بين حين وآخر تُطلق وزارة البيئة تحذيرات لجميع المستشفيات، لا سيما مدينة الطب، من رمي المخلفات الطبية في نهر دجلة مباشرة دون معالجة، مشددة على أهمية استخدام الطرق الآمنة والمحارق في التخلص من تلك النفايات الخطيرة.
وفي المقابل، دائما ما تؤكد إدارات المستشفيات التزامها بالمعايير الصحية السليمة في معالجة نفاياتها، لكن مشهد الأنهار وهي تستقبل يوميا كميات كبيرة من النفايات، ويتحوّل لون مياهها تدريجيا إلى السواد بدماء العمليات الجراحية والمواد الطبية، منافٍ لتلك التأكيدات!
ولا يتوقف تلوث الأنهار في العراق على النفايات الطبية، فبموازاة ذلك تُطرح مياه الصرف الصحي مباشرة إلى الأنهار دون معالجة، في وقت يواصل فيه اختصاصيون في الشأنين الصحي والبيئي، التحذير من هذه الظاهرة الخطيرة.
مشرط طبي يبتر قدم عامل نفايات!
لم يكن يوماً سهلاً في حياة العامل صادق محمد (44 سنة) حين حاول إرضاء صاحب إحدى شركات تدوير النفايات، والذي خيّره بين تجميع كمية كافية من النفايات البلاستيكية أو طرده. فاقترح عليه أحد أصدقائه بالتوجه نحو حافة نهر دجلة المحاذية لمدينة الطب، المؤسسة الصحية الكبرى في بغداد والعراق بعامة، ليحصل على كميات كبيرة من تلك النفايات.
بعد رؤيته المكان، أدرك صادق أنه سيغامر مغامرة خطرة، إذ لم يكن قد اتخذ احتياطاته بصورة كافية، ولم يكن يعتقد أنه سيجد مواد طبية جارحة ومميتة عند نهر يمد البلد بأكمله بالمياه.
يقول في حديث صحفي: "شعرت بالخطر وارتبكت، حاولت بحذر رفع البلاستيك، بعضه كان ملوثاً بالدماء، فجُرحت في قدمي بعد أن اخترقها مشرط طبي، ما أصاب جسدي بالتسمم، لينتهي الأمر إلى بتر قدمي في المستشفى".
لا يريد صادق اليوم سوى أن تشعر به وزارة العمل وتمنحه راتب إعانة.
فيما يؤكد أن "صديقي يشعر بالندم منذ اقترح عليَّ النبش في مكان خطر كذاك. أعتقد أننا جميعاً نعيش الخطر نفسه منذ أعوام من دون أن ندرك ذلك، لا أعلم كيف تتعامل معنا المستشفيات المنوط بها أمر إنقاذنا وأطفالنا، حين تلقي نفاياتها في النهر؟!".
ماذا ترمي المستشفيات في النهر؟
حقن وبقايا أدوية وزجاجاتها، وقطع قماش مغطاة بالدماء، ومختلف أنواع الأنسجة البشرية، فضلا عن الدم وسوائل الجسم وناقلاتها والأدوات الحادة والأجنة الميتة.. كُل ذلك يُجمع ويُرمى مباشرة في النهر الذي كثيرا ما تغنى به الشعراء!
وبعد أن أخذ عينات من مياه دجلة بمحاذاة مدينة الطب، لغرض تحليلها، وجد الاختصاصي البيئي سالم محمد، أن عنصر الرصاص أكثر من الحد المسموح به بمعدل ضعفين. كذلك عنصر النيكل، إضافة إلى الزئبق والكادميوم، وهي من العناصر الشديدة الخطورة على الصحة العامة.
ويرى اختصاصيون ان معالجة تلك المخلفات بالحرق ليست كافية. إذ تتعدى ملوثاتها المياه، لتصل إلى الهواء أيضا.
حقن طبية في الأسماك!
قرر مازن أحمد (33 سنة) تناول السمك المسكوف مع أصدقائه في أحد المطاعم المطلة على النهر وسط بغداد. كان متحمساً للغاية وهو يرى السمكة بوزن خمسة كيلوغرامات تقدم إليه، لكن فرحته لم تكتمل حين انحشر شيء ما في حلقه!
يقول: "أخذوني إلى المستشفى، وكان ثمة تدخل جراحي فوري، وقال الأطباء إنها عظمة سمكة ستُستخرج، ثم تبين في ما بعد أنها (نيدل) لحقنة طبية كانت مغروزة في جسد السمكة"!
يضيف مازن في حديث صحفي، أنه واحد من آلاف قد يمرون بالتجربة نفسها، وقبلهم الكائنات النهرية التي هي الضحية الأولى للمخلفات الطبية، مشيرا إلى انه لن يقترب مرة أخرى من السمك لأنه لا يستطيع نسيان هذه التجربة المؤلمة.
مياه الصرف الصحي
ووفقا للأمم المتحدة فإن ما يصل إلى الشعب العراقي من المياه يأتي مباشرة من النهر، ولا تجري فلترته أو تنقيته رغم وجود إدارة لشبكة المياه من خلال 138 محطة هيدرولوجية موزعة في مواقع منتخبة على الأنهر الرئيسة في عموم البلاد.
في بغداد وحدها هناك 18 محطة للصرف الصحي تُلقي مياهها الثقيلة من دون معالجة في مجرى النهر. وتتراوح كميات ما تطرحه بين 500 ألف ومليون متر مكعب من مياه الصرف الصحي يومياً. وتتخلص محطة الكاظمية للمجاري في بغداد من مخلفاتها في النهر، بينما تقوم "محطة ماء الكرامة"، بسحب المياه مباشرة من النهر فتضخها إلى الأحياء السكنية!
أحدث تصريحات الدائرة الفنية في وزارة البيئة، تبين أن نسبة تلوث الأنهر في العراق بلغت 90 في المائة، بسبب تصريف مياه الصرف الصحي والمخلفات الطبية فيها من دون معالجة. فيما يقول الناطق باسم وزارة الموارد المائية علي راضي، أن سبب تلوث المياه هو رمي المخلفات الصناعية والطبية وحتى النفطية في الأنهر.
ويلفت الاختصاصي في البيئة سالم محمد، إلى أن "كل ما يفعله الناطقون الرسميون هو التصريحات، وما من تحرك جدي وحقيقي، فيما يموت كل شيء داخل النهر. إذ ترمي مدينة الطب التي تسع 528 سريراً وحدها يومياً مخلفات أكثر من 1000 مريض في دجلة".
وعلى الرغم من أن وزارة البيئة تعمل من خلال قانون حماية تحسين البيئة رقم 27 لعام 2009، الذي يخولها بإنذار الجهات المخالفة، والتوصية بغلق تلك الجهات إذا لم تستجب للإنذارات، فإن القانون لا يُطبق واقعا!
لا أحد يشتري أسماك النهر!
لم يعد الصيادون قادرين على الصيد بصورة جيدة، في جميع مناطق بغداد المطلة على النهر. فهم يفكرون ألف مرة قبل خوض تلك التجربة. إذ لا يريدون صيد أسماك لن يشتريها أحد!
يقول عدد ممن يعيشون قرب جسر الدورة، أن دجلة تحول إلى بقعة ملوثة بمخلفات محطات الكهرباء ومصافي النفط، مؤكدين أن الأسماك التي يجري اصطيادها، تأتي حاملة رائحة نفط!
وفي الوقت الحالي، لم تُحدد أية آلية لمعالجة النفايات الطبية السائلة كي تُتبع من قبل المستشفيات.
وعن ذلك يقول الاختصاصي في البيئة والمناخ عباس المرياني، أن "هذا الأمر يجعل المشافي تستخدم شبكات المجاري العامة أو الأنهار للتخلص من مخلفاتها، أو إيداعها في المخازن الحوضية (السبتتنك) ومن ثم سحبها بواسطة العربات الحوضية التي تصرفها في الأراضي الفارغة أو في المجاري المائية أو تبقيها مكشوفة في الساحات القريبة من المرافق الطبية".