كان للتطورات التي حصلت على الصعيدين العالمي والشرق اوسطي تداعيات وارتدادات على الواقع العراقي، زادت من التحديات ومن احتمالات ومخاطر التدخلات الخارجية، التي تواجه شعبنا وبلدنا.
واذا كان الحذر إزاء التهديدات الخارجية والتصدي لها ضرورة وطنية، فان الالتفات الى الجوانب الهشة في الأوضاع الداخلية ومراجعتها بجدية، والإسراع في معالجتها جذريا، يمثلان حاجة ملحة لا تحتمل التاجيل والمماطلة.
فما هي تلك الجوانب الهشة في الوضع الداخلي العراقي؟
تقول تجربة سنوات ما بعد التغيير في ٢٠٠٣ بوضوح كاف، إن العملية السياسية القائمة على المحاصصة الطائفية والأثنية انما أفضت إلى طريق مسدود، وان منظومة الحكم المنبثقة عنها منتجة للأزمات، وقد فشلت في بناء دولة متماسكة، وفاعلة في حماية الأموال العامة من الفاسدين والمفسدين، وفي تحقيق تنمية اجتماعية واقتصادية. إذ استشرى الفساد ليصبح جزءا من بنية الدولة، وتعمق الطابع الريعي للاقتصاد العراقي باعتماده على النفط، المحكوم بتقلبات الأسواق العالمية، وارتفعت معدلات الفقر والبطالة والأمية، فيما تراكمت ثروات فلكية لدى فئة قليلة، وتحولت خدمات التعليم والصحة على يد القطاع الخاص وبصورة متزايدة، إلى سلع ترهق موازنة الاسرة، ولا يحصل عليها إلاّ المقتدرون ماليا، في وقت تردّت فيه الخدمات العامة الأساسية، كخدمات الكهرباء والماء والتعليم والصحة والبلدية.
وقد غدا الامر واضحا جدا ويعكس عجز الحكومات المبنية على أسس الطائفية ومنهج التخادم المكوناتي المحاصصاتي، عن السير بخطوات جادة في طريق الإصلاح الحقيقي، وليس الشكلي والترقيعي، فضلا عن ولوج طريق التغيير الذي غدا في عراقنا مطلبا وطنيا ملحا.
فالمنظومة السياسية الحاكمة بمكوناتها المختلفة، والتي تحاصصت مؤسسات الدولة وتقاسمت النفوذ والمغانم فيها، وزرعت في مفاصلها عناصر الدولة العميقة أو الموازية، غير الخاضعة للرقابة والمساءلة، الى جانب شبكات الفساد، قد تمادت من دون رادع في الاستحواذ على المال العام واملاك الدولة وعقاراتها واراضيها، وفي تبديد موارد البلاد وثرواتها، وفي إفساد مؤسسات الدولة وتضخيم أعداد منتسبيها وفق معايير الولاء السياسي والزبائني والانتماء الهوياتي، بعيدا عن معايير المواطنة والعدالة والنزاهة والكفاءة. وهذا ما أدى الى تعمق الفرز الطبقي والاجتماعي وعناصر الاستقطاب في المجتمع، لصالح أقلية تحتكر السلطة والمال والاعلام والسلاح، وتتناقض مصالحها مع مصالح غالبية فئات وشرائح المجتمع، التي تشتد معاناتها، لا سيما منها الأقسام الواسعة من الشباب التي تفتقد ابسط مقومات العيش الكريم.
واضعفت المنظومة الحاكمة بنهجها وسياساتها، قدرات البلاد على حفظ السيادة والاستقلال الكاملين، وفرّطت بهيبة الدولة وبإمكانية انفاذ القانون على الجميع، فيما تفاقم انتشار السلاح المنفلت خارج اطار الدولة، وتشكلت فصائل ومليشيات وجماعات مسلحة، مرتبطة بقوى داخلية او كامتداد لاجندات خارجية، الامر الذي لعب دورا معرقلا لاعادة بناء الدولة على أسس سليمة.
ما التغيير المطلوب؟
لهذا كله وغيره، ولعدم قدرة المنظومة الحاكمة على اصلاح ذاتها، غدا التغيير الشامل مطلبا جماهيريا واسعا، وضرورة يفرضها تطور الأوضاع في المنطقة والعالم وفي بلدنا، وتفرضها الحاجة إلى ضمان تطوره اللاحق، والحفاظ عليه ككيان وطني موحد. فهو تغييرفي المنهج والأداء والسلوك ونمط التفكير وفي الشخوص وبارادة وطنية عراقية، وهو يقوم على مشروع يمثل قطيعة تامة مع النهج السائد في إدارة نظام الحكم، و يهدف إلى بناء دولة المواطنة، دولة القانون والمؤسسات الضامنة للحريات والحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية. مشروع يستهدف كذلك إعادة هيكلة الاقتصاد العراقي، والسير به على طريق التنمية المستدامة والتوظيف السليم لموارد البلاد وتنميتها، وبناء اقتصاد متنوع ومتعدد ويتسم بالديناميكية. كما انه مشروع مدني وطني ديمقراطي يصون الحريات وحقوق الانسان وينصف المراة ويمكنها، ويستجيب لحاجات الوطن والمواطن، ولعملية تعزيز البناء الاتحادي وتوزيع الصلاحيات بين الحكومة الاتحادية والاقليم والحكومات المحلية، ويتصدى للتحديات التي تواجه البلد والمنطقة، ويفتح الآفاق نحو بناء وحدة وطنية حقيقية، ويحفظ سيادة البلد وقراره الوطني المستقل ويجنبه التدخلات الخارجية وانهاء كافة اشكال التواجد العسكري الأجنبي على أراضينا.
وان أي قول بعدم الحاجة الى التغيير ماهو إلا هروب من استحقاقات راهنة وتنصل عن المسؤولية، واصرار على الاستمرار في ذات النهج المدمر والمجرب.
ولا شك أن هذا التغيير المطلوب والذي نريده سلميا وديمقراطيا لن يتحقق إلا بتغيير موازين القوى السياسية لصالح أصحاب المشروع ومناصريه وداعميه، وكسر احتكار السلطة. وأن الوصول إليه يحتاج إلى حشد طيف واسع من القوى الداعمة، السياسية والمجتمعية، كما يحتاج الى خطوات جريئة وارادة كافية لوضع العراق على سكة التغيير الشامل.
وقد باتت الأوضاع الراهنة تطرح بإلحاح مهمة ترصين الجبهة الداخلية، وبناء فضاء وطني تلتقي فيه قوى شعبنا السياسية والاجتماعية، لتشكل مصداً امام مختلف المخاطر المحدقة ببلادنا. ولكن ينبغي ان يعي الجميع ان أي لقاء او اصطفاف وطني لابد ان يقوم على أساس مشروع سياسي تلتزم فيه اطرافه باحداث تغيير في نهج الحكم وإدارة الدولة، على وفق مباديء المواطنة والديمقراطية الحقة والعدالة الاجتماعية، واتخاذ إجراءات سريعة وحازمة لحصر السلاح بيد الدولة ومحاربة الفساد ونبذ التشظي والتقسيم المكوناتي والطائفي لبنية الدولة ومؤسساتها.