شمس أحمد غني (30 عاماً) من بغداد، ولدت فاقدة حاسة السمع ومعها فقدت قدرتها على النطق، ما جعلها تعيش في عزلة دائمة، لا سيما ان قلة من أفراد المجتمع تستوعب ذوي الإعاقة، وتدرك حاجاتهم وامكاناتهم وتطلعاتهم – حسب ما تقوله في حديث صحفي من خلال مترجم للغة الإشارة.
وتضيف انها تخرجت عام 2009 في معهد للصم والبكم بعد رحلة شاقة لمدة 6 سنوات، لافتة إلى انها في المعهد لم تتعلم أغلب إشارات اللغة، ولم تحصل على المعلومات الكافية التي تؤهلها لمواصلة حياتها والاندماج مع الآخرين الأصحاء.
وتلفت إلى أن المسافة بين منزلها والمعهد بعيدة، وكانت تُنقل في البداية عبر حافلة خاصة، ثم توقفت الحافلة عن نقلها وزملائها، ما اضطرها إلى تحمل أجور النقل، فضلا عن مشاق الطريق، مبينة أن المعهد يفتقر لكوادر تدريسية متخصصة في لغة الإشارة.
ولا يجد طالب معهد الصمّ سبيلاً لمواصلة دراسته بعد التخرج فيه، كما يحدث في دول أخرى بعضها مجاور للعراق مثل تركيا وإيران. لهذا، سيطرت العزلة فترة على شمس التي كان حلمها أن تتدرج أكاديمياً، بدراسة المتوسطة والإعدادية، ثم تحصل على شهادة جامعية.
وتتساءل شمس: "لماذا نُحرَم من هذا الحق؟ إن تعلّمنا لغة الإشارة وعرفنا القراءة والكتابة، لماذا نُمنَع من إكمال مشوارنا الدراسي؟ المعهد يعادل فقط الشهادة الابتدائية، وهذا تعليم متدنٍ"!
وتعدّد الشابة المشكلات التي يواجهها الأصمّ على مستويي الأسرة والمجتمع. فقد واجهت هي شخصياً تقييدا فرضته عليها عائلتها، لكن إصرارها جعل ذويها يتقبّلون فكرة تعاملها مع المحيط الخارجي. لذلك تدعو عائلات ذوي الإعاقة إلى دعم أبنائها ومساندتهم ومتابعتهم لحين تمكنهم من الاعتماد على أنفسهم.
وفي ما يتعلّق بأفراد المجتمع، توجه شمس رسالة إليهم، مفادها: "كفّوا عن التنمر علينا.. نحن نشعر باستهزائكم، وحتى نظرات العطف التي ينظر بها بعضكم إلينا، تجرحنا، عليكم أن تعلموا أننا جزء من هذا العالم ولنا أحلامنا التي نرغب في تحقيقها مثلكم تماماً".
الخروج من العزلة
وفقاً لمؤشرات المسح الوطني للإعاقة، الذي جرى عام 2016، فإن هناك 156.959 معاقاً بالسمع في العراق يشكلون 9.2 في المائة من نسبة ذوي الإعاقة في البلاد. وتعكف وزارة التخطيط على إجراء مسح جديد، منذ آب 2023.
شمس هي واحدة من هذا العدد الكبير من فاقدي السمع، لكنها بخلاف الكثيرين من أقرانها، رفضت الاستسلام لحياة العزلة، وأصرّت على السير في حياة رسمتها لنفسها.
تقول انها عثرت على تجمّع لذوي الإعاقة يترأسه شخص يُدعى موفق الخفاجي، فانضمت إليه عام 2018. وبعد مشاركتها في العديد من فعاليات التجمع، حصلت مع 17 من ذوي الإعاقة على عمل في "مخابز باب الأغا" في بغداد، ونالت ترقية سريعة لتصبح المسؤولة عن صنع "اللحم بعجين"!
وترى شمس أن خروجها للعمل واستقلالها المادي، جعلا أسرتها تتيقن من قدرتها على الاعتماد على نفسها. ويبدو أن الثقة في النفس هذه تعزّزت لديها كثيراً، إذ تشارك بين حينٍ وآخر في وقفات احتجاجية للمطالبة بحقوق ذوي الإعاقة. كما تخطّط للمشاركة في العملية السياسية من خلال الترشيح للبرلمان، بهدف إيصال معاناة أقرانها إلى أصحاب القرار في الحكومة مباشرة.
شريحة مُهمَلة
يحصل ذوو الإعاقة من الصمّ على مبلغ شهري مقداره 120 ألف دينار من الرعاية الاجتماعية، وهو بحسب العديد منهم فضلاً عن شمس، غير كافٍ. لذلك يُناشد هؤلاء، الحكومة التي يتهمونها بإهمالهم، توفير وظائف مناسبة لهم، كما كان معمولاً به سابقا، لأنهم يجدون التوظيف وسيلة للاندماج في المجتمع، فضلا عن كونه حقا من حقوقهم.
كما يطالبون، عبر وسائل إعلام، بتوفير مترجمين متخصصين في لغة الإشارة في الدوائر الحكومية، كي يساعدوهم في إنجاز معاملاتهم، بدلاً من الاعتماد على شخص من العائلة، يكون وصيّاً عليهم، وفقاً لما معمول به من إجراءات حالياً.
ويطالبون أيضا بألّا تقتصر الدراسة في معهد الصمّ على ثماني مراحل دراسية فقط مثلما عليه الأمر اليوم، لأن الكثيرين منهم لديهم طموح شخصي في الحصول على شهادات عليا.
تنمّر مجتمعي
بناءً على تجربته الشخصية، يعتقد رئيس "منظمة دجلة" للمترجمين، علي الموسوي، أن الأطفال يدفعون ثمن إعاقة آبائهم، ويحصلون على نصيبهم من التنمر في المجتمع.
ويقول في حديث صحفي أنه "في طفولتي، وعند زيارة والدي الأصم إلى المدرسة، كنت أتغيّب بعدها أسبوعين أو أخفي نفسي وقت الاستراحة بين الحصص هرباً من التنمر الذي كنت أتعرّض إليه. فبعض التلاميذ يقولون لي والدك أخرس أو يصيحون هذا ابن الأخرس"!
ويتهم الموسوي المجتمع بالتعامل بنحو غريب مع الشخص الأصم "البعض ينظر إلى الأصمّ بدهشة، كأنه قادم من الفضاء الخارجي، لا سيّما عندما يرونه وهو يُعبّر بلغة الإشارة"!
50 معهدا تعاني نقصا في الكوادر
يلفت الموسوي إلى ان هناك نحو 50 معهداً للصمّ موزعة على المحافظات، تُسمّى جميعها "معهد الأمل"، مبينا أن هذه المعاهد مجتمعة تعاني نقص الكوادر المتخصصة والسبب هو ان "التعيينات لا تراعي التخصّص، لأننا لا نملك جامعات أو معاهد تُخرِّج مدرسين متخصصين في لغة الإشارة. لذلك ان التعيين في هذه المعاهد يكون لسد الحاجة فقط".
ويضيف قوله: "لكم أن تتخيلوا ان المدرس لا يعرف لغة الإشارة، فماذا يتعلم التلاميذ هناك؟ وكيف يتواصلون معه ومع الآخرين؟!"، مبينا أن لغة الإشارة تطورت على النطاق العربي، بعد أن أطلقت دولة قطر "قاموس الإشارة العربي"، وان جميع الدول العربية أوفدت لجانا إلى قطر للاستفادة من القاموس.
ويستدرك: "على الرغم من مشاركة لجنة من العراق، إلا أنها لم تحقّق أي فائدة للصمّ في البلاد، لأن أفرادها كانوا غير متخصّصين، وذهبوا إلى قطر لغرض السياحة والاستجمام، والدليل أن أغلب اللجان العربية الأخرى التي عادت إلى بلدانها، عملت تسويقاً إعلامياً للقاموس. أما العراق، فلم يستورده لتوزيعه على الصمّ أو على الأقل تدريسه في معاهدهم"!
ويدعو الموسوي الحكومة إلى إنشاء معاهد إضافية للصمّ في بعض المحافظات، كصلاح الدين والأنبار. حيث لا يوجد هناك سوى معهد واحد لكل منهما. كما يدعو إلى توفير وسائل نقل للصم من مساكنهم إلى المعاهد، وإلى تعليم بعض الموظفين في الوزارات لغة الإشارة، فضلا عن توفير مترجمين متخصصين في هذه اللغة، يُغطون الأحداث التي تنقلها وسائل الإعلام.
فيما يلفت إلى ان غالبية الدول العربية تحتفل باليوم الدولي للغات الإشارة 23 أيلول، عدا العراق "إذ لا يعيره أهمية ولا يذكرى حتى في وسائل الإعلام"!
فاقدون للأهلية بحكم القانون
لا يعاني فاقد السمع وغيره من ذوي الإعاقة الإهمال الحكومي فحسب، بل حتى "عدم إنصاف التشريعات القانونية" – حسب الباحث القانوني المهتم بقضايا ذوي الإعاقة هاشم العزاوي.
إذ يقول في حديث صحفي، أن "إحدى مواد القانون المدني تشير إلى أن الصم والبكم والعميان لا يستطيعون التعبير عن إرادتهم، ويجوز للمحكمة أن تضع لهم أوصياء"، مشيرا إلى ان "هذا الأمر يُنافي الاتفاقيات التي وقّع عليها العراق، والمتعلقة بذوي الإعاقة، كالرعاية الصحية والتعليم والوظائف وعدم التمييز وغيرها".
ويدعو العزاوي إلى "ضرورة تعديل بعض مواد القانون المدني المقر عام 1959، لكي تتلاءم وتطور العصر الحالي، وهذا يتطلب تدخّلاً برلمانياً".