اخر الاخبار

الصفحة الاولى

 

عن «طريق الشعب» السرية

 

... جريدة الحزب العلنية، اتحاد الشعب، واصلت الصدور حتى الثلاثين من ايلول 1960، برغم ما كانت تتعرض له من تضييقات. فقد شرعت اجهزة الامن بتضييق الخناق على توزيعها وبيعها في بغداد والمناطق الاخرى، وسخرت لهذا الغرض زمراً من الشُقاة للتحرش بمكاتبها وبالعاملين فيها، وبأكشاك بيعها. وكان هؤلاء الشقاة يتحرشون بكل من يتردد على مكاتب تحريرها وبالعاملين في تحريرها، برغم الشكاوى التي كانوا يرفعونها الى الحاكم العسكري العام، الا ان اجهزة الامن كانت تغض النظر عما تفعله هذه الزمر.

وإذ أحس الحكم بأن جريدة الحزب واصلت صدورها برغم ذلك، عمد الى استخدام سلطاته العرفية، فعمد السيد حميد السيد حسين، قائد الفرقة الاولى في الديوانية الى منع دخول الصحيفة الى كل الالوية السبعة التي تمتد اليها سلطاته العرفية في جنوب البلاد، بذريعة ان الجريدة تحرض على مكافحة الامية وتشجع الحملة التي ينهض بها الحزب الشيوعي لمكافحة الامية بين الفلاحين، وخرج على الناس بمقولته سيئة الصيت “امي لص خير من مثقف هدام”، غير ان الحزب عمد الى تهريب الجريدة الى هذه الألوية السبعة برغم كل الموانع التي وضعها الحاكم العسكري لهذه الألوية. ولوحظ ان الطلب عليها تزايد كثيراً بعد المنع. كذلك سخّر عبد الكريم قاسم الصحف الرجعية والمأجورة للتطاول على الحزب الشيوعي وجريدته، وعلى رموز الحركة الوطنية وبلغة بذيئة(1). وكان يريد من هذه الحملة استفزاز “اتحاد الشعب” تمهيداً لغلقها استجابة لالحاح شركات النفط التي كانت تضيق ذرعاً بتعليقاتها حول المفاوضات التي كانت تجريها مع الحكومة.

لقد استطاعت القوى الوطنية ولا سيما الحزب الشيوعي الذي جنّد صحافته والصحف اليسارية الاخرى التي تسانده ان تؤثر في مجرى المفاوضات، وتفرض بحث موضوعات رئيسية أنذاك وفي مقدمتها تخلي الشركات عن الاراضي غير المستثمرة(2). وكانت الشركات تتحسس وطأة صحافة الحزب الشيوعي على المفاوضات. وقد بلغ بها الحال الى ان تطالب بصريح العبارة على لسان رئيس وفدها في المفاوضات، هريدج، بإسكات الجريدة. ولم يتردد عبد الكريم قاسم عن الاستجابة الى الطلب كوسيلة لإرشاء الشركات. فعمد الى تعطيلها لعشرة اشهر بذريعة واهية، وإلغاء امتيازها بعد ذلك. وعمد في الوقت ذاته الى طرد العشرات من خيرة العمال والفنيين التقدميين والمهندسين الوطنيين وجمّد آخرين يعملون في مصافي النفط وغيرها ارضاء لشركات النفط(3).

غير ان عبد الكريم قاسم وشركات النفط قد اخطأت الحساب، إذ تصوروا ان غلق “اتحاد الشعب” سيعطل من قدرة الحزب الشيوعي على إيصال صوته الى الجماهير. ففي اوائل تشرين الثاني من عام 1961، صدرت “طريق الشعب” سراً. وعادت الى الصدور صحيفة “صوت الشعب” لصاحبها محمد حسين ابو العيس، كجريدة يومية اعتباراً من 1 تشرين الثاني 1960، بعد ان كانت تصدر بشكل متقطع منذ آب 1949. وسمحت وزارة الارشاد التي كان يرأسها الوزير اليساري فيصل السامر بإصدار يومي لجريدتي “الحضارة” و “الثبات” الاسبوعيتين، اللتين كانتا تناصران الحزب الشيوعي، وكان للحزب الى جانب ذلك ثلاث صحف اخرى في الألوية لم تتعطل بعد. ولكن الحكومة لجأت في نهاية عام 1960 الى تعطيل كل الصحف الشيوعية، فلجأ الحزب الى الاستعانة بمجلة “14 تموز” الاسبوعية لصاحبتها المحامية نعيمة الوكيل، وأوعز الى المؤلف والى عدنان البراك ومجيد الراضي، ليعملوا فيها كمحررين برئاسة عبد الرحيم شريف حتى اغلقت هي الاخرى.

على عكس ما كانت تتمناه حكومة عبد الكريم قاسم ازداد اقبال الجماهير على صحافة الحزب الشيوعي حين تحولت الى صحافة سرية، وصار تداولها محظوراً. إذ صارت الجماهير تتلهف الى قراءتها حتى بات ما يوزع من العدد الواحد من “طريق الشعب” السرية وحدها يفوق ما يوزع من جميع الصحف القانونية في البلاد(4).    

هكذا كان ما يوزع من 13 جريدة يومية ما بين 32000 و 33 ألف نسخة، بينما وزعت “طريق الشعب” وحدها في آخر عدد لها من خريف 1962 خمسين ألف نسخة. وكان هذا يفوق حتى توزيعها العلني، إذ كان ما يوزع من “اتحاد الشعب” يوميا، في فترتها العلنية، ما بين 24 ألف و 36 الف نسخة وهذا أقصى ما كانت تستطيع مكائنها انتاجه. والى جانب “طريق الشعب” كانت صحيفة “وحدة العمال” و”حياة الفلاحين”، وهما جريدتان سريتان يصدرهما الحزب ايضاً، توزعان ما بين 15 الف و 20 الف نسخة مع ان هذه الارقام جميعها تسد نصف الطلب تقريباً(5). وكان الحزب يصدر ايضاً صحيفتي “صوت الفرات” و “ئازادي” سراً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) شن صاحب جريدة “بغداد” خضر العباسي، حملة من هذا النوع على الحزب و”اتحاد الشعب”. كذلك شن هجوماً بذيئاً على الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري. وشنت “الفجر الجديد” جملة مماثلة على كامل الجادرجي (محمد عويد الدليمي، ص252).

(2) محمد سلمان حسن، دراسات في الاقتصاد العراقي، ص298.

(3) “طريق الشعب” العدد 1 ، اوائل تشرين الثاني 1961.

(4) محضر اجتماع سكرتارية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي في 10/ 12/ 1962 (ثمينة ناجي يوسف، ج2، ص459).

(5) المصدر السابق.

*عزيز سباهي - عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي – الجزء الثاني

 

 

************

هذا الملحق

 

 

ستة عقود من السنين تنقضي هذه الايام على صدور اول عدد من جريدتنا «طريق الشعب».

ففي يوم خريفي من سنة 1961، بعد فترة وجيزة من اغلاق السلطات الحاكمة تعسفا جريدة الحزب الشيوعي العراقي «اتحاد الشعب» العلنية، عاودت الجريدة الصدور، انما بصورة سرية وباسم آخر: «طريق الشعب».

بذلك انطلقت المسيرة الجديدة للجريدة الشيوعية المركزية، التي يعود تاريخ ظهورها الاول تحت اسم «كفاح الشعب» الى ما قبل ذلك بربع قرن ويزيد ، الى سنة 1935.

وكانت مسيرة قاسية في معظمها، شأن مسيرة الحزب نفسه، ضاجة بتفاني ابطالها المعلومين والمجهولين وبتضحياتهم القصوى. كما كانت، كلما تهيأ جو من الحرية النسبية للحزب ولصحافته، تحفل بالانجاز اللامع لمحرري الجريدة وكتابها وشغيلتها، وبنجاحاتها المشهودة صحافيا.

لكننا اليوم في هذا الملحق الذي نكرسه لاحياء الذكرى الستين لصدور «طريق الشعب»، وباستثناء مادتين او ثلاث مما يتضمن (احداها تعود الى صحافة السجون واخرى الى صحافة الانصار)، نركز على مقطع زمني محدد من تلك المسيرة، وهو فترة الصدور العلني الاول للجريدة في السبعينات (1973 – 1979).

لم تكن عادية تلك الفترة، لا سياسيا بما شهدت من صراعات شديدة متنوعة الاشكال وغير متكافئة، بين قوى المجتمع الوطنية الديمقراطية العزلاء الا من الدعم الشعبي الواسع لنهجها وتوجهاتها، وقوى النظام الدموي المدجج بأشد وسائل القمع وحشية، والذي لا يقبل بأقل من الرضوخ لارادته، ولا يطيق معارضة ولا حتى مجرد نقد!

كما لم تكن عادية صحافيا، بما استطاع الحزب الشيوعي حشده من خيرة طاقات ومهارات رفاقه واصدقائه الاعلاميين والمثقفين عموما، وما أحسن تنظيمه وتوجيهه في سائر المحافظات مثلما في العاصمة، وبما هيأ له من جهد تثقيفي وتدريبي واسع لاعداد جيل جديد مؤهل فكريا وسياسيا وفنيا، من الصحفيين المتطلعين الى تسلم المهمات الاعلامية لصحافة الحزب، والقادرين على النهوض بها ومواصلة المشوار بمستوى لائق.

في اجواء هذه الفترة غير العادية سلبا وايجابا، والتي لم ينعم فيها العراق وكل ما فيه يوما بالحرية والامان الحقيقيين وبالاستقرار والطمأنينة، اجترح الحزب الشيوعي ورفاقه واصدقاؤه تلك التجربة الفريدة والرائدة لصحافته، والتي خلص كثيرون من ذوي الاختصاص بعدها الى القول من دون مبالغة، انها جعلت من «طريق الشعب» مدرسة صحفية حقيقية ومتميزة.

وعن جوانب من تلك التجربة يقدم ملحقنا الاستذكاري هذا مواد وشهادات متنوعة: مقالات وذكريات وتسجيلات ويوميات وغيرها، تشكل بمجموعها وثيقة هامة وثمينة عن الجريدة الشيوعية وحيويتها وعطائها الابداعي، حين تتوفر لها الشروط الضرورية للعمل، واولها شرطا العلانية والحرية، ولو النسبية.

وتتميز هذه المواد والشهادات بأهمية خاصة نظرا الى اصالة انتماء كتابها الى تجربة «طريق الشعب» السبعينات. فهم ممن خاضوها، وقبسوا منها، ورفدوها، وأسهموا فيها وفي صنعها، وممن اسهمت تجربة الطريق تلك في المقابل، بدرجة او بأخرى، في تكوينهم وتأصيلهم كمبدعين.

تحية لهم

وتحية لـلذكرى الستين لصدور «طريق الشعب»!

 

رئيس التحرير

*********

فهد صحفياً

... يدلل نشاط “فهد” السياسي والفكري والصحفي في العشرينات واوائل الثلاثينات على سعة جذور الشيوعية في العراق. وقد برز من بين جميع رفاقه الرواد الماركسيين بعمق معرفته بالمزاج الشعبي ووضوحها في اطار وعيه الوطني.

لقد مارس فهد الكتابة الصحفية كنافذة لا غنى عنها لايصال أفكاره، واختبارها، وتوظيفها في خدمة حركة الطبقة العاملة والشعب.. كان مراسلاً لصحيفتي – الأهالي والوطن – والأخيرة كانت لسان حال الحزب الوطني العراقي الذي كان “فهد” عضواً قيادياً فيه. لقد كان يتصل بالصحف البغدادية منذ عام 1927 (1)، كما سافر الى عدد من البلدان العربية لدراسة أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ونشر ملاحظاته ومشاهداته في جريدة “البلاد” العراقية(2).

ويكشف فهد في مقاله المنشور في صحيفة “نداء العمال” باسم “فتى المنتفك” عن نظرة متقدمة الى حقوق كادحي المدن والارياف اطارها المفهوم الطبقي لتلك الحقوق، وتفاصيلها المهمات الأكثر تماساً بمصائر البشرية.. يقول: “ان حركة العامل، تلك الحركة التي عليها تتعلق جلً آمالنا وأسمى امانينا، لا يراد بها الا تحقيق ما تصبو اليه البشرية في الحياة من مساواة واخاء وعدالة”(3).

و“فهد” اول عراقي يقف امام المحكمة مدافعاً عن الشيوعية بعد ان القي عليه القبض عام 1933(4)، بتهمة توزيع نشرات باسم مستعار هو “عامل شيوعي” في مدينة الناصرية، ويومها لم يكن الحزب قد ولد كما لم تكن القوانين التي تحرم اعتناق الشيوعية قد صدرت بعد، وليس من دون معنى ان يجري اعتقاله والتحقيق معه – كما جاء في كتاب متصرفية المنتفك 42 في 21 شباط 1933 – باهتمام وتكتم، “وكان يجيب باصرار : نعم انا شيوعي وليس لدى الشيوعي مال عدا الألبسة والاضطهاد”(5).

وعندما ولد الحزب الشيوعي العراقي لم يكف “فهد” عن نشر آرائه بواسطة العديد من الصحف العلنية، فصحف: المجلة، الحكمة، الحارس، المثل العليا، الشعب، الانقلاب، الراي العام، الأهالي والعصبة كانت تنشر مساهماته التي كانت تثير انتباه القراء والنخب المثقفة، من غير ان يقلل ذلك من اشرافه على صحافة الحزب السرية وتحريرها، فضلاً عن مهماته القيادية، والمهم لمن يبحث هذه الظاهرة ان فهد أسس قاعدة من قواعد العمل الإعلامي للحزب لمواجهة قوانين التحريم والمنع والحجر باستخدام أساليب جديدة في الوصول الى قراء الصحف الحكومية او المرخص لها في ظل إمكانات الواقع ومعرفة مؤشراته، وقد غدت الصحف الوطنية بعد ذلك “تفتح صفحاتها لأقلام الشيوعيين والتقدميين”(6).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 - جريدة “طريق الشعب” 14 شباط 1979

2 - المصدر نفسه

3 - رزاق إبراهيم حسن/ الصحافة العمالية في العراق/ ص22

4 - د. سعاد خيري/ من تاريخ الحركة الثورية/ مصدر سابق ص 55

5 - نص الوثيقة/ جريدة “طريق الشعب” 14 شباط 1977

6 - صباح علي الشاهر/ مجلة “الفكر الجديد” 10 أيار 1975

 

  • من كتاب (“من العصبة” الى “طريق الشعب”) أطروحة ماجستير 1982

***************

الصفحة الثانية

لماذا سرية وليست علنية؟*

عبد المنعم الأعسم

 

مع ان الدستور العراقي قد ضمن منذ وقت طويل «حق ابداء الرأي والنشر» الا ان الحصول على رخصة اصدار صحيفة حرة لا تسير في ركاب السلطات، لم يكن ليتحقق دون صراعات ومكابدات مفعمة بالتضحيات والمجابهات.. وهو لم يكن ينفصل عن الصراع العريض لنيل الاستقلال الوطني او تثبيت الحقوق القومية للشعب الكردي او ضمان التطور الاقتصادي المستقل وتحسين مستوى معيشة الكادحين، وسوى ذلك من المهمات الوطنية الكبرى التي كانت مدار صراع متواصل.

وفي ظل حكومة نصبها الاوصياء الإنكليز منذ العشرينات او حكومات وطنية وقومية لا ديمقراطية فيما بعد، تضطر الأحزاب الطليعية من وقت لآخر الى العمل التنظيمي السري، ساحبة معها الى السر صحافتها، فيما تحاول الإفادة من بعض المنابر الإعلامية والسياسية لإيصال افكارها واستثمار إمكانيات اصدار صحف خاصة بها قدر توفر تلك الفرص.

وهذا ما حدث للحزب الشيوعي العراقي، فالفرص التي توفرت لاصدار صحف تقدمية ديمقراطية، قانونية، وبخاصة تلك التي تعبر عن رأي الشيوعيين في العراق ارتبطت على مدى خمسين سنة بظروف تميزت بالانفراج السياسي وبنجاحات نسبية للحركة الوطنية.. بمعنى آخر انها لم تكن منًة من الحكومات القائمة او تعبيراً عن قناعاتها بهذا الحق، او تسليماً كلياً به.. وبكلمة، كان الامر خلافاً لارادة الشرائح الأكثر يمينية في صفوف الطبقة الحاكمة.

فسنوات صدور صحافة علنية مركزية للحزب الشيوعي العراقي أعوام 1946- 1948 (العصبة/ الأساس) وسنوات ثورة 14 تموز 1958 (اتحاد الشعب/ آزادي/ 14 تموز ..الخ) واعوام السبعينات (طريق الشعب/ الفكر الجديد/ الثقافة الجديدة/ ريكاي كردستان) تميزت بتصاعد نوعي في النضال الشعبي ونهوض في كفاح الملايين المهمشة والكادحة، استطاع الحزب معها انتزاع حق النشر العلني، حين لم يكن للحكام خيار في القبول على مضض بصحافة الحزب العلنية في العهود الثلاث على خلاف التركيبة السياسية والاجتماعية لحكوماتها.. وعبّر ذلك «التشابه» عن نفسه بظاهرتين تاريخيتين ملموستين:

الأولى: محاربة تلك الصحف العلنية، المجازة قانونياً وتحريم قراءتها والحيلولة دون انتشارها بطرق مختلفة.. مما سيرد تفصيله في فصول لاحقة.

الثانية: غياب الاطار القانونية الراسخ الذي ينظم هذا الحق ويرسيه على أساس دائم ومستقر، بما يضمن استمرارها علناً ويدفع عنها سياط الاغلاق.

وعلى العكس من ذلك فإن سنوات الهجوم المحافظ على القوى الشعبية وجدت انعكاساً لها، من بين انعكاسات عدة، في اختفاء الصحافة الوطنية والنقابية العلنية، وتزايد مظاهر النشر السري للأحزاب السياسية وفي المقدمة منها الحزب الشيوعي العراقي الذي يعد اول حزب عراقي يلجأ الى النشر السري.

فحتى أواسط الثلاثينيات من القرن الماضي وهي الحقبة التي صدرت خلالها جريدة «كفاح الشعب» السرية لم يعهد العراقي هذا النوع من الصحافة. وقد دشن الحزب الشيوعي العراقي في مبادرته هذه عهد النشر السري المعارض، حتى صار ذلك النشر في فترات لاحقة الوسيلة الإعلامية الوحيدة المتاحة لنشر اهداف الحركة الوطنية(1).

ان «كفاح الشعب» التي صدرت عام 1935 سجلت بداية إعلامية خطيرة، ويومها قال وزير داخلية العراق آنذاك عندما عاد الى العاصمة بعد اشرافه على عمليات قمع حركة الفلاحين في منطقة سوق الشيوخ: «اذا ما ثبتت افكارها فيستحيل علينا قلعها..»(2).

على انه ليس ولعاً لدى الشيوعيين العراقيين ان يلجأوا الى السرية في عملهم او في نشر صحافتهم، وليس خشية من الشارع، انه اجراء اضطراري مؤقت للرد على هجوم الحكام الذين «يحرمون الطبقة العاملة وجماهير الشغيلة من الممارسة العلنية لحقوقها الديمقراطية: حق التنظيم الحزبي والنقابي والتعبير عن الرأي»(3). وهم لم يكونوا يوماً من عشاق العمل السري ولم يختاروا بمحض رغبتهم اللجوء الى إقامة التنظيم السري والى مخاطبة جمهورهم وشعبهم من خلال المنشورات السرية(4)، ولم يفرطوا بأية مناسبة للنفاد الى عالم النشر العلني وقد استطاعوا في فترات عديدة، وبأساليب مختلفة، اصدار الصحف الناطقة بأسمهم او المساهمة في تحرير صحف محلية حزبية او ديمقراطية مستقلة، فقد «استفاد الحزب من الصحافة العلنية الحزبية والفردية، وغذاها بالمقالات ودفع رفاقاً غير مكشوفين، ومثقفين ثوريين وديمقراطيين من أنصاره للاشتغال بها»(5).

لقد اغنى الشيوعيون العراقيون صحافة بلادهم بثقافتهم ومعارفهم وافكارهم الجديدة، واكدوا قدراتهم على التعامل مع الواقع الحي المتشابك وملامسة المشكلات الجوهرية لحياة الشعب، وأوجدوا لغة مشتركة مع كادحيه ومثقفيه، وتعرض العديدون منهم في غمرة ذلك الى حملات القمع والسجن والنفي كضريبة عن تمسكهم بقضة الحرية، او بسبب مقالات نشرت بأسمائهم في صحف شرعية، ومع ذلك فان الشيوعيين لم يترددوا في الإعلان عن نزوعهم الى النشر العلني دائماً والتمسك به والدفاع عنه كحق مشروع.

ومنعا لوصول أفكار التحرير الى الشعب كانت السلطات الحاكمة تلجأ دائماً وكلما تسنى لها ذلك الى اغلاق الصحف الحرة المرخص لها، ولم يسلم من قرارات الاغلاق حتى تلك الصحف الليبرالية وشبه الرسمية. وفي الغالب تقوم السلطات بذلك عندما تبيت مخططاً نحو مصادرة الحريات الهجوم على مصالح الشعب والوطن.. وحتى اذا ما بيتت ذلك – احياناً – فانها تنتهي الى ذلك الموقع الذي انقطعت فيه كلياً عن ان تكون حكومات مستقلة الإرادة.

وهكذا اكدت وقائع التاريخ التي لم تعد بعيدة.. فالاجراءات الأولية التي اتخذتها حكومة ارشد العمري أواسط عام 1946 بضرب الصحافة الشيوعية والوطنية كانت تستهدف تبليط السبيل امام دخول قوات بريطانية جديدة الى العراق في نطاق معاهدة 1930 الجائرة، وكانت جريدة «الرأي العام» اول من أشار الى شائعة وصول قوات اجنبية الى العراقي في 19 حزيران 1946، فقامت السلطة باغلاق الجريدة، تبعتها سلسلة من الإجراءات للتضييق على حرية الفكر، فعطلت جرائد (الجهاد/ والرقيب/ والنداء/ التقدم/ والبعث) واحيلت جريدة «السياسة» و «صوت الأهالي» الى المحاكمة فصدرت الاحكام بتعطيلها(6).

وقبيل هذا الوقت أغلقت السلطة صحيفة «العصبة» القريبة من الحزب الشيوعي العراقي، ولم تكن الحكومة قد تمكنت – كما قالت صحيفة الوطن آنذاك – من استفزاز مشاعر الشعب بالسماح للقوات البريطانية بدخول العراق «الا بعد ان اثمرت حملتها الإرهابية ضد الوطنيين والصحافة الوطنية»(7).

وعلى أثر حكومة العمري مضت حكومة صالح جبر بعد حوالي سنتين، حيث كانت تبيت عقد معاهدة جديدة جائرة مع الاستعماريين البريطانيين «بورت سموث» فمهدت لها باغلاق جريدة «الوطن» لسان حال حزب الشعب في 7 آذار وجريدة «السياسة» لسان حال حزب الاتحاد الوطني في 30 أيار وجريدة «صوت الأهالي» لسان الحزب الوطني الديمقراطي في 9 حزيران 1947 (8).

وأملاً في امرار – حلف بغداد – أداة الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفيتي من دون معارضة أصدرت حكومة نوري سعيد عام 1954 المرسوم (24) الذي قضى باغلاق 131 جريدة و 62 مجلة بين سياسية وثقافية.. وقبل ذلك كانت وزارة الداخلية قد قضت بإلغاء كافة الجمعيات والنوادي الثقافية والسياسية(9)، وألزمت الصحف القليلة المتبقية بنشر أكاذيب عن الشيوعيين وحزبهم وتشويهات عن الحركة الشيوعية العالمية والاتحاد السوفيتي في محاولة إعلامية مبكرة لتمرير الحلف.

وشهدت أوائل الستينات حملة على الصحافة الوطنية والشيوعية في مقدمتها ارتباطاً مع سياسة التنكر لحقوق الجماهير الديمقراطية وحقوق الشعب الكردي القومية ونهج اضعاف النضال ضد الامبريالية. فقد تعطلت غالبية الصحف الحزبية واليسارية على اثر إيقاف الحزب الوطني الديمقراطي لنشاطه السياسي وإيقاف جريدة «الأهالي» عن الصدور، واحتجاب جريدة «خه بات» لسان حال الحزب الوطني الديمقراطي الكردستاني على اثر اندلاع نيران الاقتتال في ربوع كردستان في 11 أيلول 1961، وتعطيل «اتحاد الشعب» لسان حال الحزب الشيوعي العراقي»(10).

ومعروف ان النهج المعادي للديمقراطية الذي سلكته قيادة ثورة تموز 1958 وحرم الشعب من اقنية التعبير الحر ومن تبصير القيادة بالاخطار المحدقة بالبلاد قد انتهى بها الى السقوط على يد القوى الفاشية في انقلاب 8 شباط 1963 وهي المعادلة التي تكررت في العهد الذي ورث السلطة عن البعث (العهد العارفي) واستمر في صيغة أخرى في عهد البعث الثاني (انقلاب 1968) الذي فتح هامشاً ضيقاً لصحافة الحزب الشيوعي سرعان ما اطبق عليه في خلال تنامي قوة وبأس النظام الدكتاتوري.

فمنذ العام 1975 ولاربعة أعوام لاحقة واجهت الصحافة العراقية تضييقاً واسعاً، فقد ضاق حكم البعث ذرعاً بصحافة حرة مستقلة عن خطابه ومشروعه لاقامة دولة الحرب، فراح يمارس القمع والإرهاب ضد الصحف والمجلات المستقلة عنه مثل «التآخي» و«طريق الشعب» و«الفكر الجديد» و«الثقافة الجديدة» في سلسلة من سياسات التحجيم من خلال الإنذارات المستمرة لهذه الصحف ومن خلال وأد ساحة الانتشار(11).

ومن الواضح ان الهجوم على الصحف المستقلة عن السلطة وحزبها وعلى صحف الحزب الشيوعي قد اتخذ هدفاً يتجاوز حدود مصادرة حقوق التعبير عن الرأي الى مشروع خطير يستهدف تغيير هوية البلاد ومضامين ثقافتها الوطنية وإخضاع مشيئتها الى إرادة فرد واحد مهووس بالسلطة والحرب.

ان محاربة الصحافة العلنية للشيوعيين ولجمها جرى دائماً في مناخ صعود الرجعية والتطرف القومي والديني والخشية من الحرية، وحاجة هذا النهج الى اخلاء الساحة من أصوات المعارضة.

«ان الأنظمة الرجعية لم تحم نفسها بقوة السلاح فحسب، بل كذلك عن طريق نشر المفاهيم المضللة والثقافات المسمومة، واستخدمت لذلك أجهزة الاعلام من إذاعة وتلفزيون وصحافة لنشر الأفكار المعادية للحرية والديمقراطية والتقدم والاشتراكية»(12).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 - قيس عبد الحسين الياسري- الصحافة الوطنية والحركة الوطنية في العراق- منشورات وزارة الثقافة والفنون – بغداد ص41

2 - د. سعاد خيري / من تاريخ الحركة الثورية المعاصرة في العراق/ الجزء الأول/ طبعة بغداد ص65

3 - وثائق المؤتمر الثاني للحزب الشيوعي العراقي 1970/ كراس ص131

4 - بهاء الدين نوري/ الفكر الجديد 1/ 4/ 1978

5 - عبد الرزاق الصافي/ المسؤولية إزاء التاريخ/ مجلة الوقت عدد 12 كانون الأول 1978

6 - جعفر عبد الحميد/ التطورات السياسية في العراق/ مطبوعات جامعة الموصل ص444

7 - صحيفة الوطن 26 آب 1946

8 - جعفر عباس حميدي/ مصدر سابق ص 463

9 - فائق بطي/ الموسوعة الصحفية العراقية ص88 

10 - المصدر نفسه ص321

11 - مذكرة رابطة الكتاب والصحفيين والفنانين الديمقراطيين العراقيين وزعت على أعضاء المؤتمر الثالث لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين وضمت الى الوثائق.

12 - وثائق المؤتمر الوطني الثاني/ مصدر سابق/ ص125

 

  • من كتاب (“من العصبة” الى “طريق الشعب”) أطروحة ماجستير 1982

*******

الصفحة الثالثة

العناقيد بمتناول يد السجناء في «النقرة»..

جاسم المطير

 

يعتبر العمل اليومي داخل السجن  طريقة من طرق الفيلسوف المسرحي العالمي الروسي قسطنطين ستانسلافسكي ( 1863 – 1938)، تعلمناها منه ومن فنونه التمثيلية، للتخلص التام من تركيب الشخصية المتناقضة سيكولوجياً، من حيث الرفعة والضياء، ومن حيث مقدار الجهد الإنساني المبذول في يوم واحد أو في ساعة واحدة من قبل إنسان عراقيٍ مقيد بالحديد والنار في ستينيات القرن العشرين. وهي في اغلب الاحيان تعبّر عن شخصية (الإنسان الثرثار) من الناس  المتسابقين في الكلام مع أنفسهم، ضد الناس المتسابقين مع غيرهم بكل أرض الدنيا، من أجل ان يعبّر هؤلاء الناس، المتوقدين بالنضال، بوصفهِ شعوراً ذاتياً، لا يمكن انتزاعه من قلب المناضل العراقي حيث ملاذه الأخير موتا بين اسوار (النقرة) أو حاملاً (صدرية الكرامة) حين اطلاق سراحه. 

من المعروف أن شخصية السجين السياسي، الشيوعي خصوصاً، هي الشخصية المتعددة الأصوات، اي التي تتكلم مع نفسها، يعاتبها صوته، ليس بمستوى الشاعر العربي القديم أبي العتاهية، حيث صوّر(مجلس الحكومة، مجلس الوزراء، بأحلى من غادة هيفاء ،مدللة. افتتن الناس بها، جميعاً..  انها تجر اذيالها تيهاً وفخراً) لكي تثير غرائز البشرية.

هكذا ينظر الصحفيون المنتمون الى  مهنتهم.انها تمنحهم القوة الخارقة في عملية التغيير، تغيير الناس والمجتمع، وتغيير كل شيء في الحياة وفي حياتهم، حتى انها تغيّرهم كلياً.  لا شك ان المعايير الاولى في التغيير  تقوم على اخلاقيتي (الخير) و (الشر). يتعيّن على (سجين الخير) ان يستخدم (مواصفات) ملائمة للشجاعة الإنسانية و المروءة القصوى، الشجاعة والمروءة غير المتناقضة الواحدة مع الأخرى او مع رغائب الشخصيات المتكاملة، المتخلصة، من تناقضاتها .. المتجهة نحو الأمامِ بكل ما (يؤخذ) من حدود العمل والتغلغل فيه او في حدود ما (يعطيه) الانسان.

هنا، نواجه حالتين عمليتين: الأولى هي (الأخذ)، والثانية هي (العطاء).

من دون شك ان تأثير الإنسان السجين على طبيعة الوجود السجنيِ، بالغ التعقيد، هو تأثير واسع وثقيل، بمعنى انه مثل الشمعة يحترق، لكن من دون ان يضيء للناس. انه لا يضيء على بعض الفعاليات الإنسانية، السجنية، بما في ذلك مهمة (العمل الاعلامي) الداخلي. أقصد بالداخلي، هنا، هو العمل السجني البحت، أي ما يجلو من السجناء وإليهم. كل أولوية سجنية يمكن ان تقوم بمقدار الاستعداد الكلّيِ، المكرّس لقطاع الاعلام أولاً و أخيراً.

المعنى الاعلامي المقصود، هنا، حسب واقع السجن والسجناءِ، أنه المقصود عن بعض احداث وقعت في (نقرة السلمان). احاول أن أبني (دراما ليست آنية)  فوق  مبنى (دراما الانفعالات اليومية)، وهي دراما آنية في بوتقة المشاكل اليومية ذات (الشاكلة الواحدة) الجارية بـ(النقرة). مع الأخذ بعين الاعتبار قدرات الصحفيين العديدين الموجودين بـ(النقرة) وخواص الموقف الصحفي وإمكانيات تطوّرهِ، في العمل  السجني، المغاير، من حيث (الشكل) و(المحتوى) عن (الورك شوب) في العملِ الصحفيِ، قبل فترة السجن، أيام التحرر من باطل كل قيد بوليسيٍ.

اول المفاهيم الجدية واجهناها، نحن الصحفيين، الجادين، حال شعورنا ان الشمس في (النقرة) ليست منيرة. بمعنى ان عملنا ليلي فقط . أي أننا لا نمسك قلم الكتابة والتدوين إلاّ في الليل، إلاّ في الظلام. نواجه الخبر، ليلاً، حتى لو وقع الحدث في منتصف الظهيرة.

لا ندري .. هل ان العمل الصحفي في ( نقرة السلمان) يساوي مقداره وحجمه 50% من مقدار وحجم  العمل الصحفي الاعتيادي، خارج السجن، ام هو ضعفه. هل هو (نصف تكتيك) العمل الصحفي في جريدة اخبارية  معينة او في مجلة ثقافية عمومية في العاصمة بغداد او في مدينة العمال والمثقفين بالبصرة .. هذا ما كنا نحس به أو يحسّ بنا. كنا نعمل ليلاً ست او سبع ساعات متواصلة، لا يقطعها غير تناول استكان شاي أو تناول فنجان قهوة. كان التعب والنعاس يضرب منا جهد الدماغ والعيون. لكن التحدي السجني يجعل كل واحد منا متفوقاً على دوره بكل ممارساته في اي شكلٍ من أشكال الدراما السجنية.

كان الشعور بالسعادة يتفوق على كل نوعٍ من أنواع (الفرح) و (النصر) حتى ولو كان ذلك النصر بعد كفاح مرير يمر به السجين في مرحلة (الاضراب العام عن الطعام) الذي قد يتجاوز في بعض الحالات، التي مر بها سجناء سياسيون سابقون من أمثال سلطان ملا علي وعبد الحسين خليفة وسامي احمد وعبد الوهاب طاهر وغيرهم كثيرون من الذين تجاوز اضرابهم عن الطعام مدة شهر واحد او يزيد، في سجن بعقوبة الهمجي أو غيره.

في فترة لاحقة لجريمة الانقلاب البعثي في 8 شباط 1963 واصل اعضاء هيئة تحرير الجريدة السجنية، بتلك الفترة و ما بعدها، عملهم اليومي بكل ليلة، بصورة سرية للغاية.

ليس لعدد رفاق (هيئة التحرير) تحديد معين. احياناً يكون محرراً قديراً واحداً، احياناً أثنين. ربما يصل  العدد إلى ستة رفاق مناضلين، صحفيين سابقين، ممن يملكون في حياتهم، قبل السجن، جزءا منه ضمن العمل الصحفي النشيط. احياناً يصبح العدد خمسة  احيانا يهبط الى اربعة او ثلاثة. الاسباب في هذا النقصان تعود، غالباً، الى عمليات اطلاق سراح المعتقلين والسجناء بعد عام 63، جزءاً بعد جزء ، في محاولة اثبات ان تلك المرحلة تختلفعن مرحلة الحكم البعثي، خاصة وان الادعاء بمحاربة البعثيين كان ملموساً في بيانات وتصريحات عبد السلام عارف و عبد الرحمن عارف وآخرين بمناسبات مختلفة . كنا انا وسامي احمد العامري، محررين ثابتين، غير متغيرين. كما ان بعضهم و هوالقليل ، واحد أو أثنان من اعضاء هيئة التحرير قد جرى انسحابه، بناءً على طلبه من مثل الرفيق المترجم صالح الشالجي بسبب تفرغه التام لرعاية المعلم المصلاوي الشهير (يحي قاف) العاجز عن الحركة بسبب كبر سنّه واشتداد مرضه.  

كان الفيلسوف الاسباني ريمون لول (1235 - 1315) قد درس اللغة العربية والمنطق دراسة مستفيضة. صرف جهداً مدته 10 سنين، حتى كان من اوائل المستشرقين الأوربيين، المطالبين بتدريس اللغة العربية في الجامعات الاوربية، مما دفع هيئة تحرير النشرة السجنية، الى التعريف بمؤلفات ابن رشد والرشديين و ابن سينا والفارابي وغيرهم من عباقرة العرب، مقارنةً بالفلاسفةِ الأغارقة، خاصةً افلاطون وأرسطو وامثالهما، فضلاً عن قيام النشر السجنيِ في (النقرة) ،كلّ يوم، بتناولِ شخصيةٍ عراقية من أمثال الدكتور علي الوردي ويوسف العاني والروائي العراقي غائب طعمة فرمان والممثلة الطليعية زينب ورفيقتها ناهدة الرماح وغيرهم.

كانت النشرة موضع اهتمام (اللجنة الثقافية)، السجنية، الجامعة لجميع المثقفين، المعتقلين أو المحبوسين في (النقرة) حتى سميت السنوات الستينية بهذا السجن (عصر النهضة) لأن (النقرة) نشرت جميع علامات عصر النهوض من كبوة الوطن العراقي والحزب الشيوعي. ركّزت النشرة السجنية الصادرة عنهم اخبارها وتقاريرها ودراساتها اللغوية عن الفلاسفة المهتمين بالشؤون العربية، خاصة وأن العديد من الجامعات الاوربية ظلّت تبحث في (المخطوطات) و(المطبوعات)، التراثية العربية المشار إليها في نشرة (نقرة السلمان) التي تبنّت القيام، كل يوم، بنشرِ نزعة تنوير السجناء وتمجيدِ العقلِ البروليتاري خصوصاً، والانسانية بصورة عامة، رغم وجود وتنامي عاصفة من الارهابِ الفكري الرسمي على تمجيد القتل اليومي بحق آلاف المناضلين.

لقد شعر الصحفيون السجناء بتلك الفترة بـ(قوتهم) الفكرية وبضرورةِ النضال السجنيِ ضد جميع القيود النفسية، التي فرضها الحرس القومي الفاشي وإرادة حزب البعث الفعّالة في لحظات الجرائم المرتكبة بـ(قصر النهاية) حيث كان كل واحد من الشيوعيين المعتقلين حسب نشرة النقرة قريباً من التصفية الجسدية أو من الموتِ الممسرح، كأن يكون  تحت التعذيب بموجب البيان الفاشي رقم 13 او بواسطة المؤامرات والحركات الليلية البعثية المروعة في بعض البيوت البغدادية.

انني بهذه المناسبة الثورية الكبرى اتذكر دور الرفاق الذين تشرفت أثناء العمل الكبير معهم، في مقدمتهم وأولهم سامي احمد وعزيز سباهي الذي عمل بالنشرة محررا لعدة شهور كما عمل فيها الراحل أخيراً الرفيق النجفي (صاحب الحكيم)، ومع أدوار الرفاق الآخرين، من الذين ساندوا الروح الساخرة، المتبناة، بنشرة (النقرة) حين تناوب ازدراء المحررين كل من الرفيق همام عبد الغني المراني ومحمد الملا عبد الكريم وغيرهم ضد النفاق والكذب السياسي المرسومين في خطابات ابرز بابوات الوحدة العربية الفاشستية. كما لا يسعني، هنا غير توجيه التحية الشهمة المستريحة لكل الذين كانوا وراء توزيع النشرة وكتابة نسخها اليومية وتوزيعها في الوادي الرطب من سجن النقرة الذي كان يصدر منه الصوت العالي:

زولوا ايها الفاشست،

قمنا بالتنوير.

كانت نشرة النقرة يديرها ويتناوب على تحريرها، تلامذة الفكر المدني العراقي المتجاوب مع السويسري – الفرنسي – الانكليزي،  من امثال الاساتذة المعلمين، جان جاك روسو و فولتير وبينهم الكاتب العالمي الخالد وليم شكسبير، ذي الموهبةِ العظيمة، الخصبة الخيال  المشبوبة الحساسية.

ظلّت (النشرةُ) من أولِ يوم صدورها، حتى اليوم، رمزاً من رموز الغنى والمجد الديمقراطي والسعادة الشعبية  لبناء الدولة المدنية والمجتمع العراقي الحضاري القادم.

 

بصرة لاهاي في 4 اكتوبر 2021

************

الصحافة الأنصارية

«نهج الأنصار» (ريبازي بيشمركه) أنموذجاًؤ

داود أمين

 

ضمت حركة الأنصار الشيوعيين العراقيين، التي نشأت تشكيلاتها الأولى وبشكل عفوي في كردستان، أواخر عام ١٩٧٨، وامتدت أكثر من عقد من السنين، ضمت نخبة من المثقفين العراقيين، من فنانين وأدباء وصحفيين ومختصين، في مختلف مجالات المعارف والعلوم كالأطباء والمهندسين والطيارين والمحامين والمدرسين والمعلمين وغيرهم. وبذلك اختلفت الحركة الأنصارية بشكلها الجديد عن حركة بيشمركة الأحزاب القومية الكردية، ذات القاعدة الفلاحية الواسعة، وتختلف أيضاً عن حركة الأنصار الشيوعيين السابقة عام ١٩٦٣، والتي إعتمدت وقتها بشكل رئيسي على الرفاق والأصدقاء من أبناء المنطقة الكردية. كما ضمت هذه الحركة مزيجاً من قوميات شعبنا بعربه وكرده وكلدانه وأشورييه وتركمانه. وفي ثنايا هذا التشكيل المتنوع من القوميات والأختصاصات، نمت وإزدهرت حركة ثقافية وإعلامية يندر مثيلها، حركة تميزت بالغنى والتنوع والإبتكار، رغم الظروف الموضوعية الصعبة.

في أذار ١٩٧٨ عقدت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي إجتماعها الإعتيادي في ظروف بالغة التعقيد، إِذ تفاقمت حملة البعث لتصفية منظمات الحزب، والتضييق على نشاطاته وصحافته، ففي عام ١٩٧٧ لوحده إستدعي أكثر من سبعة ألاف رفيق وصديق من قبل الأجهزة القمعية للسلطة، لذلك جرى في هذا الإجتماع وبشكل واضح وصريح نقد سياسة وممارسات سلطة البعث، خصوصاً سياسة التبعيث القسري للمجتمع والدولة، وتعريب المنطقة الكردية، وتشويه مضامين الحكم الذاتي في كردستان. وكان مضمون هذا التقرير إنعطافاً واضحاً في سياسة حزبنا نحو المعارضة، لذلك سرعان ما جاء رد البعث عنيفاً، أولاً من خلال مهاجمة التقرير الصادر عن إجتماع اللجنة المركزية في جريدة ( الراصد ) في ٥ أيار ١٩٧٨، ثم تبع ذلك إصدار أحكام الإعدام في ١٨ أيار ١٩٧٨ بحق ٣١ مواطناً من الشيوعيين وأصدقائهم، بحجة تكوينهم لتنظيم شيوعي عسكري!! وكانت تلك مقدمات إنهيار تجربة الجبهة الوطنية بينَ حزبنا الشيوعي العراقي وحزب البعث الحاكم، وإضطرار حزبنا للإنتقال للمعارضة وإقرار سياسة الكفاح المسلح، وتشكيل فصائل الأنصار(البيشمركة ) في كردستان بشكل رسمي وواضح في إجتماع اللجنة المركزية عام ١٩٧٩.

في بداية عام ١٩٧٩ بادرت كوادر قيادية من الحزب وبالذات من منطقة إقليم كردستان، للتوجه الى الجبل، من أجل الدفاع ليس عن وجود الحزب فقط، وإنما عن الشعب أيضاً. وكانت بداية القواعد الأنصارية في منطقة ( نوزنك)، وبالطبع كان الإعلام مهمة رئيسية لقيادة الحزب وكوادره ولمئات الرفاق الذين بادروا مع الأيام للإلتحاق بقوات الأنصار، قادمين من مختلف مدن الداخل العراقي، وأيضاً من مختلف دول العالم، وبينهم العشرات من الإعلاميين والصحفيين، ومن جميع قوميات شعبنا، من العرب والكرد والتركمان والكلدوأشوريين وغيرهم، وهكذا بدأت التجارب الإعلامية تولد في مختلف المواقع الأنصارية، في بهدينان وأربيل والسليمانية، على شكل نشرات حائطية ومجلات دفترية أولاً، ثم تطورت الى صحف ومجلات وإذاعة باللغتين العربية والكردية.

ومع تشكيل المكتب العسكري المركزي للحزب (معم)، والذي كان مقره في البداية في نوزنك، ثم إنتقل الى منطقة بشتاشان، وفي ٨ شباط ١٩٨٠ تم إصدار العدد الأول من صحيفة (نهج الأنصار) باللغة العربية و(ريبازي بيشمركة) بالكردية، وكانت في البداية تطبع على الألة الكاتبة وبثمان صفحات وبحجم صغير، وباللغتين العربية والكردية، وتوزع في مناطق مختلفة من كردستان العراق، ثم يعاد طبعها على شكل جريدة وبحروف طباعية عادية خارج العراق وبصفحتين فقط، حيث توزع بشكل واسع هناك.

وأول الرفاق الذين عملوا في هذه الصحيفة الرفيق أسو كريم الذي كان يترجم من العربية للكردية ويراجع ترجمته الرفيق رفيق صابر، كما عمل في الصحيفة الرفاق  تحسين عثمان، وجورج منصور (أبو أمل) وتحسين محمد خليل (أبو دلشاد) ونجيب حنا(أبو جنان). وظل هؤلاء الرفاق يعملون في(نهج الأنصار) حتى جريمة هجوم قوات الإتحاد الوطني الكردستاني( أوك ) في أيار ١٩٨٣، على مقرات الحزب الرئيسية في بشتاشان، وتوقف الصحيفة وإذاعة الحزب ومعظم وسائل إعلامه. وكانت مواد الصحيفة تتضمن في كل عدد مقالا إفتتاحيا وفعاليات أنصارية وأخبار الحزب وقيادته وبعض المقالات والأخبار والمواد الثقافية.

بعد المؤتمر الرابع للحزب خريف عام ١٩٨٥، صدر قرار من قبل قيادة الحزب، بتوحيد الجهد الإعلامي لكافة القواطع الأنصارية وإعادة إصدار صحيفة المكتب العسكري المركزي(نهج الأنصار)، وبهيئة تحرير جديدة تتكون من الرفيقة الفقيدة  بشرى برتو رئيسة التحرير، والرفيق صوفي عبد الله(أبو تارا) وأنا كمحررن فيها، وكنت وقتها مسؤولاً لإعلام قاطع بهدينان، ونقوم بإصدار صحيفة شهرية للقاطع هي(النصير)، لذلك كان قرار نقلي مؤلماً لقيادة قاطع بهدينان ولنا نحن العاملين في إعلام القاطع، ولكني بالتأكيد نفذت قرار الحزب وإنتقلت الى مقر الإعلام المركزي في منطقة(خواكورك) لأعمل بالإضافة للمهمة التي نقلت بسببها كمحرر في صحيفة(نهج الأنصار)، وعملت أيضاً كمذيع في إذاعة الحزب المركزية وأيضاً في هيئة تحرير صحيفة الحزب المركزية(طريق الشعب) ومهام حزبية أخرى.

وفي هذه الفترة التي إستمرت حوالي ثلاث سنوات تميزت مواد(نهج الأنصار) بتغطيتها لكافة العمليات العسكرية لأنصار الحزب، وفي جميع قواطع كردستان، كما تميزت الصحيفة بصلتها المباشرة بالأنصار، من خلال الزيارات الميدانية للقواطع، كقاطعي أربيل وبهدينان، وكنتَ أنا من يقوم بهذه الزيارات ممثلاً عن الصحيفة، حيث التقي بالأنصار وأسجل تفاصيل المعارك والعمليات العسكرية التي يقومون بها، كذلك أحصل على نسخ من كتاباتهم الأدبية وقصائدهم وذكرياتهم وأوضاع مناطقهم. لقد كانت صحيفة (نهج الأنصار) تشمل جميع القواطع الأنصارية وتغطي عموم مناطقها، لذلك إكتسبت جماهيرية واسعة من قبل الأنصار، وكانت كتاباتهم لها غزيرة ودائمة .

***********

 

الصفحة الرابعة

«طريق الشعب» مدرستي المهنية وبيتي الثاني

منى سعيد

 

لم يتقبل الأهل فكرة انضمامي لأسرة “طريق الشعب” في العام 1975، وأنا الطالبة في المرحلة الثالثة من الدراسة الجامعية، رفضوا، لما يتطلبه تواجدي حتى ساعة متأخرة من الليل في مطبعة الروّاد الكائنة وسط مجموعة بيوت الأمن العامة بمنطقة بارك السعدون، القصر الأبيض آنذاك، قبل انتقالها لمبنى حديث في قناة الجيش.

ناقشوني وبحدة، فالوضع السياسي قلق جدا، واصطياد الشيوعيين ماض بوتيرة متسارعة.

أقنعتهم بإصراري على ضرورة تحقيق أملي بنيل فرصة العمل ضمن إطار صحيفة “طريق الشعب” وقد كانت حلما صعب المنال، وبتأكيدي على صيانة وضعي الاجتماعي والحفاظ على سمعتي وسلوكي الشخصي المنضبط حتى رضخوا.

بلوغ مطبعة الرواد يتطلب السير بين بيوت الأمن العامة، و كنا نغنّي ساخرين “إحنا والأمن جيران”.

استقبلني بحفاوة في استعلامات المطبعة الصديق “ ليث الحمداني” ( المقيم حاليا في كندا)، شد على يدي مرحبا واصطحبني إلى الطابق الأول من المطبعة حيث مكتب إدارة القسم الفني.

هناك أنكب شاب على رسم خطوط عناوين الصحيفة بدأب ودقة شديدين، قدمني الحمداني لذلك الشاب (زوجي الشهيد في ما بعد)، سامي العتابي، معرفا باسمي وبصيغة عملي الجديد في قسم مونتاج الصحيفة التابع للقسم الفني.

التحقت بقسم المونتاج الذي ضم شبابا وشابات رائعين، أمثال انتشال التميمي (مدير مهرجان الجونة المصري السينمائي حاليا) وأخته زاهرة، ثائرة فخري (استشهدت بقصف إسرائيلي على بيروت في الثمانينات)، عبد الله الرجب، جابر سفر، رحيم فالح، عفّان جاسم، محمود حمد  ، عباس  ، عبد الرحمن  ، بيمان سعيد، وغيرهم.

نشأت بيننا علاقات محبة وتضامن وانسجام. يعج القسم بالمرح والضحك عاليا  بإطلاق النكات من قبل المشرفين الفنيين بحضور الخطاطين سامي وأخويه جمال وصفاء العتابي، وعبد علي طعمة، والمصممين، أمثال حسام الصفار، والمتابعين الفنيين قيس قاسم ومصطفى أحمد.

 مثَّل لنا كل يوم في القسم عهدا جديدا من الخبرة والتعلم وبلورة الشخصية، عملنا بصحيفة تُصفّ حروفها بطريقة “اللاينو تايب” وتطبع على “شيتات” من الورق الأبيض اللامع، يتسلمه قسمنا، نشرع أولا برسم صفحة الجريدة وفق “ماكيت نموذج” تصميم القسم الفني، مستخدمين أنواعا خاصة من أقلام “الروترنغ” والفراجيل والمساطر بخطوط دقيقة جدا.

نقص بعدها مادة الصفحة على شكل شرائح نلصقها على الفراغات المرسومة، ونثبت خطوط العناوين، نرسم مربعات أو دوائر ونحفرها باستخدا  شفرة “الكتر” لتصبح أماكن لتثبيت الصور الفلمية بعد تصوير الصفحة الورقية نفسها بقسم التصوير.

 بعد تثبيت الصور نصلّح الفراغات الفيلمية برتوش من مادة ملونة خاصة، نفتح بعدها فراغات معينة بحسب التصميم لتصبح مؤهلة لوضع اللون عليها في المطبعة.

لم يكن العمل سهلا، بل تطلب جهدا وفيرا من التعب والتركيز، فضلا عن تأخر ساعات العمل حتى منتصف الليل، موعد ورود آخر الأخبار وتنضيدها ورسم صفحاتها من قبل قسمنا.

برغم التعب والإرهاق كانت سعادتي لا حدود لها، بالعمل ومتابعة دراستي في الوقت نفسه.

استيقظ في السادسة والنصف صباحا، احضّر ما أمكن من دروسي، استعد للذهاب للجامعة بركوب وسيلتي نقل على مرحلتين حتى أصل باب المعظم، أسير بعدها مشيا على الأقدام لمدة ربع ساعة حتى أبلغ كلية الآداب.

عند انتهاء حصصي أعاود السير مشيا على الأقدام حتى محطة الميدان، أركب من هناك حافلة رقم 4 لمنطقة القصر الأبيض، حيث مبنى المطبعة ..

 أنكب على عملي حتى منتصف الليل، توصلني سيارة الجريدة منهكة تماما للبيت.

كنت محط إعجاب الجميع، بنظرهم كنت الرفيقة “البرجوازية” الأنيقة طالبة الجامعة. أتلّقى نظرات إعجابهم بمرح واضحك لتعليقاتهم الطريفة.

 

عائلة العتابي

استرعت انتباهي عائلة العتابي التي توزعت على أركان الصحيفة، الوالد حسن العتابي مسؤول في صفحة “التعليم والمعلم”، مناضل عتيد بتاريخ مشرف، انتمى إلى الحزب الشيوعي في وقت مبكر من حياته عندما كان معلما في الناصرية، وذاق الأمرين من سجن وتنكيل في أغلب عهود الدولة العراقية المعاصرة بدءا من الملكي، وقاسم، وانقلاب 8 شباط عام 1963.

الأخ الكبير جمال العتابي، فنان راق وأفضل خطاط في الصحيفة يرسم “هيد ـ ترويسة “ الجريدة وعناوين صفحتها الأولى، سامي العتابي مصمم الصحيفة الأول ومسؤول القسم الفني، خطاط أيضا، صفاء العتابي الأصغر بينهم، خطاط، ومتابع فني للصحيفة.

كما تعرفت في أحد مناسبات الجريدة على معظم أفراد العائلة، وعقدت صداقة مع أختيهم الشابتين هناء وليلى العتابي.

سامي وصفاء كانا الأقرب لقسمنا بسبب مهامهما الفنية أولا، ولأنهما الأكثر انسجاما ومرحا مع الجميع، كانت نكاتهما وضحكاتهما تسبقهما إلى القسم، ومع دخولهما تتعالى التعليقات والضحكات.

مرة دخل علينا سامي يرتدي ربطة عنق على غير عادته، والأغرب لاحظنا قصاصة ورق معلقة عليها، لم ينتظر “سامي” استفسارنا بل قفز ضاحكا معلنا بصوت عال”يا جماعة نجحت وتخرجت من الجامعة وهذه شهادتي” .

شاركناه الفرحة ووزعنا قناني المشروبات الباردة احتفالا بالمناسبة.

أخذ سامي بعد ذلك يطيل الوقوف عند طاولة عملي، يقترب مني كثيرا أثناء تعديل خط ما، أو رسم منحنى “كيرف” على صفحتي، يعبر عن إعجابه بدرجة مبالغة حين أحسن عملي وأتقنه .. وبمرور الوقت تيقنت من اهتمامه بي  أكثر من غيري.

مرت الأيام وأنا على روتين دوام الجامعة والعمل في الجريدة والعودة متأخرة للبيت، زاد إلحاح سامي وتلميحاته لي، مقابل رفضي له.

أما أصدقاؤه فكانوا خير معين له، يقف جنبي قيس قاسم ويحدثني بمرح وصوت جهوري ،”يمعودة خلصينا سامي يوميا يسَّهرنا حتى الصباح ببيت العتابي شاكيا هيامه وصدّك له، والله ما يستاهل، سامي خوش ولد”.

أضحك وأعتبر الأمر مزحة.

 

مكتب التحرير

فور تخرجي التحقت للتدريب على أصول التحرير والترجمة بمكتب الجريدة بشارع السعدون.

هناك تفتحت أمامي آفاق مدهشة من العلم والمعرفة، وتعلم أصول المهنة على أيدي صحفيين وسياسيين كبار.

أجلسوني في الطابق العلوي من المبنى، حيث مكاتب رئيس ومدير وسكرتارية التحرير، وضعوا مكتبي بجوار مكتب الصحفي والمترجم المخضرم “حمدان يوسف - صادق البلادي” ، وقد شرع يمدني بمقالات للترجمة ثم الإشراف والتصحيح لما أنجز، وتدربت في الوقت نفسه على كتابة الموضوعات السياسية والاجتماعية بإشرافه أيضا.

كان المكان يعج بكبار الكتاب والسياسيين والفنانين من الرفاق، أمثال عبد الرزاق الصافي، ماجد عبد الرضا، فخري كريم، فائق بطي، يوسف الصايغ ، فالح عبد الجبار، ورضا الظاهر، إلى جانب المحررين و رؤساء الأقسام الأخرى أمثال حسن العتابي، حميد الخاقاني، د سلوى زكو، زهير الجزائري وأخته سعاد، عدنان حسين، فاطمة المحسن، عبد المنعم الأعسم، عفيفة لعيبي، عامر بدر حسون، مصطفى عبود ،مؤيد نعمة، رجاء الزنبوري، وغيرهم.

وأقصى سعادتي كانت حين نشر لي أول موضوع مذيل باسمي.

سُحرت بالأجواء الرفاقية الراقية، نبدأ صباحنا بشرب الشاي على مناضد الشرفة الخلفية للمبنى، نناقش أهم مستجدات الوضع السياسي ونطالع باقي الصحف قبل توجهنا لأعمالنا.

التواضع والاحترام سمتا الجميع، يحظى به سائقو المركبات، وعمال المطبخ، وموزع البريد، والصحفي والكاتب على السواء.

نتلقى معلومات غنية ممتعة بعد رحلة الرفيق فالح عبد الجبار إلى البرتغال ، ناقلا لنا يوميا تفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية هناك ، قبل أن يسجلها بكتاب مطبوع يصدر بعد ذاك بعنوان” يوميات الصراع الطبقي في البرتغال”.

تتوالى الندوات والجلسات الثقافية في قاعة المبنى الوسطى، باستضافة كبار المفكرين والسياسيين.

لم يقتصر الأمر على غذائنا الثقافي والروحي، إنما سعت الجريدة للترويح الاجتماعي بتنظيم رحلات نهرية لجزيرة أم الخنازير، وحفلات ذكرى ميلاد الحزب وتأسيس الجريدة داعين لها شخصيات سياسية وصحفية من باقي الصحف والمجلات المحلية.

في عيد المرأة 8 آذار نُهدى جميعا ورودا حمراء وتكرمعاملات المطبخ والمتميزات منا في أقسام التحرير.

كان جوا صحفيا مثاليا صاغ  اللبنة الأساسية لعملي المهني ومستقبلي الصحفي في ما بعد.

**********

من «الفرات» جئت الى «الطريق»

رضا الظاهر

 

أما “الفرات” فأعني به منطقة الفرات الأوسط، حيث كنت مسؤولا عن المكتب الصحفي للمنطقة حتى تفرغي للعمل في “الطريق”، أي صحيفة “طريق الشعب”، في أعقاب مشاركتي في المؤتمر الثالث للحزب الذي انعقد في أوائل ايار 1976 ببغداد، تحت خيمة في مقر الحزب العام الكائن يومها في حي الكرادة الشرقية. وكانت “طريق الشعب” المدرسة التي تعلمت فيها فن الصحافة على يد رفاق أساتذة وزملاء مهرة .. وكانت من أغنى وأجمل تجارب حياتي.

في “الفرات” تعلمت على يد الشيوعي الذي كان مثالي، محمد حسن مبارك – أبو هشام (الذي انتخب عضوا مرشحا للجنة المركزية في المؤتمر الثالث) .. تعلمت الانضباط والدأب والرقة والأريحية والقيم السامية، وكان قريبا من اهتماماتي الأدبية وشغفي بجماليات الأدب والفن.

ومن بين الكثير الذي أتذكره أن مقر الحزب (وهو مقر لجنة المنطقة واللجنة المحلية في بابل)، في حي الابراهيمية، وكان البيت الذي يقيم فيه أبو هشام قريبا من المقر. في بعض المرات كان يدعوني الى البيت .. ومن أجمل ما أتذكره أنني هناك استمتعت، للمرة الأولى، بـ (الفالس الثاني) لديمتري شوستاكوفيتش، من بين أعمال كلاسيكية أخرى كانت على اسطوانات، وكانت أمامنا رفوف مكتبة عامرة.

في المكتب الصحفي في الفرات كان يعمل معي رفاق رائعون من بينهم: الشهيد قاسم محمد حمزة، والراحل أمين قاسم خليل، والصديق ناجح المعموري.

أتذكر أنه في اول اجتماع للمكاتب الصحفية في محافظات المنطقة حضر الرفيق عبد السلام الناصري (أبو نصير)، عضو هيئة تحرير الجريدة، وكان كل الموجودين أعضاء في اللجان المحلية للمحافظات. قال أبو نصير: أول خطوة على الطريق الصحيح أن يكون مسؤولو المكاتب وأعضاؤها من الصحفيين والمعنيين بالاعلام والثقافة والكتابة.. وهكذا، وبلمح البصر، أعاد أبو هشام تركيب المكاتب ليأتي اليها كوكبة من المثقفين في المحافظات، كان بيهم أدباء معروفون، وكانت التجربة فريدة.

ولا يغيب عن بالي أنه عندما اتخذت هيئة تحرير الجريدة قرارا بتوسيع النشاط في مجال قضايا المرأة (ارتباطا باعلان الأمم المتحدة عام 1975، وفي مؤتمر بكين العالمي للنساء، السنة العالمية للمرأة) بدأت حملة لا نظير لها، شارك فيها مكتب الفرات. أتذكر أن أبو هشام قال، في لقاء حول الموضوع، وهو يخاطبني: ابدأ الآن، عندما تعود الى البيت إجرِ مقابلة مع أمك، وكانت أمي مناضلة معروفة بمواقفها الجريئة. وهكذا حصل ، ونشرت المقابلة معها في “طريق الشعب” .. قلت: ومن بعد ؟ قال أبو هشام: عندك اثنان: الشيخ يوسف كركوش( القاضي الشرعي في الحلة). والقصة طريفة سأرويها بعبارات وجيزة. جاء الشيخ ذو العمامة البيضاء الى مقر الحزب، وبعد أن أنهيت المقابلة، قلت: ياشيخنا الجليل، كيف تريدني أن أصفك في مقدمة مقابلتي ؟ أجاب: قل التقيت بالشيخ الماركسي يوسف كركوش .. والبقية عليك !!

أما المقابلة الثالثة فكانت الأكثر إثارة وتأثيرا. أخذني أبو هشام الى النجف، وفي حي السعد دخلنا بيت المناضلة (أم ضياء)، وكان أبو هشام قد حدثني عنها وعن “أساطير” مرتبطة بها. كانت أم ضياء، في سنوات الأربعينات، “مراسلة” بين الرفيق فهد في بغداد والرفيق حسين محمد الشبيبي في النجف. ومن بين قصص كثيرة رواها لي أبو هشام أنه في مظاهرة حاشدة في سنوات الخمسينات من القرن الماضي كانت أم ضياء تتقدم المتظاهرين. وكانت العادة تقضي بأن تدخل المظاهرات في السوق الكبير لتصل الى صحن الامام علي، وهناك تتفرق. غير أن مدير الشرطة، ومعه حشد كبير من شرطته المسلحين، حاولوا منع المظاهرة من الاستمرار في السوق والوصول الى الصحن، فما كان من أم ضياء الا أن تقدمت وسحبت سكينا من تحت عباءتها، وهي تحذر مدير الشرطة ببطولة نادرة: “خلي الشباب يشوفون دربهم .. اذا منعتهم أسرد بطنك بهاي السجّينة”! .. ارتعب المدير من جرأة هذه المرأة النجفية، ذات المكانة الاجتماعية المعروفة في المدينة، وما كان منه الا الانسجاب لتمضي المظاهرة، والشباب “يشوفون دربهم” الى صحن الامام.

قصصي في “الفرات” كانت اللبنة الأولى في المعمار الصغير والجميل الذي شيدته في “طريق الشعب”. يتعين أولا الاعتراف بأن الراحل عبد الرزاق الصافي (رئيس التحرير) كان معلّما حقيقيا، أما داينمو الجريدة فكان الصحفي الخبير فخري كريم (مدير التحرير). وكانت “طريق الشعب”، ممثلة بـ (أبو مخلص) و(أبو نبيل)، معلّمي الثاني.

هناك وجدت أصدقاء لي، بعضهم زاملوني أيام الدراسة الجامعية، وكنا نلتقي، وآخرين، بينهم الراحل فالح عبد الجبار وزهير الجزائري ومخلص خليل، في “مقهى المعقدين” (وهي من مقاهي بغداد الثقافية المعروفة في الستينات)، وتقع في الباب الشرقي – بداية شارع السعدون في أول فرع على اليمين وأنت تتجه نحو ساحة النصر. وبينما كانت الستينات (وخصوصا عاما 67 و 68) سنوات الاضرابات الطلابية، كانت سنوات السبعينات فترة عودة الثقافة العراقية الى النهوض والازدهار .. وكانت “طريق الشعب” مدرسة حقيقية للصحافة والثقافة.

*********

الصفحة الخامسة

إستعادة لصفحة «ثقـافة» وذاكرتها بعد عقود

حميـد الخـاقاني

 

الثقافـة، في جوهرها، فعل حرية. فعل يحرر، يطلق سـراح لغـات الآداب والفنون والأفكار من أسرها.

يجعلها تنطق بألسـنتها الخاصة، تسمع وترى، وتصل إلى الناس. تستفز عقولهم وتثير فضولهم لمعرفة أنفسـهم وحياتهم، ووعي الزمن الذي يحيون فيه، وكيف يعيشونه. وما دام الإبداع، بأشكاله المختلفة، فعلاً في الحرية ولها، فهو فعل ديمقراطي، بالمعني الجوهري، الشاملِ لمفهوم (ديمقراطية) كذلك. وثقافة الإبداع ثقافة إحياء وتنوير. وهي بذرة الحياة الحية، تقاوم تعاساتها وموتها ساعية لإحيائها ثانية، لتجعلها حياة حقيقية تليق بالإنسان.

لقد سعى الشيوعيون العراقيون، في تقديري، ومنذ ظهورهم على مسرح الحياة السياسية والفكرية في العراق، إلى تمَثل مفهوم ثقافة بهذه المعاني، وبمستويات متباينة، مهتدين، في هذا المسعى، بالسؤال الكبير الذي شغل التنويريين العرب، بداية، في مصر وبلاد الشام خاصة، وهو: (أية ثقافة نريد؟).

ذات السؤال انصرف إليه التنويريون العراقيون، ومنهم الإشتراكيون الآوائل، في عشرينات القرن الماضي. ففي السنوات 1924 - 1928 نشرت مجلتا (الحديث) و(الحرية) الصادرتان في بغداد آنذاك، سلسلة من مقالات تناولت موضوعة: (بأية حضارة نتثقف؟ الشرقية القديمة، أم الغربية الحديثة؟).

في هذه المقالات عبرعـدد من كتاب تلك الفترة عن رفضهم لـما أسموه (التعاليم الشرقية القديمة)، فكتب (محمود أحمد السيد)، على سبيل المثال، مقالاً رأى فيه أن هذه التعاليم العتيقة (خيالات وفلسفات ... أساسها الوهم ووساوس العقل الكليل)، داعياً في مقالة أخرى إلى اعتماد ثقافة العلوم والفنون الحديثة التي تطور الحياة والإنسان. وبغيةَ تحرير الثقافة والعقل من قيود الفكر التقليدي المحافظ وضع ممثلو التنوير، في تلك المرحلة، المطالبةَ بحرية الصحافة والتفكير، والحريات الشخصية وتعليم المرأة، في مقدمة اهتماماتهم الفكرية والسياسية.

 سعي الشيوعيين العراقيين لتمثّل فكر التنوير وثقافته وجد له انعكاساً في مجلة (الثقافة الجديدة)، منذ  صدور عددها الأول عام 1953، وقد تزين غلافها، منذ ذلك التاريخ وما يزال، بشعار (فكر علمي ... ثقافة تقدمية). ولكن ما كادت نسخ هذا العـدد الألفان (وهو رقم لم يكن مألوفاً حينذاك) تنفد بعد أيام قليلة. لم يكن بين المواد المنشورة ما يستفز حفيظة حكام ذاك الزمان “الديمقراطيين!”، أو يثير غضبهم. هناك، على سبيل المثال، قصيدة (أطفالنا) لبدر شاكر السياب. وقصيدة (السجين المجهول) لعبد الوهاب البياتي، وأخرى للفرنسي لويس آراغون. وثمة مسرحية (العادلون) للفرنسي ألبير كامو، وقصة للكاتب الأمريكي بيرل باك، ومثلها للروسي انطون تشيخوف، وللعراقي شاكر خصباك. فضلاً عن مقالات وبحوث في شؤون الأدب ومدارسه الحديثة، وأزمة الفن المعاصر، ونظرية القانون، والبيروقراطية والدولة، كتبها عدد من أبرز الباحثين وعلماء الإقتصاد والقانون في تلك الفترة. ليست هذه الموضوعات هي ما دفعت الحكام إلى إلغاء امتياز المجلة، في رأيي، وانما مشروعها التنويري، والتفاف شخصيات ثقافية وفكرية، وأدبية وفنية حرة حولها، غالبيتهم ليسوا شيوعيين، وجدوا فيها مكانا تلتقي فيه الأفكار الحرة. والحكام غير الديمقراطيين حقاً، ومثلهم حملة منظومات التشدد الفكري والديني، القومي والعنصري، يخشون الأفكار الحرة الواعية. هم يدركون أن هذه الآفكار تسبق الثورات وتمـهد لها. أفكار التنوير الأوربي سبقت الثورة الفرنسية، مثلاً، بعقود. الفكر الحر يؤصّل الثورات. يمنحها وجهها واتجاهها. فساد هذه الثورات الذي قد يصيبها، فيما بعد، إنما هو فساد من امتطى ظهرها من حكام وقادة وساسة، وحتى مناضلين ثوريين سابقين، أغوتهم أسرة السلطة ومفاسدها، فإذا الحلم الإنساني- المثال ينتهي، على أيديهم، خرائب وأنقاضاً.   

الروح التنويرية التي ميزت (الثقافة الجديدة) عند انطلاقتها تلك، وما تزال، تواصلت، بمقادير شتّى، في الصحافة الثقافية الأخرى للشيوعيين في العراق. وكان لهذه الروح تجلياتها في صفحة (ثقافة) في (طريق الشعب)، وفي صفحات (الفكر الجديد) كذلك. الصحيفتان صدرتا علنيتين مطلع سبعينيات القرن الماضي، بعد عقد قاس من الملاحقات والاعتقالات والتعذيب الوحشي، والقتل. وتلك أحوال كان لمثقفي اليسار قسطهم الوافر منها. وبعد ما يقرب من خمس أعوام على علنية الصدور هذه تمّ إغلاق الصحيفتين ثانية. إغلاق سبقته، ببضعة سنين، أحوال تماثل ما حدث في ذاك العقد القاسي.  

استعادتي الخاطفة هذه لذاكرة صفحة (ثقافة) في سنواتها الخمسة تلك، تعيد إلى ذاكرتي، بعد ما يزيد على أربعين عاما، فاعلية ثقافية يومية لها برامجها ومشاهدها وأوجهها المختلفة. هذه الفعالية يؤطرها الوعي بارتباط الثقافة، على فرادتها وخصوصيتها، بالواقع الإجتماعي في نواحيه المختلفة. فهي تصدر عنه وتتوجه إليه في الآنِ نفسه. تحاول أن تقول له بأنها ليست ترفا يمارسه مثقفون غرباء “مخبولون”، بل هي حاجة مصيرية وضرورية للإرتقاء بالوعي والحس الجمعيين، وتعميق معارف أفراده بظروف حياتهم وزمانهم، وتاريخهم، وصيغ التعامل معها.

وعبر استجلاء المشهد الثقافي، وتنوعه أجناساً وفعاليات، في العراق آنذاك، حددت الصفحة، منذ البدء، وبتصور جماعي، مقاصدها وغاياتها في أن تكون حاضـرة في متابعة حقول الإبداع الأدبي والفني والفكري، وتشييد جسور التواصل مع الأدباء والفنانين والباحثين المشتغلين في هذه الحقول، وكذلك، ومن خلال هذا، تحقيق التواصل مع الآجناس الإبداعية التي يشتغلون عليها، ومع جمهور القراء والمتابعين لهذه الفعاليات الثقافية أيضاً.

ومما أعان الصفحة على القيام بدورها هذا، هو نوعية المحررين العاملين، وكذلك المتطوعين، فيها: ألفريد سمعان، سعدي يوسف، حميد الخاقاني ، مصطفى عبود، نبيل ياسين، صادق الصائغ، فاضل ثامر، ياسين النصير. وكان لمثقفي عدد من محافظات العراق، شعراء وكتاب قصص وروايات،  ونقاد أدب وفن، فضلهم الكبير في أن يكون للصفحة حضورها في تلك الأمكنة، وأن تحضر إبداعات مثقفي تلك المحافظات إلى بغداد، ومنها إلى فضاءات مدن العراق جميعها. من متطوعي مكتب بابل والفرات الأوسط الصحفي أتذكر(وعذري لأسماء رفقة أعزة، من مدن ومناطق أخرى، لم تعد تسعفني الذاكرة، بعد كل الأعوام الطويلة... الطويلة، على استعادتها)، رضا الظاهر، ناجح المعموري، الشهيد القاص قاسم محمد حمزة، وكذا الشهيد قاسم عبد الأمير عجام، هذا العارف الجميل الذي كانت كتاباته النقدية خيرَ ما قرأناه، وقتَها، عن فن المسلسلات التلفزيونية، وكذلك قراءاته النقدية لبعض الأعمال الأدبية. وهنا لا ينبغي علي إغفال ذكر الشهيد القاص والروائي حميد ناصر الجيلاوي، من مكتب واسط الصحفي، وكذلك صاحبه الشاعر والفنان حميد حسن جعفر. ومن مكتب البصرة يحضرني الساعة الشاعر الراحل مهدي محمد علي.

ولكي تكون (ثقافة) وفية لمقاصدها في إيصال الفعل الثقافي الحي إلى الناس، ووصلهم به، فقد خصّصت أربع صفحات منها، لثلاثة أيام متناوبة في الأسبوع، لفنون الشعر والقصة، والرابعة (كل يوم إثنين) فتحت أبوابها ونوافذها لنشر المحاولات الشعرية والقصصية الأولى، الناضجة للنشر. وصفحة في الأسبوع للشـعر الشعبي ودراسات حوله، يتولى تهيئة موادها، وتنسيقها، شعراء معروفون. بينهم شاكر السماوي وعزيز السماوي، والشهيد أبو سرحان. إفراد هذه الصفحة لهذا النوع الشعري المؤثر، والواسع الإنتشار في وطننا، جاء بمثابة إجابة ثقافية على قرار السلطة، مطلع السبعينات، بعدم نشر هذا الشعر وترويجه في أجهزتها ومرافقها الإعلامية. دواعي قرارها هذا أن غالبية من يكتب هذا الشعر شيوعيون ويساريون! صفحة سادسة لنقد فنون السينما والمسرح وعروضهما المقدمة في بغداد ومدن أخرى، وفنون التشكيل والموسيقى كذلك.

ولأن (ثقافة) تؤمن بأن المعرفة الحقيقية الأشياء والظواهر، فكرية كانت، أو أدبية أو فنية، لا تتحقق بالوصول إليها عبر القراءات وحدها، وإنما بالسعي لولوج أعماقها، والتأمل فيها، وإخضاعِها للتساؤل، والجدل معها. وللمساهمة في تحقيق بعض هذه الغاية مضت الصفحة إلى تقليد نقدي عُرفت به مجلة الآداب) اللبنانية، ألا وهو نقد قصائد العدد الماضي وقصصه. في صفحة (ثقافة) حمل هذا التقليد عنوان (نقد قصائد الشهر الماضي وقصصه). مقاصد هذا التقليد وقراءاته وضْعُ مفاتيح في يد القارئ تعينه في الآقتراب إلى أسرار النص ومعرفته.

وإزاء سعي السلطة المحموم، والذي بدأ في تلك السنوات، لبعْثَنة الدولة ومؤسساتها، والمجتمع والثقافة، وتحول وزارة الثقافة والإعلام إلى الناشر الأكبر والوحيد في العراق، وامتلاكها وحدها حق الرقيب المطلق على نشر الكتاب، أوتحريم نشره، حتى وإن استوفى كافة الشروط الفنية والأدبية، وأوصى الخبير الذي انتدبته الوزارة نفسها لفحص هذا الكتاب، والإهتداء الى ما يختفي وراء سـطوره، بإجازته ونشـره. في تلك الفترة تمّ منع أكثر من 160 كتاباً لشعراء وكتاب قصة ورواية وباحثين، كان قد أوصى الخبراء الفنيون بنشرها. الدافع الوحيد لعدم نشرها أن مؤلفيها شيوعيون، أو يساريون، أو غير ذوي قربى للحزب الحاكم. إزاء هذا كله كان على (ثقافة) أن تؤدي دورها في مواجهة هذه الظواهر التي تمهد السبيل إلى نظام استبداد شامل، يمضي بالعراق وأهله إلى هاوية لا قاع لها، وهو ما حدث فيما بعد تماماً. في سياق ندوات وجَّهت السلطة لعقدها، لمناقشة رفْع الإنتاجية في مؤسساتها، تلقَت صفحة (ثقافة) دعوة من وزاة الثقافة لحضور إحدى ندواتها هذه. هيَّأ المثقفون العاملون في قسم (ثقافة)، بمشاركة جماعية، ورقة فكرية تتناول السياسة الثقافية للوزارة، منطلقة من تساؤل، وجدناه جوهرياً، وهو (وطنية الثقافة، أم حزبيتها؟). كان واضحاً لنا، ونحن نناقش موضوعات هذه الورقة، وما يمكن قوله في الندوة، أن تاريخَ الإنسانية لم يشهد، ربما، سلطة سياسية، أو أيديولوجيا أحادية النظرة، بصرف النظر عن الزيِّ الذي ترتديه، ترغب للثقافة وللمثقف الحر أن يفكرا بمعزل ، أو باستقلالية عنها. فهي تضيق، خوفاً على سطوتها، من جدل الأفكار الحر والمفتوح. وهي تخشى أن يخفق كل مبدع ومفكر وانسان بأجنحته الخاصة، بعيداً عن أقفاصها. ولكن حكمةَ التاريخ وتجاربه علّمتنا، في الوقت نفسه، أنّ الآداب والفنون، والأفكار النقدية الحرة، تظل تتطور، وتتعمق في مواجهتها لأنظمة الحكم المطلق، وصراعها معها.

في اليوم التالي توجهت، بصحبة الصديق الراحل خالد السلام، إلى قاعة الخلد، حيث تُعقَد التدوة، مصطحباً ورقتي، وعناوين الكتب المحرّمة، ووقائع “التطهير” الذي طال مثقفين وفنانين وصحفيين أُخرِجوا من مؤسسات الدولة آنَذاك. كان الحضور في القاعة، حين وصلناها، كثيرين: أساتذة جامعات، بعضهم من أساتذتي، مثقفون رسميون غالباً، صحفيون، وموظفون من مؤسسات الوزارة نفسها، وبالطبع الوزير طارق عزيز. في اللحظات الأخيرة حضر “السيد النائب” أيضاً. كنت أول المتكلمين. أوضحت، في البداية، أهميةَ ديمقراطية الثقافة وحرية الإبداع، وأكدت على الطابع الوطني- التعددي لثقافتنا العراقية، بمعنى أن مصادر هذه الثقافة، وينابيعها وتياراتها، والعناصر المؤثِّرة في تشكيلها وتطورها، قديما وحديثا، متنوعة ومتشابكة من النواحي التاريخية والدينية، والقومية والإجتماعية كذلك، وبصورة قد لا نشهد لها مثيلاً في ثقافات أخرى. أشرت، أيضاً، إلى أن ثقافة أيِّ شعب لا تصنعها الدولة، أو الأحزاب، وانما مبدعو هذا الشعب من أدباء وفنانين، ومفكرين وعلماء، ومهندسين وخبراء قانون. كما أكدت أن وزرات الدولة ومؤسساتها مرافق وطنية ينتظر منها أن تتعامل مع مواطني البلد، ومنهم المثقفون، على قاعدة الحقوق المتساوية، وليس في ضوء الإنتماء الحزبي، أو الخيار الفكري. وبعد الإشارة إلى الكتب الممنوعة، اختتمت مداخلتي بالقول:”أن الحفاظ على ثقافتنا الوطنية وازدهارها مسؤولية تاريخية، وعبء ثقيل ينبغي لأكتافنا جميعا أن تحمله”. لم يحاجج الوزير، الذي استشاط غضباً أو يجادل بعقلانية، وإ نما نطق بجملة “إننا لن نعطي الشيوعيين شققاً فكرية في هذه الدولة!”.

بعد أسبوعين مُنعتُ من دخول قاعة الخلد لحضور ندوة دعتني الوزارة نفسها إليها!

درس مثل هذه التجارب المريرة والقاتلة، وهي كثيرة في هذا العراق، ماضياً وحاضراً، يدعونا إلى الإهتداء، جميعا، إلى سياسة ثقافية، قاعدتها وإطارها يقومان على الحوار والجدل الدائمين مع أنفسنا، ومع  الحياة والنصوص المكتوبة عنها ولها، أو ضدها أيضاً، وبما يخلق أفقاً مفتوحاً، تُقال فيه الأشياء، كلُّ الأشياء، بصوت عالٍ وواضح أبداً. مثل هذا الأفق المفتوح لن يتحققَ إلاَّ باعترافنا بالآخر المختلف معنا، اعترافنا بوجوده، وبحقه في الحرية وممارسة اختلافه معنا، سواء أكان داخلنا أو خارجنا. إن علينا، كما قالت تلك الشيوعية الرائعة روزا لوكسمبورغ يوماً، أن نرى حريتنا في حرية الآخر المختلف معنا فكراً. هذه العملية تشترط نضوجا داخلياً، لن يتحقّق أبداً، مادمنا لا نطيق من لا ينظر إلينا إلاَّ بوصفنا أرباباً مقدَّسين لا مكان للحقائق إلا عندنا. إن  مصدر قوة الأفراد والجماعات ونبلها الإنساني ليس دعواتها اللفظية للحرية والديمقراطية فحسب، وأنما ممارستها العملية واليومية مع بعضهم البعض، ومع الآخر المختلف أساساً.

********

الصفحة السادسة

بوابة الضوء والمعرفة

سعاد الجزائري

 

طريق الشعب البوابة الاولى التي عبرت منها الى مهنة البحث عن الحقائق، والبعض قالها مهنة البحث عن المصاعب او المشاكل، وتوالت التسميات حتى وصلت الى كونها السلطة الرابعة، وتعدت ذلك الى ان صارت في الكثير من الانظمة تتسيد الموقف السياسي وتحدد مساره بترويجها الايجابي او السلبي مع او ضد هذه الجهة او تلك، مثلما يحصل في عراقنا اليوم عندما تخلى الاعلام عن موقفه المحايد وسلك طريق الانحياز المشوب بالعثرات والمخاطر والتهلكة. ولهذا فقد الاعلام الكثير من حرفيته ومهنيته وموضوعيته واكتسى بملابس التهريج رافعا بوقه نحو الذي يدفع اكثر، او الذي يصرف المال الممول وبالتالي يأمر بما يكتبه خادمه اقصد الصحفي.

قبل سبع واربعين عاما دخلت فتاة عشرينية مبنى جريدة “طريق الشعب” لتتعلم القواعد الاساسية في مهنة أحبتها، وارتبطت بها حتى تلك اللحظة، كانت البنت طالبة في كلية الادارة والاقتصاد، هذه الفتاة (أنا)، التي كنت يومها أرتجف خوفا من هيبة المكان ومن الاشخاص الذين سيقودوني الى الطريق المؤدي الى اسلوب كشف الحقائق، ورهبة من مهنة قد تقودني آنذاك الى السجن، وربما التصفية كما فقدنا لاحقا الكثير من أحبتنا وزملائنا بتهمة انهم يعملون في جريدة “طريق الشعب”، عدو السلطة يومذاك.

قبل هذا الدخول لم اكتب سطرا لجريدة او مجلة، لكني كنت قارئة نهمة واكتب مذكراتي اليومية، مسجلة انطباعاتي عن الاصدقاء والصديقات، الذين اكتشفت لاحقا اني ظلمت البعض منهم، ومنحت ثقتي لغير الذين يستحقونها.. الكتابة عندي آنذاك تدور حولي ومشاعري وعن محيطي، لكن عملي بالنشاط النسوي، غير مسار كتابتي وعلمني ان اتحرر من اطار الذات لأكتب عن الاخرين، فبدأت اكتب مذكرات اوجاع الشعب وهمومه، وابحث عن الآلام والحاجة لاكتب عنها، وهنا نسيت عالمي الشخصي لانتقل الى عالم اوسع.

كنا في بداية السبعينات نخرج كمجموعات ونتوزع على المناطق الفقيرة في بغداد ومحيطها، لاقناع العوائل بتسجيل ابنائها وبناتها بالمدارس، وكُلفت وقتها بكتابة تقارير عن هذه الزيارات، التي اكتشفت لاحقا ان بعضها نشر بالجريدة.

لم يكن جو عائلتي بعيدا عن هذا الحقل، فوالدي عنده محاولات شعرية وصحفية، وكتب المسرحيات التي مُثّلت محليا في مدينتنا (النجف) كما اعتقد او في الحلة، وأخي زهير الجزائري صحفي وكاتب منذ صباه. لكن دخولي هذا الحقل لم يكن عبرهم، بل عبر مسؤولات في رابطة المرأة العراقية، وأخص بالذكر الشهيدة عايدة ياسين والراحلة بثينة الشريف. فبعد قراءة التقارير التي كنت اكتبها عن زياراتنا الميدانية قررتا ترشيحي الى الدورة الصحفية التي نظمت في الجريدة طريق، والتحقت بها، فكنت اذهب لجامعتي صباحا، والتحق بالدورة مساء.

من هنا بدأت، ومن هذا المبنى المهيب، الذي أقلق سلطة البعث كثيرا، من هذه البوابة عبرت الى عالم الصحافة، الى ضوء الحقيقة، والى عالم ملغوم بالمخاطر، لأني عملت في جريدة لا تمثل السلطة، بل تراقب اداءها وتكتب عن نواقصها، فصارت الجريدة مثل كابوس يراود احلام المسؤولين آنذاك، وبات رجال الامن يلاحقون العاملين داخل المبني عبر اساليب مختلفة ويتابعونهم حتى بيوتهم.

ولأني اعمل بهذه الجريدة فقد تعرضت لمضايقات كثيرة في الجامعة من قبل عناصر الاتحاد الوطني.

المرأة الوحيدة

الدورة التي التحقت بها ضمت عشرين مشاركا وكنت المرأة الوحيدة بينهم (كما ترون في الصورة المرفقة مع المقال).

وبعد الانتهاء من الدورة التحقت بالعمل مباشرة، فكنت طالبة جامعية صباحا وصحافية مساء وبنتا مطيعة عند أهلي، لان عملي بدأ يقلقهم ويزداد كلما توتر الوضع السياسي وتزايد الضغط على معارضي السلطة.

“طريق الشعب” آنذاك اتبعت اسلوبا في العمل لم أجده او أسمع عنه في صحف اخرى، مثلا الدورات التدريبية والتطويرية، برنامج الستة أشهر، والذي يتم باجتماع عام لكل العاملين والمراسلين من المحافظات لمناقشة عمل الجريدة ومقترحات لتطويره وتجاوز الاخطاء، حيث يقدم كل قسم عناوين تحقيقات، مقابلات، بحوثا او دراسات عن ظواهر اجتماعية او فكرية، وذلك لوضع برنامج للجريدة لمدة ستة أشهر باستثناء المواضيع التي تحدث آنيا او غير المتوقع حصولها خلال الستة أشهر.

تنقلت في العمل بين التحقيقات والمقابلات في صفحات: المرأة، حياة الشعب، منوعات، صفحة الاطفال. وهذا التنقل يبدو انه مخطط له، وذلك كي نتدرب على مختلف انواع الفنون الصحفية، عدا الاخبار التي لم اكتبها ولم اعمل بها ابدا، لكني تعلمت الفنون الاخرى.

انا مدينة لمدرسة “طريق الشعب”، التي تدربت فيها مهنيا واخلاقيا على أصول المهنة التي لم ازاول غيرها ابدا رغم اني اقتصادية أكاديميا، هذه المدرسة بوابتي الاولى نحو الصحافة، وكذلك مدينة للـ MBC مدرستي الاولى في عالم الاعداد والاخراج التلفزيوني..

صحافة.. تمثيل.. فلاحة..

بعد سبعة واربعين عاما لا أستطيع ان اتخيل نفسي في مهنة اخرى، رغم اني أحببت المحاماة، والتمثيل، والرسم، واليوم افكر ان أصير فلاحة وافتتح مشتلا للنباتات التي اعشق زراعتها والعناية بها. ورغم هذا التنوع لكني لا أجد نفسي الا في مهنة الاعلام، والتي للاسف فقدت اهم قواعد مهنيتها واخلاقيتها بعدما دخل بواباتها من هبّ ودب. فقد تحولت هذه المهنة الى صناعة نجوم ودمى مزينة لا تفقه من هذه المهنة الا بريق الاضواء التي تخبو بسرعة عندما يكشف ضوء الحقيقة المستوى المتدني للكثير من الاعلاميين، الذين تمر شهورهم دون ان يُفتح كتاب بين ايديهم، وعقولهم منغلقة امام اي معرفة او فكر عدا جمال الظهور والراتب وتملق المسؤول كي يسوق بضاعته في سوق نخاسة اعلام هذا الزمن.

************

مازلنا نلتقط الثمار ونرسم الكلمات بالبياض

ناجح المعموري

 

الاحتفاء بلحظة تاريخية كبرى في تاريخ العراق الحديث، وخصوصاً ما له علاقة مباشرة بتاريخ الحزب الشيوعي العراقي، يوم صدرت جريدة “طريق الشعب” لأول مرة. وهذا يعني سردية كبرى انفتحت عليها العشرات من الكفاءات والطاقات الثقافية والفنية، والمثير في هذه اللحظة الكبرى ما توصلت له قيادة الحزب حول ضرورة تشكيل مكاتب صحفية تابعة للمنظمات الحزبية بالمحافظات العراقية. وانفتحت هذه المكاتب / خلايا شيوعية شابة لتأسيس علاقات لأسماء بارزة انتهت العلاقة معها بالانتماء للحزب وكان أول من أشرف على تشكل مكتب بابل الرفيق رضا الظاهر والتف معه عدد من الأسماء الثقافية البارزة والمعروفة، ووجود هذه الخاصية جعلت من المكتب فعالية كبرى بالعمل الصحفي الحزبي، وأشرف بنجاح بارز على مكتب الفرات الأوسط، ووضع له الخطط. وارجو أن لا يذهب البعض للتعامل مع حديثي بشيء من عدم الارتياح، لأن الحديث بروح متباهية عن فترة ما زالت حيّة في الذاكرة، واعتقد بأن الكثير سيثير الشكوك حول ما سأقول عن مثل هذه التجربة، وأنا سأذهب نحو تدوين سيرتي إذا ما توفرت الفرصة حتى أستعيد البسالة وسط ظروف سياسية ملتبسة. لكني الآن سأكتفي بما يمكن المرور به مشاركاً بالاحتفال بتاريخ كنا بعضاً من حضوره المزدهي بطاقات الشباب وتبادل التجارب والعلاقات مع رموز ذات دور قيادي في الحزب ومنهم عبد الرزاق الصافي، فخري كريم، أبو گاطع، زهير الجزائري، فالح عبد الجبار، مصطفى عبود، رشدي العامل، صادق الصائغ، سعاد الجزائري، مخلص خليل، فاطمة المحسن، سهام الظاهر .. والأسماء كثيرة ، لكني واثق وسعيد باستعادة كل الذين تعرفت عليهم ومنهم من كان مزدوج الوظيفة ثقافياً وسياسياً مثل الشاعر حميد الخاقاني، عدنان حسين. وكنا نحن الذين في المحافظات القريبة من بغداد نشرق على بناية طريق الشعب في السعدون ، نحمل معنا أحلاماً جديدة ، كنا نتشارك باقتراحها وانضاجها عبر توفير مستلزمات النجاح. وأبرز من كان في بابل الأستاذ رضا الظاهر، أمين قاسم خليل، شريف الزاملي، ناجح المعموري، عباس البياتي، أميرة عبد الرضا، الشهيد قاسم محمد حمزة. وبعد انتقال رضا الظاهر الى بغداد تسلم الشهيد قاسم محمد حمزة مسؤولية قيادة مكتب بابل والفرات الأوسط. وبشكل عام ساهمت عناصر بابل في تكوين وقيادة والاشراف على الفرات الأوسط، حتى تحول في فترة تزايد زخم العمل وانفتاح المنظمات الحزبية لدعم العمل بإيجاد مخصصات مساعدة لتوفير ما تحتاجه الطريق من تنوعات صحفية. وأمتلك مكتب الفرات قدرة اقتراح خطط تطوير أقرتها “هتج” (هيئة تحرير الجريدة) وعممتها على مكاتب المناطق بالعراق ومنها تأهيل المكاتب من خلال دورات الاعداد والعمل اليومي المباشر في اقسام طريق الشعب. وبعد التطور الملحوظ تقرر قيام مكتب الفرات باستلام التزامات مكاتب المحافظات حسب الجدولة الموضوعة من قبل “هتج” وتحريرها بطريقة لائقة وترسل الى الطريق قبل الموعد، ونجاح مقترحات العمل تفضي الى آليات جديدة ومستمرة ومن تلك الاليات تحول عمل الصفحات في الصحيفة من متابعة قضايا المواطنين والنقابات بشكل موسع. ولم تعد التقارير والتحقيقات المختصرة كافية وملبية لحاجات العمال، الفلاحين، التعليم والمعلم والثقاف ، لذا تقترح الصفحات المركزية العناوين وتجري صياغتها بعد استلامها من المحافظات وترسل الى المركز. وقد عرفت الصحفية العمل بتعدد الصفحات، لذا كانت “العمال” على سبيل المثال تظهر على حلقات تتجاوز الحلقتين وايضا الصفحات لاخرى وهذه مرحلة من اهم المراحل التي شهدتها طريق الشعب. وعرفت كل المكاتب المكانة التي تمتع بها مكتب بابل والفرات لأسباب منها وجود نخبة ممتازة من الاسماء الثقافية المنتمية للحزب والقدرة التي يتمتع بها الاستاذ رضا الظاهر ثقافياً، وقد لعب دوراً بارزاً في متابعة وتوجيه العم ، وحصل ايضا اكثر من ذلك بعد انتقاله الى بغداد وتسلم الشهيد قاسم محمد حمزة مسؤولية العمل. ولكي تكون الذاكرة دقيقة وتمنح لمن يستحق، فقد كان الاستاذ المرحوم امين قاسم خليل مشرفاً على تحرير واعداد صفحة العمال والنقد التلفزيوني.

وكان له حضور اوسع ومتابعة واسعة من القراء وتميزت مسؤولية الاستاذ ضياء صلوحي عن الرياضة وناجح المعموري عن الثقافة والاستاذ كاظم “ابو سلام” عن التعليم والمعلم. وتوفرت فرص جوهرية للبعض لممارسة التجربة باللجان المركزية في “هتج” مثل الاستاذ امين قاسم حيث زياراته للصفحة والعمل ضمن الكادر وتبادل الآراء. وتوفرت للأستاذ ناجح المعموري فرصة مهمة للعمل في لجنة فحص القصص مع الاستاذين غانم الدباغ وفهد الاسدي، وكان يحضر الاجتماعات الخاصة لصفحة “مرحباً يا طفال” مع الاستاذ عدنان حسين وشارك باعداد الصفحة.

يمثل الذي تحدثت عنه حاجة الى فضاء اوسع واعمق وضرورة كشف آلية التنافذ بين العمل الصحفي والثقافي ومشاركة مكتب بابل والفرات بعمل المختصات الثقافية والفنية وتعميم التجربة على المحافظات من خلال اجتماعات دورية والمشرف على اقتراح وتنظيم برامج الثقافة والفن في بابل هو الاستاذ ناجح المعموري، المسؤول عن ذلك بالتنسيق مع دور الثقافة والجماهيرية التي كانت من انجح التجارب في العراق مع البصرة حيث استمرت البرامج الثقافية متميزة ومتنوعة ومرغوبة كثيراً من قبل الاسماء الثقافية البارزة لتلبية الدعوات والحضور المثير للغاية يستعاد لأنه يحفظ لتجربة “هتج” قوتها.

بعد سقوط النظام الفاشي وصدور صحيفة المدى استدعاني الاستاذ فخري كريم رئيس مجلس ادارة وتحرير المدى وطلب العمل مراسلاً، لم استجب لذلك لعوامل عديدة، واقترحت عليه استعادة تجربة “هتج” والعمل بظاهرة المكتب الصحفي وقدمت له ما هو المطلوب. استجاب للمقترح ووفر كل الامكانيات المادية غير المتوقعة وحازت التجربة نجاحاً متميزاً لكن للأسف لم يشر لها احد من قيادات العمل في المدى. وادى المكتب تنوعاً ونجح بإجراء استطلاعات للرأي بالمناسبات الخاصة بالانتخابات مما ادى بالعاملين للاستفادة من ذلك. المجد والخلود للصحفيين الذين استشهدوا وما زالت تجاربهم حاضرة ومتجوهرة.

*************

الصفحة السابعة

تجربتي في صحافة الحزب

تمثلات ابداعية في أيام مجد ..

جمال العتّابي

 

عادت مجلة “الثقافة الجديدة” إلى الصدور بعد فترة تموز 1968، كانت تلك البداية لتجربتي في صحافة الحزب، إذ كُلفت بخط عناوين المجلة، ومتابعة طباعتها في مطبعة الشعب، من قبل مدير تحريرها الشاعر الفريد سمعان، ومن بعده شمران الياسري، اذ إعتذر محمد سعيد الصگار عن هذه المهمة بعد أن وضع الأسس الأولى في تصميم المجلة، وسرت على نهجه.

كانت تلك المحطة الأولى، التي ترافقت مع صدور جريدة الفكر الجديد الأسبوعية، في أجواء إنفراج سياسي بعد بيان 11آذار 1970، كان الدكتور حسين قاسم العزيز صاحب الإمتياز، وفخري كريم مدير تحرير الجريدة، كنت خطاط الجريدة منذ صدور أول عدد لها، وكان المصمم الاخ حسام الصفار، وهي تطبع بثماني صفحات بلونين، في مطبعة الجاحظ في راغبة خاتون، لصاحبها رسمي العامل، وبطباعة (اللتر بريس) القديمة التي تعتمد(الكلايش)، وصف الحروف، شغلت الجريدة شقتين في عمارة حديثة، تطل على شارع السعدون، بالقرب من تمثال السعدون، وضمن بناية خصصت لسينما النجوم، افتتحت تواً في بغداد.

نجحت الجريدة منذ صدورها الأول، وكانت في مقدمة الصحف المطلوبة في الشارع، وتصاعد عدد قرائها، لأسباب عدّة، أولها لأنها الجريدة العلنية الوحيدة للحزب، بعد فترة انقطاع وتوقف لجريدة “اتحاد الشعب” عام 1961، التي صدرت بعد تموز 1958، ولان “الفكر الجديد” محاطة بعدد من المبدعين من جيل الصحفيين والمثقفين الرواد والشباب، أمثال: فائق بطي، شمران الياسري، محمد الملا كريم، محمد كريم فتح الله، يوسف الصائغ، سعدي يوسف، خالد الحلي، محمد الجزائري، سلوى زكو، وعدد آخر من المتطوعين، فضّلوا عدم الإعلان عن أسمائهم، لانهم يعملون في مؤسسات صحفية حكومية. اذكر على سبيل المثال محمد كامل عارف، سعود الناصري. الصحفيان الرياضيان ابراهيم اسماعيل، وصگبان الربيعي. صبحي حداد، قيس الياسري.

إثر إعلان ميثاق الجبهة الوطنية، صدرت طريق الشعب في 16أيلول بشكلها العلني، لأول مرة، بعد أن كانت سرية، وتشكلت هيأة التحرير من: صاحب الإمتياز ثابت حبيب العاني، ورئيس التحرير عبد الرزاق الصافي، ومدير التحرير فخري كريم. شغلت الجريدة أحد طوابق العمارات المواجهة لسينما اطلس، كما تحول المبنى الى مقر لقيادة الحزب في بادئ الأمر قبل انتقال الجريدة الى مبنى آخر قرب سينما بابل، كذلك إختار الحزب مقراً له قرب ساحة عقبة بن نافع في الكرادة.

وضع الفنان محمد سعيد الصگار تصميم (ماكيت) العدد التجريبي (عدد صفر)، واستخدم حرف ابجديته في ترويسة الجريدة، وكانت الاعداد الأولى بحجم صغير يعرف بـ(التابلويد)، وبإمكانات طباعية قديمة، وكانت عملية التنضيد وترتيب الصفحات تتم في مطبعة الحكومة، وظلت الجريدة تطبع بالحجم الصغير في مطبعة تقع في شارع الشيخ عمر، تعرف بإسم مطبعة فريد، وهي في الحقيقة  تعود للحزب اشتراها بإسم رجل الأعمال فريد الأحمر، عام 58، وصادرها انقلابيو 8 شباط عام 63، ثم تحولت الى قطاع الدولة، بعد  خطوات التأميم عام 1964، لطباعة صحف الثورة العربية، والمساء.

اعترض البعض على ترويسة الصگار، فتم تغييرها بخط الرقعة للفنان كنعان هادي، وإستقرت الترويسة أخيراً بخط الثلث للخطاط مهدي الجبوري، الذي امتنع من تذييلها بتوقيعه، ووقع الاختيار على مبنى مقابل القصر الابيض، كانت تشغله جريدة الاخبار التي صدرت في عهد الجمهورية الاولى لصاحبها جبران ملكون، وكان معداً بشكل مهني ومتحضر، بقاعات للتحرير، والتصميم، والتصحيح، والقسم الطباعي الذي شغلته مكائن اللاينوتيب، ثم مطبعة الاوفسيت باربعة ألوان، التي تم استيرادها من المانيا الديمقراطية، بإدارة امهر الطباعين، وافضلهم خبرة، سعدون علاء الدين أبو لبنى، وكان عبد الخالق زنگنة المشرف العام على المطبعة، ومن الاحداث المثيرة التي ذكرها ليث الحمداني في كتابه اوراق من ذاكرة عراقية، انه في هذا المبنى تم نصب ماكنة طبع قديمة تعود ملكيتها للحزب، كان قد أخفاها بعد ان فككها ووزعها على مناطق مختلفة في بغداد، فأعاد تنصيبها أول طباع تدرب عليها هو طارق علي السامرائي.

باشر فريق العمل الخاص بالجانب الفني والطباعي في هذا المبنى، بأوقات عمل تبدأ منذ ساعات الصباح الأولى، لساعات متأخرة من الليل، وهذا الفريق ضمّ بشكل ثابت كلاَ من، ليث الحمداني، محمود حمد، الأشقاء جمال وسامي وصفاء، وكذلك صائب العاني، فلاح حميد، عبد علي طعمة، قيس قاسم، عبد الرحمن الجابري، يوسف الناصر، مصطفى احمد، الرسامة عفيفة لعيبي، رسام الكاريكاتير مؤيد نعمة، والرسام نبيل يعقوب، ومن الرسامين الآخرين، فيصل لعيبي، صلاح جياد، ابراهيم رشيد، حميد عبد الحسين، وكان صادق الصائغ حاضراً على الدوام، واسهم الفنانون يحيي الشيخ، خالد النائب، عزيز النائب، في تصميم وخط صفحات الجريدة لوقت قصير. وتم نصب جهاز (التيكر) لإستقبال الاخبار آلياً، وأوكلت المهمة مساءً للخريج الجديد من قسم الاعلام لؤي غائب ولعبد الله عطية صباحاً، وتتحول الغرف الزجاجية الى ورش عمل لاينقطع، وقت المساء، للإعداد لعدد الجريدة في اليوم التالي، فالى جانب القسم الفني، فهناك قسم المحليات الذي يضم اسماعيل خليل، ومحمد خلف، والشاعر الشعبي جمعة الحلفي، وفي الشؤون الدولية والعربية، يلتحق رشدي العامل، وفي البدايات كان عبد المجيد الونداوي وحميد رشيد، ثم تفرغ عبد المنعم الاعسم ويحيى علوان لهذه المهمة، ويتناوب عادة اعضاء من هيأة التحرير للاشراف على الجريدة من موقع العمل في المطبعة ليلاَ، وعلى الأغلب هم: عبد الرزاق الصافي، فخري كريم، محمد كريم فتح الله، حميد بخش، عبد السلام الناصري. وعمل في قسم التصحيح: الشاعر يحيى السماوي، خالد النعيمي، ذياب كزار(الشاعر الشعبي ابو سرحان)، مظهر المفرجي، عدنان عباس، عريان السيد خلف، عبد الحسن عيسى، عيسى رمزي غيدان، فالح حسون الدراجي، عامر رشيد، سلام صادق.

وتشكل قسم المونتاج بفضل خبرة مبدعي هذا الميدان وهم خالد الصالحي، رحيم فالح، علي الجبوري، وعفان الكعبي، وتمكن عدد من الشباب من اكتساب مهارة هؤلاء، وتطورت امكاناتهم الفنية، وهم بيمان سعيد، انتشال هادي، منى سعيد، زاهرة هادي، عبد الزهرة غلام، جابرسفر، ثائرة فخري، وانضمت كوريا رياح، ورملة الجاسم الى القسم. ومن غير المنصف ان لا نذكر عمال المطبعة المداورين: صباح جمعة، علي الجواهري، علي اسود، وشيخهم ابو ظاهر، وفي التنضيد، صلاح الناصر، وكريم قباني، عيدان ابو سلام، موفق، سعدي محمد، وصديق، وبهجت.

ان هذه التجارب مجتمعة، وان لم اتحدث عن الجانب الاهم فيها،( يشغل بناية التحرير في السعدون)، وهو السياسي والثقافي والمهني، بقدرات العاملين المبدعين فيه، استطاع ان يمنح تلك المطبوعات، الطليعية بين الصحف والمجلات، شكلاً واخراجاً، ومضموناً، واثار بذلك حفيظة صحف النظام المنافسة.

هذه الحقائق تقودنا الى النظر والتأمل في تجربة غنية، على الرغم قصرها، الا انها تحفل بالإنجاز والمعاني والدلالات، إذ أقف بإنبهار أمام تلك التمثلات الابداعية، في أيام مجد تلك الإصدارات (الثقافة الجديدة، الفكر الجديد، طريق الشعب).

***********

من موقد النار

 

عبد جعفر

 

عندما كان ضجيج (الجبهة الوطنية) يعلو في الخارج أيام السبعينات من القرن الماضي، يبدأ (قسم حياة الشعب) في (طريق الشعب) يومه في المشي عكس التيار، إذ يزخر بعالمه الخاص، ألا وهو كشف معاناة الناس اليومية من سكن، ودخل، ونقل، وصحة، وخدمات بلدية، ومظالم العمل وغيرها، أي كل ما يثير حفيظة (الحلفاء) وتذمر بعض الرفاق المراهنين على تطور الجبهة.

وكان القسم تثقله ردود الجهات الإعلامية في مؤسسات الدولة، لأنها ترى فيه خصما، عنيدا، مستمرا في كشف أكاذيبها وقصورها، إلى حد أن محافظ بابل قال ذات مرة في أحد مجالسه الخاصة (إن الشيوعيين (مع شتائم بذيئة) ينشرون مطالب قرى في المحافظة أنا لا أعرفها شخصيا).

 كان القسم، برئاسة زهير الجزائري، ورشة عمل صاخبة، وأكثر أقسام الجريدة  حركة، يرتاده الكثير من الزائرين، حتى يبدو كأنه مسرح  لعرض واحد، ولكنه يتكرر مع أحداث جديدة، يتوزع الممثلون فيه، فهناك فاضل السلطاني الصامت، وجمعة ياسين المنفعل دائما، وهو يحرر المطالب والردود في باب باختصار، والفقيد خليل الأسدي وهو غارق في همومه، وفاطمة المحسن وهي تناقش زهير عن عمل صفحة المرأة، ويكبر العدد وينضم إلى القسم الشهيد خليل المعاضيدي بعد أن ترك عمله في التدريس، إثر زيادة الملاحقات عليه في بعقوبة، والشهيد نعيم عليوي (أبو ربيع)، والفقيد عريان سيد خلف، بالإضافة إلى زائرنا الدائم صاحب الحقيبة الكبيرة الفقيد حمدي العاني (أبو حمادة) الذي كان يوزع علينا الكثير من القصاصات ويعطي منها إلى(زهير) ويمضي، كما أن هنالك عددا آخر من المتطوعين يرفدون عمل القسم الذي يشرف على صفحات كثيرة وهي: حياة المعلمين، والطلبة والشباب، والمهنية، والمرأة.

العمل في (حياة الشعب) كان متعددا، ينجزه الرفاق المحررون ويتعاون معهم الرفاق المسؤولون على الصفحات المرتبطة بالقسم (وهم غير متفرغين للعمل الصحفي)، والآخر من إنجاز المكاتب الصحفية في المحافظات في عموم العراق، وهنالك خطة عمل يضعها القسم بالتعاون مع سكرتارية التحرير وممثلي المكاتب. وأمتاز العمل رغم كثرة المشاغل، بدقته، فلم نر أي مكتب صحفي يخل بالتزاماته، كما أن العاملين في القسم، وخصوصا في التحقيقات، كانوا ينهلون المعلومات من أرشيف الجريدة الذي تشرف عليه سهام الظاهر.

 ويرفدهم المختصون بمعطيات كثيرة تساعدهم في صياغة الأسئلة، فحين يذهب الصحفي منا، يكون ذا قدرة في الحوار حين يقابل المسؤولين الحكوميين.

وكان إجراء التحقيق الصحفي ليس سهلا، فهناك العديد من المضايقات من سلطة البعث، والكثير من المسؤولين الحكوميين كانوا لا يتجاوبون معنا، كما أن البعض منهم يدخلك في حرج، كما حدث في مقابلتي حول أزمة السكن مع خير الله طلفاح (والي بغداد) الذي كنت لا أعرفه بالشكل، ولم أعرف أنه مسؤول أيضا عن إحدى الجمعيات التعاونية للإسكان.. فحين سألته عن رأيه بالسكن العمودي قال لي:

(إبني هذا في روسيا الشيوعيه يمشي، في أوروبا الرأسمالية يمشي، عدنا ما يمشي)

وحين سألته السبب قال:

- (ولد وبنيه صعدوا في المصعد مد يده... أراد.. إحنه شنگـول)!

 كما أن إدارة الجريدة بقيادة المرحوم نوزاد نوري، كانت، أحيانا، غير متعاونة معنا، فهي لا ترى في طلبنا السيارة لإجراء تحقيق أو مهمة صحفية، بالشيء المهم، فيتحمل الصحفي معاناة جولته في النقل العام مع المصور (قتيبة الجنابي)، والشيء نفسه يقال عن تزويدنا بالورق أو الأقلام.

وذات مرة، طلب زهير بعد أن وُلدت أبنته ميس، من (نوزاد) شراء عربة للأطفال مركونة بقسم البدالة، كانت هدية من “الأورزدي باك” للجريدة رفض الطلب بحجة أنها ملكية الحزب، فقال له زهير ساخرا:

 (من يضع الحزب فيها عزيز محمد أم زكي خيري)!

رغم العلاقات الرفاقية الحلوة، فأن مشاكل العمل لا تنتهي، ويصبح رئيس القسم زهير الجزائري الذي نتحمل (تقريعاته) الدائمة لهذا الخطأ أو ذاك، مصدتنا أمام سكرتارية التحرير وهيئة التحرير، فعصبية الفقيد عبد الحميد بخش (أبو زكي) من هيئة التحرير المشرف على القسم، كانت لا تطاق، رغم طيبته وتواضعه، إذ كان أحيانا يمزق الأوراق قبل أن يطلب من زهير إعادة كتابتها. مرة طلب استدعائي، فقال لي زهير بما معناه جاءك الموت يا تارك الصلاة! فأنا أعرف نفسي كنت مبتدئا بالعمل الصحفي، وأخطائي كثيرة، واعتقدت أن (زهير) حين بعث بمادتي لم يراجعها بعدي، وهذه المرة يكون التقريع لي مباشرة.

وحين رجعت مبتسما، فرحا، لم يصدق بما أنا عليه، فقال لي ماذا حدث، قلت ضاحكا: لقد دعاني لأكل العنب معه!

- فقط!

- كنت أتوقع مثلك (غسل وتشحيم) ولكن الرجل تكلم معي بطيب خاطر، وتحدث معي بأمور عامة لا علاقة لها بالعمل الصحفي، وتمكنت من أكل حبات العنب بهدوء معه! واكتشفت الوجه الآخر ل (أبو زكي). 

 وحين تدفع الصفحات ويحل الهدوء، يبدأ موسم الضحك، حيث يبدأ زهير بذكر (القفشات) التي مر بها، وحين تصفو روحه يغني ونحن ننتظر يوما آخر بهمة ونشاط، رغم ضنك العيش وقلة المداخيل وخاصة للمتزوجين منا المحملين بهموم الإيجار وطلبات الأطفال، إذ كنا عزابا ومتزوجين نتجاوز هذه المشكلة بالاستدانة من رفاقنا المتطوعين الذين يعملون في دوائر الحكومة، فكل بداية من الأسبوع الثاني من الشهر، نبقى في القسم بانتظار من يكون (ضحية) لاستدانتنا المزمنة. وأحيانا نذهب إلى الدائرة المالية في المطبعة (دار الرواد)، لطلب السلفة، وعلينا تحمل (بيروقراطية) رهيبة من (رفاق مسلكيين)، تبدأ بتقديم المستمسكات المطلوبة، وهي مرور أكثر من عام على عملك، وأن يكون لك كفيل له بالخدمة عام أيضا، وفي حالة الموافقة، وتدخل النقود في جيبك، عليك أن تبعث بنصفها إلى الدائنين، والقسم الآخر هو أن ترمم مظهرك بشراء قميص أو سروال، وربما تدلل نفسك بعض الشيء، وترتاح إلى حين من الاستدانة!  وربما تأكل في مطعم محترم، إذ كنا نتناول غداءنا في الجريدة، مقابل مئة فلس، وهو متنوع وجيد وخصوصا حين تكرمنا بعض العوائل الموسرة من أصدقاء الحزب بطبخة لم نحلم بها، ولكن في بعض الأحيان لظروف لا أعرفها يجري إطعامنا باستمرار بالفاصوليا مع التمن والتي وصفها زهير ساخرا إنها ضمن خطة العمل الحزبي وهي موضوعة في خزان كبير يجري فتح (حنفيته) كل يوم للرفاق!

وكان ملتقى الغداء حيويا ولطيفا حين يجتمع أكثر المحررين والشغيلة، ونسمع نكات مخلص خليل حول عيادة الصديد محافظ السماوة آنذاك، ومقالب حضيري مع داخل حسن.

 تفرق الجمع، بعد الهجمة التي طالت الحزب منذ منتصف 1978، وأغلقت الجريدة في بداية نيسان (أبريل) 1979، فتباعدت المسافات بين الرفاق وغيبت وجوه، ولكن يبقى طعم تلك الأيام جميلا رغم كل مراراتها وقسوتها، وتمثل تجربة حياة مناضلين تحدوا السلطة رغم اغراءاتها وقمعها لأنهم نذروا أنفسهم للوقوف مع شعبهم ومطالبه العادلة!

********

الصفحة الثامنة

من يوميات الجريدة

زهير الجزائري

 

أنا والرفاق في الجريدة منغمرون في عمل دؤوب مع المكاتب الصحفية. نناقش معاً تجربة المكاتب الصحفية، وهي في نظرنا معاً تجربة فريدة في الصحافة عموما وفي الصحافة الحزبية بالتحديد. لقد بنيت هذه الشبكة الواسعة من المكاتب بتعاون فريد بين هيئة تحرير الجريدة وبين التنظيمات الحزبية. توسعت هذه المكاتب حتى وصلت الى مستوى النواحي. ووصلنا في تغطياتنا الى قرى تكاد تكون مجهولة حتى من الجهات الحكومية. ممارسة العمل الصحفي والتحقيقات بالتحديد تخرج الكادر الحزبي من الانغلاق والمكتبية وتوسع علاقاتهم بالناس ومشاكلهم وتجعل الجريدة منشطا للحزب.

دورات مناطقيه في المحافظات ومركزية في مقر الجريدة لتدريب كوادر حزبية على كيفية كتابة تقارير عن قطاعات خدمية ومطالب جماهيرية وباختصاصات متنوعة: ثقافية، شبابية، عمالية، مشاكل فلاحين… نسمع من الرفاق ملاحظاتهم على الجريدة، وهي ملاحظات درست وبوبت بدقة ودأب. كما نقدم لهم ملاحظاتنا: تشابه وتكرار في المواضيع. المكاتب تنقل مواضيع كتبتها مكاتب أخرى. ضرورة الابتكار والتنوع في المواضيع وأسلوب التناول.

13 /3 /1979 بغداد:

منذ الصباح وصلت الى مقر الجريدة ففوجئت: أكثر من خمس سيارات للأمن تطوق مبنى الجريدة بشارع السعدون، الى جانب وجوه غير التي عرفناها تراقب ما حولها في عرض مقصود، لأول وهلة قدرت أنهم داهموا الجريدة.. أضع هذا الاحتمال في ذهني صباح كل يوم وأنا متوجه للجريدة، بل انني تخيلت تماماً شكل المداهمة، وكيف ستتحول الى كمين لاصطيادنا. عندما دخلت الى المبنى رأيت منتسبي المطبعة والموزعين والسواق، وللحال عرفت انهم صادروا عدد الجريدة الذي يتضمن رداً على مقال نشر في جريدة (الراصد)، ثم عرفت شكل المطاردة: أية سيارة تغادر المطبعة أو الجريدة تطاردها الدراجات النارية والسيارات، وحالما توزّع الصحف يجمعونها من الباعة. مطاردات أشبه ما تكون بجري الكلاب وراء فريستها. لقد حاولوا حظرنا من إيصال، حتى ولو عدد واحد الجريدة، لكن الأمر لن يتم لهم بهذه السهولة. فقد تسربت وريقات ووصل صوتنا الى الخارج.

مصادرة العدد بهذا الشكل المربك زاد معنوياتنا. سيعرف الناس بغياب الجريدة، سيتساءلون ويعرفون ان هناك جهات لا تريد من يقول لها: لا! ومع ذلك هناك من يقولها! خطوة باتجاه العمل السري. بدأنا نخفي المقالات في ملابسنا لنوصلها لمن ينبغي أن يقرأ ويعرف. وقد زادت هذه الخطوة من شجاعتنا للتصدي والمناكدة. اذن نحن بدأنا نشكل خطراً جدياً، وان صوتنا يسمع.. منذ زمن كانوا آمنين لأننا لن نقول أكثر مما ينبغي، والآن بدأ صوتنا الذبيح يخيفهم، متأخراً، لكنه مع ذلك أعطى لوجودنا معنى.

 

24 /3 /1979:

صباح كل يوم نذهب الى مقر الجريدة ونحن ملزمون بعد النزول من الباص بعبور الشارع. خلال هذه المسافة القصيرة تصبح كل الاحتمالات موضع امتحان حقيقي، في هذه المسافة القصيرة نحاول أن نحتمي بمظهر المواطنين العابرين الذين لا يعرفون السياسة والتحزب، وخلال ذلك نراقب باب الجريدة لنرى ما يدل على انها انتهكت، أو ان الامور لا تزال على طبيعتها كما هي كل يوم، وكان هاجسنا مع كل عبور أننا مرصودون من أعين العسس المتحفزين بانتظار الأوامر، حتى ندخل المبنى فنجد وجوه رفاقنا، آنذاك ينحل القلق ويعود أمان الروتين اليومي.

اليوم عبرت الشارع بثقة وبرود غريبين، بل انني اخترقت اثنين من عسس الأمن متعمداً، لكنني ما بلغت هذا البرود الا بعد اجتياز حاجز الخوف الأسود، ووطنت نفسي لأسوأ الأمور.

 

31 /3 /1979:

من الصباح لبست أفضل ما لدي من ملابس ووضعت زهرة قرنفل على صدري وذهبت الى الجريدة، اليوم هو العيد 45 لتأسيس حزبنا، بأي ثمن وبأية وسيلة ينبغي أن نستدعي الفرح، قد تكون نفوسنا مصدعة، ولكن ممارسة هذا التقليد تعطينا حيوية وتجدداً، تعانقنا في الجريدة، وقبّل بعضنا بعضاً، وجلبت “فاطمة المحسن” سلة من زهور وأغان وحلوى.. يا لقلتنا ويا لوحشة  الجريدة، ومع ذلك يمكن أن نصنع فرحاً متواضعاً، كما في خلية من خلايا الحزب، وعللنا أنفسنا بأخيلة لا تحد عن رفاقنا الذين يحتفلون في كل مكان من العالم.. البرقيات التي تتالت أعطتنا احساساً بالمهابة.. ان هذه المجموعة القليلة هي جذر الحزب في التربة العراقية القاسية، وكنا نعرف كم من انسان فرح في مخبئه، وكم من مجموعة  أقامت فرحأ سرياً، كل عام كانت هذه المناسبة تستحيل الى مهرجان حقيقي، أما ألان فإن هذا الفرح الموحش له طعم خاص كشمعة توقد في قلب المحنة الصعبة. قال لنا رفيق: ليس هذا أول فرح صعب، لمرات احتفلنا في بيوت الاختفاء، ولمرات احتفلنا في السجون، وأحياناً في زنازين انفرادية. قلنا اذن ستنجلي السحابة وسيكون احتفالنا الصغير هذا ذكرى جميلة. في كل العالم يبدأ رفاقنا احتفالاتهم بشرب نخبنا نحن القلة المحاصرة التي أنجزت العدد الاحتفالي للجريدة بتحد عجيب!.

نحن الآن على الحافة، لقد بلغ التوتر والاستقطاب مداه الحاد، ولم نعد نعاتبهم، انما نتحداهم برقابنا الممدودة على المقصلة.. لقد تجاوزنا حواجز الخوف وأصبحنا نصنف الخوف ونجزؤه: الخوف الفعال من الخوف الجبان، الخوف الشريف والخوف الذي يتحول الى خيانة.

انهم الآن على مفترق لا عودة منه، أن يمضوا بالشوط حتى نهايته في ردة سريعة، لكن هناك حواجز، انهم يطلقون كل مدفعيتهم الثقيلة، وفي الوقت نفسه يتركون للمفاوضات نافذة. ماعاد لدينا ما نخسره، لذلك ينبغي ان نتظاهر بالقوة والعناد. ولكثرة ما توقعت من أسوأ الأمور فقدت حتى حذري، لم أعد أهتم كثيراً بسيارة قادمة قد تصدمني في هذه الطرق التي أقطعها كل يوم ماشياً على قدمي، وأنا أفكر أنه فوق هذه الطرق ستمرغني على الأرض واحدة من سياراتهم المتربصة وتمضي، ربما أصبح استهتاري بالموت هذا مزيجا يزيد فيه اليأس قليلاً على الشجاعة، لقد أخِذتْ مقالات لئيمة ضدهم باسمي الكامل وأنا أعرف بأية نوايا صفر يفسرون ما نكتبه، يوجدون نوايا ومقاصد لم نضعها نحن، وباستمرار أحرص على أن أحضر العروض السينمائية والمسرحية والمعارض، وأنا متأكد من أن العسس سيكونون هناك بانتظارنا .. ان وجودنا يعيد للناس شيئاً من الثقة والشجاعة، وفي هذه المعارض التقي بشباب يقتربون مني ويسألونني فاحدثهم بهدوء وبرود، وأرى عيوناً متسعة من بعيد ، شديدة السواد، دبقة، تراقبني وتتهامس.. أصبحت أعرفهم وأميزهم من بين مئات الوجوه، وأشم رائحتهم وأعرف سياراتهم، وكيف يراقبوننا ويتبادلون المهمة ليموهوا علينا، وعندما أذهب الى مقر اتحاد الادباء أرى بعضهم يحتل الموائد التي كان يجتمع عليها ألطف وأجمل كتابنا وشعرائنا.. انهم يجلسون بثقة عالية كأن الاتحاد مجالهم وناديهم، ويستدعون عمال الخدمة ليسألوهم عن أسماء الوجوه التي لا يعرفونها.

هؤلاء أنفسهم سيخطفوننا ذات يوم من الشارع، وسيعذبوننا ويحققون معنا.. انني أحس أصابعهم وعيونهم فوق الورقة التي أكتب عليها. لقد عرفت انهم يجمعون في ملفات خاصة كل ما نكتبه أو يكتب عنا، ويضعون تحت الكلمات التي لا يفهمونها أو يفهمونها بسوء نية خطوطاً واشارات. وذات يوم جلبوا الى اجتماع الجبهة ملفاً كبيراً عن التحريض ضدهم بالقصائد والقصص، انهم يضعون ما ننشره تحت المجهر، وفي غرف التشريح، وأنا أناكدهم بأن أكتب باستمرار عن النازية، وعن الشعراء والروائيين والفنانين الذين قاوموا النازية وانتصروا عليها، وأضع في غرفتي التي ستستقبلهم ذات يوم صورتين كبيرتين جدا: لوحة الجورنيكا لبيكاسو، وصور وثائقية للجنود السوفيات يضعون العلم الأحمر على الرايخ النازي.

 

6 /4 /1979:

قبل أن نعود إلى بيوتنا بساعة نزل رئيس التحرير عبد الرزاق الصافي ليقول لنا وعلى فمه ابتسامة مقصودة” هيئوا أنفسكم للفكر الجديد، فقد أغلقوا جريدتنا لمدة شهر”. فوجئنا بتحديد المدة، فقد كنا ننتظر إغلاقا نهائيا. رد فعلنا الأول هو الصمت، وبعدها بدأت التعليقات، وبسرعة اكتشفنا أن الأمر ليس إلا مفارقة. لم نحزن ، بل على العكس ،عرفنا إن الجريدة صارت في الأيام الأخيرة مؤذية لهم. لقد بلغوا من التصلب حد أنهم لم يحتملوا حتى العتاب.

كنت قد هيأت نفسي لأيام الفراغ التالية ووضعت أمامي مسودة رواية وضعت لها عنوانا افتراضيا هو (نفق إلى الشمس).

***********

الصفحة التاسعة

قصة كليشة اتحاد الشعب

عبد الرزاق الصافي

الرفيق الراحل عبد الرزاق الصافي، معروف بحيويته ومرحه وذاكرته التي تحتفظ بالكثير من الحكايات التي يجيد روايتها بشكل مشوق. في أحدى المرات، في سبعينات القرن الماضي، وحين كان يشغل رئاسة تحرير”طريق الشعب” تحدث لبعض الرفاق  في التحرير عن بعض الشؤون الفنية في الجريدة، واستطرد في ذكريات سنوات مرت، ولم يذهب الحديث عبثا  فقد سجله محررو الجريدة ووجد طريقه للنشر.

المحرر

كان ذلك عام 1956، وبعد اعادة الوحدة لصفوف الحزب ومعالجة المنظمات الانقسامية، وكان من بين ما اولاه الحزب اصدار جريدة الحزب باسم جديد. وقام بنوع من الاستفتاء بين الرفاق والاصدقاء عن الاسم الجديد الذي يرشحونه للجريدة. وحيث ان من جملة المسائل المركزية التي كانت تحتل اهتمام الحزب في تلك الايام كانت قضية وحدة كل القوى الوطنية والتقدمية ضد النظام الملكي فقد حظي اسم “اتحاد الشعب” بقبول واسع عند اختياره من قبل قيادة الحزب، وجرى الايعاز بعد ذلك الى احد الرفاق بأن يتدبر الحصول على خط وكليشه للاسم الجديد. الرفيق المكلف اتصل بالفنان الراحل هاشم الخطاط وطلب منه ان يخط له كلمتي (اتحاد الشعب) بخط من نوع معين، فأعترض المرحوم الخطاط قائلا ان هذا النوع لا يصلح للعناوين الكبيرة وبعدها خط “اتحاد الشعب” بنوعين من الخطوط احدهما يصلح للعناوين الكبيرة والاخر للصغيرة ونفذ الفنان طلب الرفيق. وقبل ان يتسلم الرفيق الخطوط دخل احد الاصدقاء وراى الاسم مخطوطا على الورقة. وهنا كان على الرفيق ان يحتاط ، لقد كان حريصا على ان لا يكشف علاقته بالفنان الراحل (رغم ان هذا الصديق كان موثوقا) وهكذا ذهب الرفيق الى ستوديو الحكيم في رأس القرية وطلب منه ان يخط “اتحاد الشعب”. اصبح لدى رفيقنا الآن خط الفنان هاشم والخط الذي اخذه من ستوديو الحكيم، وتدبر ان يحصل على كليشه للخطين، ثم ارسلهما للحزب مع رسالة يقترح فيها استعمال كليشة ستوديو الحكيم  بعدد او عددين (خشية انكشاف علاقة هاشم الخطاط بكليشة “اتحاد الشعب”) ثم العودة الى الكليشة التي اعدها الفنان هاشم.

وفي عام 1957 جرى كبس مطبعة الحزب ومن جديد كان ينبغي ان يتدبر الحزب كليشة جديدة. اذكر ان المرحوم يعرب البراك تبرع بأن يحصل لنا على الكليشه: سألته كيف ؟ وحذرته من مخاطر الموضوع  قال اتركوا الامر لي فانا كفيل به. وكررت تحذيري له فقد كنت واثقا بان كل محلات الزنكغراف مراقبة. عمد المرحوم البراك الى تجزئة الاسم (اتحاد) و(الشعب) وطلب خط الكلمتين منفصلتين على امل ان يجمعهما بعدئذ، ثم اودع الكلمتين لدى احد اصحاب الزنكغراف، واتفق معه على الموعد. حين ذهب في الموعد المحدد وجد رجال الامن بأنتظاره ، ولكن المرحوم البراك كان قد احتاط للامر مسبقا، فقبل مراجعة الزنكغراف ذهب الى مديرية الدعاية العامة وقدم عريضة شرح فيها انه بصدد تأليف كتاب عن الاتحاد الهاشمي وترد في فصول الكتاب كلمتا اتحاد والشعب. وطلب البراك من مديرية الدعاية تزويده بالوثائق المطلوبة وسجل عريضته واخذ “رقم وتاريخ “ واخذ وصلا بها. وهكذا حين واجهوه في الامن وحاصروه بتهمة العلاقة مع الحزب والعمل على استحصال كليشه باسم جريدته قال لهم ببساطة : انه يريد ان يعد كتابا عن الاتحاد الهاشمي يتحدث فيه عن اهميته. اوقف البراك عدة ايام وتعرض للضغط لكنهم لم يحصلوا منه على شيء. وما كان لهم ان يحيلوه الى المحكمة. ولهذا اضطروا الى اطلاق سراحه وفيما كان الرفيق يغادر التوقيف كان ضابط الامن يقول بعصبية: انظر انا مقتنع بانك اعددت هذه الكليشه للشيوعيين، مقتنع مئة بالمئة، ولكن ما الذي املكه لقد استطعت ان تفلت هذه المرة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

طريق الشعب  العدد 1131، في 15 حزيران 1977