يواجه أطباء وممرضون في العراق، اعتداءات متكررة من قبل مراجعين أو ذويهم، سواء داخل المؤسسات الحكومية أم الخاصة. ويكون بعض تلك الاعتداءات مميتا، إلا أن ما يتم رصده منها قليل جدا – حسب ما نقلته وكالات أنباء عن مصدر في نقابة الأطباء.
وبسبب أخطاء طبية غير مقصودة، أو حصول مضاعفات خارج الإرادة، لدى المرضى، تتعرض الكوادر الطبية إلى الاعتداءات. فيما تقع في كثير من الأحيان تحت ضغوط عشائرية تمنعها من تقديم شكاوى قضائية ضد المعتدين، لا سيما بعد توقف الكثيرين من ممثلي دوائرهم القانونية عن تبني أو متابعة قضاياهم لدى المحاكم. لذلك يجري السكوت عن الاعتداءات، وبالتالي يؤدي هذا الأمر إلى هجرة أطباء كثيرين من مناطق إلى أخرى داخل البلد، أو إلى الخارج أحيانا.
اقتحام مسلح
في يوم 27 حزيران 2023، أجرى الطبيب الجراح ياسر قيس، مدير مركز القلب في مدينة العمارة، عملية بسيطة لمسن مريض بالسرطان، وكانت مجرد أخذ خزعة للكشف عنها.
غير أن المريض توفي بعد ساعات قليلة. وعقب انتهاء مجلس العزاء، فوجئ الطبيب بأبناء المتوفى وأقاربه يقتحمون عيادته الخاصة مدججين بالأسلحة، متهمين إياه بقتل والدهم!
وهدد المقتحمون الطبيب بالانتقام، فما كان منه سوى الاستنجاد بالجهات الأمنية "وبدلاً من توفير الحماية له، تلقى نصيحة منها بحل الموضوع عشائرياً" – وفق ما نقلته وكالات أنباء عن زميل له يُدعى قصي.
ويوضح قصي أن ياسر متخصص في جراحة الصدر والقلب والأوعية الدموية، والعملية التي أجارها للمسن لا يمكن أن تؤدي إلى الوفاة، وأن المريض أساسا كان يعاني جملة مشكلات صحية.
ويضيّف قوله أن ذوي المتوفى أجبروا ياسر على دفع الدية، وبلغت 80 مليون دينار. وقد أجبر في آب من العام نفسه، على تسديد المبلغ. كما طلب من وزارة الصحة نقله إلى خارج المحافظة!
دعاوى قضائية
كشفت احصائية لمجلس القضاء الأعلى، نشرتها صحيفة القضاء الشهرية الصادر عنه يوم 31 آذار الماضي، عن اقامة 182 دعوى اعتداء على كوادر طبيبة خلال ثلاث سنوات فقط في بغداد.
ووفقاً لإعلام مجلس القضاء، فإن هذه النسب من الدعاوى ظهرت بعد تعيين قاض مختص للنظر في تلك الدعاوى عام 2020. وترى مصادر في وزارة الصحة أن الاعتداءات زادت ضد الأطباء خلال فترة جائحة كورونا. إذ ارتفعت معدلات الوفيات، والكثيرون من الأهالي كانوا يحملون الكوادر الطبية المسؤولية، فيهاجمون أفرادها في المستشفيات وخارجها.
في حين يرى متابعون، أن تلك الاعتداءات ترتفع معدلاتها مع تراخي سلطة الدولة وتدهور الأمن، مبينين أن الأطباء والصحافيين والمحامين، هم أكثر من يتعرض للاعتداء، كونهم يعملون بدون غطاء أمني يحميهم أو يكونون على تماس مباشر بحياة الناس.
أكبر هجرة للأطباء
يشير الكاتب والباحث غانم أحمد، إلى أن "استهداف الأطباء والاعتداء عليهم، تسبب في أكبر هجرة ونزوح للكوادر الطبية، عرفها تاريخ العراق"، مبينا أن هناك هجرة سببها الجماعات الإرهابية، وأخرى سببها ردود الأفعال العشائرية.
وتُقدر أعداد الأطباء المهاجرين إلى خارج البلاد خلال العقود الأربعة الأخيرة، بأكثر من 100 ألف طبيب، تقريبا نصفهم مقيمون في بريطانيا، وبعضهم يحصلون على أوسمة رفيعة في بلدان كبرى، لقاء إنجازاتهم الطبية.
وكان عضو مجلس محافظة بغداد علي المشهداني، قد ذكر في تصريح صحفي، أن "السلاح المنفلت" هو السبب الرئيس لظاهرة الاعتداء على الأطباء.
هل القانون رادع؟
دعت الاعتداءات المتكررة على الكوادر الطبية، إلى إقرار قانون حماية الأطباء رقم 26 لسنة 2013. ويرى الاختصاصي في الشأن القانوني طلال غازي سمير، أن هذا القانون يوفر الحماية للأطباء من الاعتداءات والممارسات العشائرية، ويمنحهم ضمانات إجرائية لممارسة مهنتهم.
ويوضح في حديث صحفي أنه "من حيث الحماية من الاعتداءات، تقر المادة 5 من القانون بإيقاع عقوبة على من يهدد الطبيب بمطالبات عشائرية أو غير قانونية بسبب نتائج عمله، بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثِ سنوات وبغرامة لا تقل عن عشرة ملايين دينار. في حين تعاقب المادة 6 من القانون كل من يعتدي على طبيب أثناء ممارسته مهنته، بالعقوبة المقررة لمن يعتدي على موظف أثناء تأديته وظيفته أو بسببها".
وتنص المادة 229 من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 على: "يُعاقب بالحسب كل من أهان أو هدد موظفا أو أي شخص مكلف بخدمة عامة أو مجلساً أو هيئة رسمية أو محكمة قضائية أو ادارية أثناء تأدية واجباتهم أو بسبب ذلك".
ويلفت طلال إلى ان قانون حماية الأطباء، يوفر الحماية لهم من اتخاذ الإجراءات الجنائية ضدهم كذلك. إذ تنص المادة الثالثة على: "لا يجوز إلقاء القبض أو توقيف الطبيب المقدمة ضده شكوى لأسباب مهنية طبية، الا بعد إجراء تحقيق مهني من قبل لجنة وزارية مختصة".
ويمنح القانون الطبيب حق حمل السلاح الشخصي (مسدس). وتقوم وزارة الداخلية بالتنسيق مع ووزارة الصحة، بفتح مراكز للشرطة مخصصة لحماية العاملين في المؤسسات الصحية.
كما يلزم القانون وزارة الصحة ونقابة الأطباء بمتابعة الشكوى القضائية ضد المعتدي على الطبيب.
ورغم القانون، يرى المحامي محمد حامد في حديث صحفي أن "ضعف الدولة وأجهزتها مقابل سطوة العشيرة، والسلاح المنفلت في الشارع، كل ذلك يبقي الطبيب وغيره من المكلفين بتقديم خدمات عامة أو خاصة عرضة للاعتداءات والتجاوزات، وحتى اللجوء الى القضاء لا يمنع ذلك عنهم، بل قد يكون سبباً إضافياً للانتقام منهم".
ويطالب المحامي نقابة الأطباء بالتواصل مع مجلس النواب العراقي، من أجل تشديد العقوبات التي يفرضها قانونا العقوبات وحماية الأطباء على المعتدين "لأنها لم تعد متوافقة مع حجم الضرر الذي يخلفه الاعتداء على الطبيب، فتأثير توقفه عن العمل، لن يقتصر ضرره على دخله الشهري، بل على مراجعيه في عيادته، وكذلك المرضى في المستشفى أو المركز الصحي الذي يعمل فيه".
وبناء على ذلك، يعتقد بأن القانون العراقي غير رادع بما يكفي "وهذا ما يفسر عدم لجوء الأطباء في غالب الأحيان لتقديم شكاوى لدى مراكز الشرطة والجهات التحقيقية عند تعرضهم للاعتداء".
أطباء قلقون!
تنقل شبكة "نيرج" للتحقيقات الاستقصائية، عن طبيب من بغداد، قوله أنه يشعر بالقلق عندما ترده حالة ويعرف ان صاحبها ذو خلفية عشائرية "لأن تدهور وضعه الصحي قد يضعني هدفاً للانتقام"!
ويشير الطبيب الذي حجبت الشبكة اسمه، إلى أن هناك مراجعين يتهمون الكوادر الطبية بشتى الاتهامات، منها الإهمال وعدم صرف الادوية والأخطاء الطبية "في حين أن معظم ما نتهم به لا نتحمل مسؤوليته. فتوفير الادوية والمستلزمات الطبية وعدم وجود الكوادر كل ذلك مسؤولية إدارات المستشفيات والمراكز الصحية".
ويؤكد أن "حالات اعتداء كثيرة وقعت ضد أطباء في المؤسسات الصحية، دون أن يكون هنالك أي إجراء أمني ضد المعتدين، وبدلاً من ذلك تم اللجوء الى الفصل العشائري في قضايا كثيرة".
الجهل هو السبب
إلى ذلك، يقول قاضي محكمة تحقيق الكرخ عامر حسن، أن ظاهرة الاعتداء على الكوادر الطبية سببها "الجهل وعدم معرفة الكثير من الناس لطبيعة عمل تلك الكوادر، والذي يتمثل في بذل عناية، لا في تحقيق غاية".
ويوضح في حديث صحفي أن "الطبيب وبقية العاملين في الأوساط الطبية يقع عليهم واجب بذل العناية الطبية المعتادة، أي القيام بالكشف الطبي وإجراء الفحوصات وإعطاء العلاجات والتطبيبات اللازمة، شريطة ألا ترتكب من قبلهم أخطاء طبية جسيمة، تضعهم تحت طائلة القانون".
ويرى القاضي أن "بث الوعي في هذا الجانب، فضلا عن إنزال العقوبات الرادعة، كفيلان بحل مشكلة الاعتداء على الكوادر الطبية".