لم يكن للتناغم الجميل بين قيمنا، نحن العراقيين ورثة الحضارات العريقة، وبين أفكار الحرية والعدالة التي راحت تبدّد ظلمة العالم في بدايات القرن الماضي، إلا أن يُثمر عن ولادة أولى الخلايا الشيوعية في بغداد والبصرة والناصرية، وعن تصدّي شبيبة ثورية لمهمة تحطيم أسوار التخلف ونشر الفكر الماركسي، في مناشير سرية أو خطابٍ مستتر زيّنوا به بعض الصحف العلنية.
وحين جاء اليوم الذي أشرقت فيه شمس الحزب، صار لزامًا أن تكون له أدواته المستقلة، التي تُعبّر عن سياسته ومواقفه وتخلق جسور التواصل بينه وبين شغيلة العراق وكادحيه، فصدرت في 31 تموز من عام 1935 "كفاح الشعب"، أول صحيفة مركزية للحزب الشيوعي العراقي، تلتها صحيفة "الشرارة" عام 1940، ثم "القاعدة" في 1943، وبعدها "اتحاد الشعب" في 1956، وأخيرًا "طريق الشعب" في 1961.
واليوم، ونحن نحتفل بالعيد التسعين للصحافة الشيوعية العراقية، نستذكر بفخر واعتزاز الموقع الفريد الذي احتلّته في التاريخ السياسي والثقافي لبلادنا، بوصفها لسان حال شعبنا، ومرآةً تعكس نضالات الشغيلة والكادحين وتطلّعاتهم نحو الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والخلاص من الاستغلال والجور، وكلمةً ثورية صادقة وصلبة لا تلين في الكفاح ضد الاستعمار والاستبداد والتمييز، وسلاحًا فكريًا وميدانيًا بيد الجماهير في معاركها الوطنية والطبقية.
لم تكن هذه الصحافة الشيوعية الباسلة، والتي غالبًا ما طُبعت في غرفٍ سرية ووزِّعت بأيدي صبايا وفتية لا يهابون الموت، مجرد صفحاتٍ مطبوعة، بل كانت امتدادًا لموقفٍ سياسي منحاز للفقراء، مقاومٍ للهيمنة ولمآسي الجوع والبطالة والتمييز، ملتزم بقضية التحرر الوطني والاجتماعي، ومَعلَمًا فريدًا للصمود في ظروفٍ شديدة القسوة، من قمع واضطهاد واغتيال ورقابة أمنية وتضييق، ورافعةَ وعيٍ استنهضت المضطهدين في الأزقة والمصانع والأرياف والمعاهد، ونظّمتهم وعبّأتهم في مقاومة مستعبديهم، وذاكرةَ نضالٍ وثّقت مآثر الكفاح الوطني والطبقي لشعبنا على مدار ما يقارب القرن من الزمان، وفضاءً حرًا وخلاقًا حمى ثقافتنا الوطنية، وحفّز منتجيها على الإبداع.
لقد تميّزت الصحافة الشيوعية العراقية بانحيازها الكامل لقضايا الوطن، والدفاع عن طهارة أرضه من أي احتلال أو نفوذ أجنبي، وعن حرية الشعب وحقّه في التمتّع بثروات بلاده، وبالخدمات الأساسية وكل مستلزمات العيش الكريم. كما تبنّت المشروع الوطني الديمقراطي الذي يُنقذ بلادنا من التمزّق والاستقطابات الطائفية والإثنية، ومن الإرهاب وطغيان الفاسدين، ومن التخلف وأفكار التطرف والكراهية والشوفينية والعنصرية والتعصب.
كما حرصت هذه الصحافة الباسلة على المصداقية والمهنية والجرأة، وتقصّي الحقيقة وإيصالها إلى الرأي العام، بلغةٍ وخطابٍ وآلياتٍ بسيطة وواضحة ومفهومة ومتاحة للجميع. ولم تتوانَ اليوم عن فضح المآسي التي جلبها نهج المحاصصة للبلاد، والنضال لدحر منظومته، وإحلال دولةٍ مدنية ديمقراطية محلها؛ دولة تحترم الحريات، وتُطلق تنمية مستدامة، وتتّبع سياساتٍ اقتصادية واجتماعية سليمة، يُعاد بها توزيع الثروة بعدالة، وتُؤمَّن فيها حقوق الإنسان، ومساواة المرأة بالرجل في الحقوق والواجبات، وتقضي على الأمية، وتضمن التعليم المجاني، والرعاية الصحية، والسكن اللائق للناس.
وكان بديهيًا تمامًا أن يُساهم خيرة أبناء الشعب من صحفيين وإعلاميين ومبدعين — شيوعيين وديمقراطيين ووطنيين — في العمل بهذه الصحافة ورفدها بنتاجاتهم المتميزة، حتى صارت بحق مدرسةً صحفية مبدعة يُشار إليها بالبَنان. وكما كان منتظرًا، دافع العشرات من أبناء هذه الصحافة عنها بأرواحهم، فاعتلوا قمة المجد، وبقيت شعلة الكلمة الشيوعية الصادقة، تقبس من دمائهم الزكية ما يُبقيها تُنير طريق الظفَر.
وإذ تواصل صحافتنا نهجها هذا بثبات وتسعى لمواكبة التطور التقني الذي يشهده الإعلام وخاصة في مجال الرقمنة، تعاهد العراقيين على أن تظل صفحاتها صوتاً لمطالبهم وهمومهم ومشغلاً للفكر والنتاج الثقافي والإبداعي، لتكون دوماً كما أراد لها الحزب، طريق الشعب نحو السعادة.
لتبقَ الصحافة الشيوعية العراقية مزهرةً ونجم هُداة في الطريق المُضني والعذب، نحو عراقٍ ديمقراطي اتحادي حرّ ومزدهر.
الخلود لشهدائها الأبرار، وكل شهداء الكلمة الحرة، وتحية اعتزاز وتقدير لكل من وضع لبنةً في صَرحها الشامخ.
وكل عام وأنتم بخير