أمر ضروري للاستقرار والتماسك الاجتماعي في البلاد.

وفي الوقت الذي تتشكى فيه الجهات المسؤولة ومنها وزارة الاسكان من تفاقم ازمة السكن وتذهب لعلاجها ببناء مدن سكنية جديدة عن طريق الاستثمار “الرأسمالي الخاص” بدون مراعاة البعد الاجتماعي لمشكلة السكن وثقلها على كاهل المواطن نشهد استمرار تهالك وانهيار وهدم البيوت القديمة داخل المدن بدل صيانتها وتأهيلها.

 وتغيب الإحصاءات الواضحة والدقيقة الخاصة بعدد المنازل والأبنية القديمة والتراثية في بغداد ومدن العراق الاخرى، ولكنها قد تصل إلى عشرات آلاف المنازل وللأسف تقوم السلطات بهدم او الموافقة على هدم المئات منها، بحجة أنها خالية وتُهدّد الأمن، ووفق روايات يتناقلها المواطنون الذين يبدون استياءهم الكبير مما تشهده مدنهم من تشويه مستمر لتراثها الذي لا ينحسر بل يتمدد ويتسع في الوقت الذي تعاني فيه البلاد من حاجة ملحة لتوفير السكن.

وتتقطع قلوب المواطنين وهم يرون مساكن مدينتهم القديمة تتحوّل بشكل مستمر إلى مناطق وورش صناعية ومخازن ومحلات للتجارة، ويتقلّص حضور المباني التاريخية، مقابل توسّع مناطق سكن عشوائية جديدة غير مدروسة تنقصها الخدمات على أطراف المدن.

إن غالبية البيوت القديمة داخل المدن هُدمت خلال السنوات التي أعقبت الاحتلال الأميركي عام 2003، وما بقي منها تحوّل إلى مخازن للتجار الذين اشتروا هذه المنازل الكبيرة من أصحابها بأكثر من طريقة. والكثير من هذه البيوت تحوّلت إلى عمارات تضم شققاً تؤجّر للطلبة أو لمحامين أو اطباء وشركات طباعة، ولم تتحرك أي جهة تدعي حماية الآثار والتراث لمنع هذه التجاوزات، بل حتى المباني الأثرية التي تعود إلى الدولة، مهددة بالإزالة لأسباب تتعلق بحماية مقار حكومية، أو كونها آيلة للسقوط، ولعل ذلك قمة الاستخفاف بتاريخ البلاد العمراني.

يعود الكثير من “الأبنية التراثية والدور السكنية التي هدمت في بغداد، إلى مواطنين تركوا العراق قبل وبعد الاحتلال الأميركي، بسبب انهيار المنظومة الاقتصادية وانتشار العشوائية فيها والتوجه نحو التجارة لتحقيق الارباح السريعة من قبل بعض الذين استولوا على تلك الدور أو اشتروها.

ولم يجر هذا في العاصمة بغداد فقط بل يحدث في مدن أخرى، مثل بابل وكركوك والبصرة والموصل، ولعل السنوات المقبلة ستكون أكثر إيلاماً لمن يبحث عن تاريخ العمران وتراث البناء العراقي، فإضافة لتأكل المباني يجري تلاشي المناطق والمحلات السكنية، ونشأت ظاهرة تمدن عشوائي غير منضبط أدت إلى تخريب البيئة السكنية في بغداد والمدن الأخرى.

وعلاوة على غياب الرؤية لسياسة عمرانية وسكنية واضحة لدى الجهات الحكومية والسياسية المعنية نجد غيابا للتشريعات والقوانين التي تمنع وتوقف انهيار البيئة السكنية والمعمارية وفقدان قيم مهمة في هذا المجال. وهنا يجب تأكيد ضرورة سن قوانين تفرض على المالكين والمستثمرين في مجال العمران الشروط اللازمة للحفاظ على البيئة التراثية للأبنية والحفاظ على بنية المحلة السكنية في المدن العراقية.

إن إحدى التحديات الأساسية في السياسة السكنية وحل ازمة السكن هو التجديد والتأهيل النشط للمباني القديمة. فيمكن تأهيل الاغلبية العظمى للمباني القديمة داخل بغداد والمدن العراقية الأخرى وتجديدها لتوفير مساكن جديرة بالسكن وذات قيمة عالية وليس من الناحية الانشائية فقط بل ومن النواحي الهندسية الأخرى ومن ضمنها:

1- توفير خدمات السكن الحديثة مثل انشاء منظومات الصرف الصحي ومنظومات الاتصالات الضرورية.

2- توفير النقل العام المنظم ومواقف سيارات مركزية.

3- تأهيل المساكن لخفض استهلاك الأبنية للطاقة وبشكل خاص للتبريد في مواسم الحر.

وهذا ممكن الحدوث من خلال العمل على سياسة سكنية واضحة وتشريع القوانين اللازمة ذات الصلة.

إن التعويل على البناء الجديد فقط بدون صيانة وإدامة وتأهيل الأبنية القديمة المتوفرة لحل ازمة السكن هو رهان خاسر. فإضافة لتخريب البنية الاجتماعية للمدن العراقية وما يعقبه من مشاكل اقتصادية يشكل ذلك تهديدا خطيرا للبيئة الطبيعة، فمن الواضح أن البناء الجديد وحده لا يساعد لكنه يدمر البيئة، فلإنتاج كميات الإسمنت الهائلة والخرسانة الضرورية للبناء الجديد يتم بث كميات هائلة من غاز ثاني اوكسيد الكاربون، فالإسمنت تتم صناعته من الجير عن طريق فصل ثاني أوكسيد الكاربون.

ولبناء المدن الجديدة يتم تغطية وغلق مساحات كبيرة إضافية من سطح التربة بواسطة الخرسانة والاسفلت للطرق وللمباني وبذلك يتم منع تسرب مياه الامطار لتكوين المياه الجوفية والقضاء على الغطاء النباتي وسطح التربة المفتوح والدبال الذي يصطاد ثاني أكسيد الكربون من الهواء، فيتم تخزين حوالي 1500 مليار طن من الكربون في التربة في جميع أنحاء العالم - أي ثلاثة أضعاف ما تمتصه جميع الغابات. فكل مبنى جديد يشكل انتهاكا بيئيا. وللتذكير: نحن بحاجة إلى التربة حتى يمكن جمع وتكوين المياه الجوفية وتخزين ثاني أكسيد الكربون. ولذلك سيكون من الصواب توزيع مساحات السكن بشكل عادل ومعقول.

كلف تجديد المباني تكون في أغلب الاحيان أقل من كلف البناء الجديد ففي أغلب الحالات لا تحتاج الا لتبديل عدد من النوافذ والابواب، والتفكير بوضع اجهزة تكييف وتبريد، واجراء بعض الترميمات بوضع اللبخ او البياض وطلاء الجدران، وفي احيان قليلة قد نجد ضعفا هيكليا في السقف أو الجدران وفي أغلب الحالات يمكن معالجة ذلك هندسيا وبكلف معقولة.

وهنا فعلى أجهزة الدولة دعم برامج لإعادة تأهيل وترميم المساكن القديمة من خلال حزم دعم للتمويل ومنح قروض لتغطية كلف الاعمال الضرورية. وهنا يجب التمييز في شروط الدعم بين دعم المالك الذي يستخدم البناية لسكنه الخاص وبين المالك الذي يستخدم البناية للتأجير. فيجب وضع شروط على المالك الذي يؤجر عقاراته في تحديد سقف للإيجار يتناسب مع دخل الفئات ذات الدخل المحدود.

وفي صيانة وتأهيل الأبنية القديمة ولتحقيق الإسكان الميسر يجب خفض معايير منح رخصة البناء وبشكل مناسب لا يتجاوز شروط السلامة الضرورية. فاذا تم تشديد المعايير لن يعود بناء المساكن ذات الأسعار المعقولة - سواء بتمويل خاص أو بتمويل عام - ممكنًا. فهناك حاجة إلى مناقشة مفتوحة وصادقة، داخل الهيئات المعنية والهندسية بشكل خاص، حول خفض معايير البناء وتحديث قواعد المسافة، وانبعاثات الضوضاء الخ، وسيصبح هذا أمراً ضرورياً يؤدي إلى استخدام أكثر كفاءة للمساكن.

كما ويجب على الجانب السياسي أن يدعم الكفاءة والتقدم التكنولوجي في الوقت الذي عليه الحرص على تخفيف الصعوبات الاجتماعية التي يواجهها الأفراد.

ويجب أيضا توفير دعم مستهدف للمستأجرين. فلا يجوز توزيع الدعم بشكل متساوي على الجميع، بل نحتاج إلى تمويل مستهدف من مصدر واحد يضمن قدرة المواطن، قليل الدخل، على تحمل تكاليف الإيجار للمستأجرين، اي فقط للذين يحتاجون حقاً إلى الدعم.

كما وإن سياسة الإسكان والبناء والتنمية الحضرية المستدامة والعادلة اجتماعياً لا تقتصر فقط على توفير ما يكفي من السكن بأسعار معقولة. بل عليها وضع أساس التماسك الاجتماعي في الأحياء والمناطق السكنية.

ويتم التماسك من خلال التكامل والمشاركة الذي يتم في المدارس ورياض الأطفال والمراكز الاجتماعية والمرافق الرياضية.  ولا يمكن حل المشاكل الاجتماعية إلا في حالة توفر الهياكل المناسبة. وتشمل هذه، قبل كل شيء، تطوير الشبكات الاجتماعية والأحياء السكنية السليمة. نعم الدولة لا تستطيع أن تتولى إنشاء الشبكات الاجتماعية، لكنها تستطيع خلق بيئة مناسبة لنمو التضامن الاجتماعي. اذ لا يمكن الفصل بين الأحياء السكنية المتماسكة والمتضامنة والمساكن ذات الأسعار المعقولة. فنريد تنمية متكاملة تعمل على تحسين المناطق الحضرية هيكليا، ولكنها تعمل أيضا على تحسين آفاق الناس. وعلى وجه الخصوص، يجب ان ينصب تركيز عملنا على تلك المناطق التي ينتشر فيها الفقر في المنازل.

عرض مقالات: