اخر الاخبار

مراجعة ذاكرة التاريخ العراقي الحديث، يعني مراجعة الأطر التأسيسية للقوى الفاعلة التي صنعت المختلف في هذا التاريخ، وأعطت لسؤال التحول الاجتماعي والسياسي والثقافي أبعادا ثورية وحضارية، مثلما فتحت أفقا على سلسلة من التغيّرات في البنى السياسية والاجتماعية، وعلى تجاوز ما هو نمطي في سياقاتها، وفي تعاطيها مع مفاهيم الدولة والأمة، والتاريخ ذاته، بوصفه زمنا تصنعه القوى الفاعلة.

تاريخ الفاعل “السسيوتاريخي” ارتبط بتاريخ نشوء الدولة العراقية الحديثة عام 1921، فكان شاهدا على سيرورتها، وعلى علاقتها المضطربة بالاحتلال الانكليزي، وبسياساته، وبطبيعة القوى الجديدة والناشئة، على مستوى نشوء النظام السياسي وهيكله، وعلى مستوى نشوء المدينة الحديثة، وتمثلها للتحولات الحادثة في العالم الشرقي، بعد الحرب العالمية الأولى، ونهاية السلطة العثمانية..

نشوء الدولة الحديثة ارتبط بنشوء بنى اقتصادية جديدة، وبروز طبقات جديدة لها مصالحها بعد تأسيس البنى الاقتصادية والسياسية، ولها دورها الجديد في توجيه مسارات التحول الاجتماعي، وفي إدارة تلك البنى - معامل صغيرة، ورشات عمل- وكذلك في نشوء مصالح جديدة، ارتبطت بنشوء تجمعات ثقافية واجتماعية تقودها البرجوازية الصغيرة، المحدودة، لكنها كانت الاكثر فاعلية في التعبير عن تمثلات مظاهر الوعي الجديد، والتعبير عن مصالح القوى الناشئة، من خلال استشراف وعي الخصوصيات الوطنية والحقوق الطبقية، ورفض استمرار الاحتلال الانكليزي، وسياساته الضاغطة، فضلا عن نشوء وعي نقدي، تمثل في نقد ورفض سياسات الحكومات العراقية الرجعية، وارتهانها للسياسة البريطانية..

تأسيس الحزب الشيوعي العراقي عام 1934 كان تعبيرا عن حيوية الوعي النقدي للجماعات الجديدة، ولطبيعة الأفكار الثورية الرافضة للاحتلال والهيمنة، فهذا التأسيس لم يكن بعيدا عن تلك المؤثرات، ولا عن وعي المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الداخلية، ووجود القوى الفاعلة التي تدافع عن المصالح والحقوق، كما أنه لم يكن بعيدا عن ما حدث في العالم بعد الحرب العالمية الأولى، ولا عن تأثيرات  ثورة اكتوبر الاشتراكية في روسيا عام 1917، التي أعطت زخما لنهوض تلك القوى الجديدة، ولحركة النضال الاجتماعي والطبقي، والبحث عن أطر تنظيمية فاعلة، تستوعب هذا الزخم، وتتسق مع استحقاقاته التاريخية والنقدية.. 

ارتباط التأثر بالأفكار الجديدة لم يكن بمنأى عن التأثر بمعطيات حركة الإصلاح الثقافي في نهايات القرن التاسع عشر، التي مهدت الطريق لوعي المتغيرات، وللتفاعل مع تلك الأفكار التنويرية، لاسيما بعد الصدمات الفارقة التي تعرّضت لها منظومة الحكم العثماني، إثر تأثيرات حركة الإصلاح والتنوير في أوربا، والتي دفعت العالم إلى متغيرات مهمة، على مستوى التشريعات القانونية، أو المشاركة السياسية، والانفتاح على العالم الحديث، لكن تبقى تأثيرات الفكر الماركسي من أكثر المصادر ثورية في إيقاظ حركة الشعوب في المنطقة العربية، إذ حمل الخطاب الماركسي معه أسئلة جديدة تخص أطروحات الصراع الطبقي، والنضال من أجل الحرية والعدالة، والدفاع عن حقوق الشغيلة في سياق تضخم منظومات الانتاج العالمي، مقابل الرثاثة في علاقات الانتاج وسيطرة قوى الرأسمالية الجديدة وشركاتها ونمطها الاستعماري في استغلال الثروات والجغرافيا، وجماعات العمل الرخيصة..

مثّلت ثورة اكتوبر الاشتراكية عنصر ضغط كبير، في سياق مسار التحولات السياسية في العالم، وفي العراق أيضا، لاسيما بعد سقوط الدولة العثمانية، إذ  “فضح البلاشفة اتفاقية سايكس- بيكو 1916 وما نصت عليه من تقسيم للمشرق العربي بين البريطانيين والفرنسيين، وأن تنصلهم من بنودها دفع المثقفين العراقيين للبحث عن ماهية البلاشفة وتوجهاتهم الفكرية والسياسية، لاسيما أن الحكومة السوفيتية وجهت نداءً إلى كادحي الشرق ومنهم فلاحو ما بين النهرين الذين أججوا مشاعرهم ضد البريطانيين، فأخذ الصراع البريطاني السوفيتي طابعاً عنيفاً منذ انسحاب السوفييت من الحرب العالمية الاولى حتى عام 1924, والذي لفت انتباه السياسيين والمفكرين إلى طبيعة الصراع الفكري بين القوتين يومئذ”1 .

التاريخي والثقافي الاشتراكي

مع تأسيس الحلقة الاشتراكية الأولى في العراق انطلق الحراك الثقافي للتعبير النقدي عن وعي تلك المتغيرات من جانب، ولتمثيلها في تنظيمات تؤكد ضرورة مواجهة التحديات الكبرى من جانب آخر، بدءا من تحدي مركزية الاستعمار والانتداب البريطاني، وليس انتهاء بنقد مظاهر التردي في الحياة الاقتصادية والاجتماعية في العراق، وعبر معالجات اعتمدت “المعاينة الماركسية” في الكشف عن عيوبها، وعن أسبابها، وضرورة التحفيز على الوعي بها، وهذا ما أعطى لتلك الحلقة التي شارك في تأسيسها عام 1924- حسين الرحال، محمود احمد السيد، عوني بكر صدقي، محمد أحمد المدرس، مصطفى علي، محمد سليم، عبدا الله جدوع وغيرهم، إذ “ اتفقت آراؤهم على إصدار مجلة نصف شهرية، للتعبير عن أفكارهم، فصدر العدد الاول منها يوم 28 كانون الاول/ديسمبر 1924، باعتبارها صحيفة أدبية علمية اجتماعية، أدارها حسين الرحال، تركزت أخبارها على مشكلات البلاد الاجتماعية والاقتصادية والفكرية هاجمت الإقطاع” 2 .

أسهم هذا الحراك، والنشاط الثقافي والسياسي في بثّ الوعي الاشتراكي العتبة الاولى للبحث عن خيارات تنظيمية أكثر فاعلية لتمثيل القوى الجديدة، لكن تعقيدات الواقع الاجتماعي وصعوباته، وضعف الإجراءات والامكانات تسببت في تأخير إعلان التنظيم، والإطار الذي يكفل وجود حقيقي لحزب سياسي ذي توجهات ماركسية، يدافع عن قضايا الشعب، وعن الحقوق العامة، وعن معاناة المجتمع في ظل الانتداب والحكم الرجعي، والضغط الذي فرضته المعاهدة مع بريطانيا على الواقع العراقي، وتكبيلاتها الاقتصادية والسياسية والحقوقية، لكن ذلك لم يمنع من تواصل الجهود في مسار تشكيل الحلقات الاشتراكية الأخرى في المحافظات، ف” كانت أرض خصبة لتقبل الشيوعية ,لوجود الإقطاع وظلمه بواسطة بطرس فاسيلي، الذي أستطاع اجتذاب العديد من الشباب العراقي ومنهم عبد الحميد الخطيب و زكريا الياس و سامي نادر وإقناعهم بإتباع الماركسية فشكل أول حلقة في البصرة عام 1927 وفي الناصرية 1928” 3 .

كما أن نشوء الجمعيات العمالية والحرفية، أسهم إلى حدٍّ كبير في توسيع مساحة المطالبات، والرفض الاجتماعي للسياسات العامة، ومواجهة ضغط الواقع الاقتصادي، فكانت التظاهرات، والإضرابات من العلامات الأولى الدالة على نضج الوعي السياسي والطبقي، وتبنّي دعوات واضحة تدعو إلى الغاء بعض القوانين الجائرة، فضلا عن تحول بعض الخلايا الماركسية السرية إلى قوة دفع اجتماعي وسياسي للضغط، ولإثارة الاهتمام بموضوعية وجود التنظيم السياسي الذي يقود الحراك الشعبي، ويمثل نخبه في المواجهة السياسية، وكان للمنشور السياسي الذي أصدره يوسف سلمان يوسف” فهد” مؤسس الحزب الشيوعي العراقي فيما بعد أثره في اثارة الانتباه إلى اهمية الفاعل الثقافي في التأكيد على النظر إلى تلك القضايا الكبرى، وإلى ضرورة الوعي بالحقوق الوطنية السياسية والطبقية..

التأسيس ومسؤولية المواجهة.

إعلان تأسيس “لجنة مكافحة الاستعمار” في 31/ آذار 1934 كان المنطلق الأول للتأسيس السياسي، ولبدء مسؤولية المواجهة، والتصدي للمهام الوطنية، بوصفها تمثيلا للتنظيم السياسي، ولترسيم حدود أهدافه ونظامه الداخلي، والتعبير عن مواقفه المدافعة عن الحقوق الطبقية والاجتماعية ضد القوى الرجعية والاقطاعية والملاكية، وعبر برنامج واضح الاهداف، في المجال السياسي، عبر المطالبة بإنهاء الاستعمار البريطاني ومعاهداته، وفي المجال الطبقي، عبر المطالبة بإلغاء ديون الفلاحين والحد من الضرائب المجحفة، ومنح حق التظاهر وإقامة النقابات للعمال مع ضمان حقوقهم في المعيش وفي العمل وحرية الرأي..

ربط النضال الطبقي بالنضال السياسي والاجتماعي كان من أكثر التمظهرات التي جسدت دور الحزب الشيوعي في العراق، في إثراء تلك التحولات، وفي جذب الرأي العام له، كما أن ارتباطه بالنضال العالمي جسّد النظرة الانسانية الشمولية لهذا النضال، وأهمية التحالف مع القوى الجديدة في العالم لمواجهة الرأسمالية الشرسة، وما تصنعه من حروب ومن صراعات، ومن أفكار تقوم على جعل المال والقوة والسوق والاستغلال هي المحاور الضاغطة والتي كرسها الاستعمار الغربي للشرق..

السياسات والمراجعات

الأفكار الجديدة للحزب لم تكن سهلة الشيوع، فواجهت منظومة القمع والضغط للحكومات الرجعية، مثلما كانت جزءا من متغيرات السياسة، فما حدث بعد انقلاب بكر صدقي أعطى للحزب فرصة للتعبير عن حضوره السياسي والاجتماعي، لكن طبيعة تلك الحكومات كانت متشابهة، من خلال ارتباطها الخارجي، أو من خلال ضعف بناها الفكرية، وقصور نظر الجهات فيها، وهو ما أسهم بإجهاض مشاركة الحزب الشعبية في التحول السياسي بعد عام 1936 الذي أُسقط أيضا بانقلاب عسكري مضاد.

ولخشية تلك الحكومات من تأثير الحزب في الواقع العراقي، فكان القمع والقهر والاعتقالات والتصفية ظل متواصلا، بوصفه مثالا للرد الرجعي على ذلك التأثير التقدمي، وبهدف الحدّ من فاعلية الحزب في قيادة النضال الاجتماعي والسياسي، والذي بدا واضحا خلال احداث 1948 و1954 وكذلك بعد احداث 1958، والتي تحتاج بالضرورة إلى مراجعة موضوعية ونقدية، والكشف عن ملابساتها، وتأثيرات العوامل الخارجية في “ فجيعة الحزب عام 1963” وتصفية قيادته المركزية، والتي تكررت ما بعد احداث “الجبهة الوطنية” التي افرزت فجيعة أخرى، تسببت بوقوع آلاف الضحايا من أعضاء الحزب..

إن مراجعة تاريخ الحزب بعد 90 عاما على تأسيسه ينطلق من الحاجة إلى الكشف عن دور الحزب التاريخي والثوري في تقعيد مشروع الدولة الوطني، وفي تحويل الدفاع عن الديمقراطية والحريات إلى مشاريع وبرامج راسخة في العقل السياسي العراقي، لكن ذلك لا يعني التغافل عن مراجعة النكسات التي حدثت، بدءا من القضايا التي تتعلّق بانقسام الحزب في الخمسينيات، وفي الستينيات، والتعرّف على أسبابها، وكذلك ضرورة معرفة الاجيال الجديدة من الشيوعيين الأسباب الخفية لفجيعة 1963 وكذلك فجيعة ما بعد “الجبهة الوطنية” والكشف عن ملابساتها، وتأثير العامل الخارجي المُحبط والغامض في إحداث تلك النكسات..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  1. د. سيف عدنان القيسي جريدة المدى/ 18/9 2016
  2. ذات المصدر
  3. ذات المصدر
عرض مقالات: