ذكّرني زميلٌ قديم، هاتفني في الأسبوع الماضي، بحادثةٍ وقعت لنا قبل ثلاثين عامًا، حين اشتركنا معًا في مؤتمر علمي بجامعة مقاطعة "شانشيانغي" الصينية. يومها، لم يقتصر كرم أحفاد العم ماو على جلسات المؤتمر، بل امتد لتنظيم زيارة لأحد معاقل حرب التحرير، ما أذهل الغربيين، ودفع بعضهم إلى التفكير في صحة ما يُضخّ لهم على مدار الساعة من ترّهات حول الصين، لا سيما غداة انهيار التجربة في الاتحاد السوفيتي.
في المساء، دُعيتُ وزملاء أوروبيون إلى جلسة مع مناضلٍ عجوز يُدعى "العم تيلين"، فاستمتعتُ بحديثٍ حزين ومشبَع بالفخر، عن عشرات المآثر التي اجترحها الثوار، الشهداء منهم والأحياء. زميلٌ أشقر حاول مناكفة المتحدث، منكِرًا عليه ذلك التفاخر، ومعتبِرًا الأمر مبالغةً لا جدوى منها. ابتسم العجوز وقال:
"لعلكم، أيها المُترَفون، لا تستطيعون فهمنا. نحن تلامذةُ حركةٍ علّمتنا أن نكون شخوصَ عدالة وصدق. كانت الطوعية في الانتماء أساسَ قدرتنا على مواجهة القسوة. وكان النضال بالنسبة إلينا قضيةَ وجودٍ ومعنى، والسياسة أداةً لإقرار الحق، وفعلاً آدميًّا لا يُصان إلا حين يُمارَس بشرف وضمير، بغضّ النظر عن أساليب العدو والمنافسين. لم تكن قناعتُنا بالأممية ترنيماتٍ نُردّدها، بل إدراكًا لحقيقةِ الصراع بين الوحش الإمبريالي وبين الإنسان في كل مكان. كنا فلاحين غيرَ متعلمين، فقراءَ وعُراة، لكننا سرعان ما اكتسبنا القدرة على تشخيص وفهم الصراعات، ونقل النظرية إلى الواقع، بلغةٍ بسيطة، مستلّةٍ من حياة الناس، ونغماتٍ جميلة، عميقةٍ في مضامينها. لغةٌ لم تُطوّر القدراتِ النظريةَ لمناضلينا فحسب، بل حسّنت من ذائقتهم الجمالية، وخلّصتهم من الأمية، أبجديةً وثقافية.
كنا حازمين في موقفنا، دون أن تتسرّب القسوة إلى نفوسنا؛ لأننا أيقنّا أن الثوريَّ الصادق هو من يمارس الحزم بمرونةٍ وشغف. لم نفقد الأمل حين كانت تتأخر ردودُ أفعال الناس على الظلم، بل كنا نتقدّم المظلومين بخطوة، كي نُبقي صلتَنا بهم فاعلة. نتواضع لهم ونتعلّم منهم، نتفحّص قدراتهم النضاليةَ الكامنة، ونحدّد أسبابَ خمودها وسبلَ تنشيطها، ومتى يمكن أن تثور. ومبكرًا أدركنا أن الأخلاق الثورية سبيلُنا الوحيد للهيبة والنفوذ بين الناس. فالمتعلّم من الحياة، ياولدي، لا يتظاهر بالمعرفة، ولا يدّعي العصمة من الأخطاء".
حين صمت العم تيلين قليلًا، وأخرج غليونه ليأخذ منه نفسًا عميقًا، وجدتُ الفرصة سانحةً لأطلب من المترجم أن يُخبره بأني، كعراقي وابنٍ لثقافة هذا الشرق الجميل، لم أدرك عمقَ ما قاله فحسب، بل أحسستُ بكلماته شرارةً تُوقد في الروح. ولهذا، سأكون سعيدًا أن أعرف منه سرَّ عماده الذي أبقى قناعاته مشرقةً بكل هذا الصدق والثقة والحماس. ولماذا لم تفتّ عضده عذاباتُ السنين؟
نظر العم تيلين من تحت زجاج نظّارتيه، وقال مبتسمًا:
"لا ياصديقي، لم تهزمْنا الصعاب. لم نولد شيوعيين جاهزين، فتعمّدنا بالفقر المدقع، وبه وجدنا طريقَنا إلى الحزب. صُقِلنا بأتونِ الصراع والممارسة. وتعلّمنا كيف نحترم قيمَ شعبنا، ونصحّح ما تقادم منها بصبرٍ ورويّة. السيرةُ الحميدة والفقرُ لا يُعمّدانك فورًا، لكنهما يغرسان الثقةَ التي تنمو، لتزهر وتثمر قائدًا شعبيًا عندما يحين الأوان. فالقيادة، يا صديقي، فعلٌ أخلاقيٌّ في لحظةٍ حرجة".
عبثًا حاولتُ أن أحبس دموعي وأنا أودّع العم تيلين. مشاعرُ ملتبسة راحت تتجاذبني: حزنٌ على فراق العشرات، ممن تعمّدوا كعماد العم تيلين، وانتقلوا للإقامة في ضمير الوطن والناس، ويقينٌ بقدرة هذا الحزب على تعميد المزيد، وفرحٌ بأجيالٍ ثوريةٍ تحمي الراية وتواصل المسار بثبات، حتى تنجلي العتمة وتشرق على العراق الجميل، شمسُ الخلاص.