اخر الاخبار

أجبر عمار محسن (25 عاما)، من مدينة السماوة، على ترك مقاعد الدراسة والعمل في ورشة نجارة يمتلكها والده، بعد التحاق الأخير بالحشد الشعبي للمشاركة في الحرب ضد إرهاب داعش عام 2014.

يقول عمار في حديث صحفي: "كنت قد اجتزت للتو مرحلة الرابع الاعدادي، وكان علي أن أحل محل والدي في الورشة التي سبق ان عملت فيها فترات العطلة الصيفية، لذلك انقطعت عن المدرسة".

ويضيف قائلا أنه بعد التحرير لم يجد فرصة للعودة إلى المدرسة. إذ صار لزاما عليه مواصلة العمل في الورشة، إثر إصابة والده برصاصة في أحدى ذراعيه، منعت حركتها.

وأصبح هذا الشاب اليوم مسؤولا عن أشقائه الثلاثة الأصغر، الذين يريد منهم نيل شهادات جامعية، بعد أن منعته الظروف من تحقيق هذا الحلم.

عمار واحدٌ من بين عشرات آلاف المتسربين من المدارس في المثنى (المحافظة الأكثر فقرا على مستوى العراق) أجبرتهم الظروف الاقتصادية الصعبة وطبيعة المحافظة الاجتماعية القبلية، وضعف البنية التحتية التعليمية وأسباب أخرى، على التخلي عن التعليم أو عدم الالتحاق به أصلاً في ظل إجراءات وحلول حكومية يصفها اختصاصيون بـ"الخجولة"، مطالبين باتخاذ جملة إصلاحات، بعضها قانوني لضمان تلقي الأطفال التعليم الأساسي.

إحصاءات رسمية

وفقاً لإحصاءات صادرة عن وزارة التخطيط للموسم الدراسي 2015 – 2016، كانت في المثنى 520 مدرسة ابتدائية، يدرس فيها 154.660 تلميذا وتلميذة، ويقوم على تعليمهم كادر قوامه 7.862 معلماً ومعلمة. أما في العام الدراسي 2023-2024 فقد بلغت أعداد التلاميذ في المدارس الابتدائية 123.865، موزعين على 572 مدرسة، يُدرّس فيها 10.306 معلمين ومعلمات.

وهذا يظهر ان أعداد التلاميذ المتواجدين على مقاعد الدراسة الابتدائية تراجعت بأكثر من 30 الف طالب، رغم زيادة عدد المدارس والكوادر التعليمية هناك وعدد السكان، في مؤشر غريب وصادم!

وبموجب الإحصائيات، فإن أعداد التلاميذ المقبولين في الصف الأول الابتدائي للعام الدراسي 2015-2016، كانت تبلغ 30.011 تلميذاً وتلميذة. أما في العام الدراسي 2023-2024 فبلغ العدد  31.918،  بزيادة لم تتجاوز ألفي تلميذ، في حين ازداد عدد السكان ممن هم في سن السادسة بما يقرب من 4 آلاف طفل، وهذا يعني وجود حالات عدم التحاق بالمدارس تعادل نصف الزيادة السكانية تقريباً!

عجز البنى التحتية

خلال الآونة الأخيرة، حصلت زيادة في أعداد الأبنية المدرسية في المثنى، بعد تنفيذ مشاريع حكومية كانت معطلة لسنوات، ومنها ما ارتبط بالعقد الصيني المتمثل في إنشاء مئات المدارس الجديدة في عموم البلاد.

ورغم ارتفاع أعداد المدارس، يؤكد مشرف تربوي في حديث صحفي، ان البنية التحتية المدرسية في المثنى ما زالت تعاني العجز، كون المحافظة مترامية الأطراف والغالبية الساحقة من سكانها يعيشون خارج مدينة السماوة، في بلدات وقرى متناثرة، ما يعني ان هناك حاجة الى مدرسة في كل قرية.

ويشير المشرف إلى ان المثنى ذات طابع قبلي، وفي الغالب تُمنع الفتيات من التعليم في المراحل المتقدمة.

المحافظة الأفقر

تؤكد إحصاءات وزارة التخطيط، وتصريحات مسؤولين حكوميين، أن المثنى تعد الأفقر على مستوى العراق. إذ يعيش نحو 50 في المائة من سكانها تحت مستوى خط الفقر، في ظل غياب الأنشطة الاقتصادية والمشاريع التنموية، وهو ما ينعكس سلباً على الواقع التعليمي.

حسين علي (36 سنة)، عامل نظافة بأجر يومي في بلدية السماوة، ووالدٌ لأربعة أطفال، ثلاثُة منهم بعمر المدرسة (ولدان وبنت).

اضطر حسين، بسبب ضعف حالته المعيشية، إلى تشغيل ولديه (9 و 10 سنوات) في بيع المناديل الورقية وعبوات المياه واكياس النايلون، وذلك منذ إتمامهما العام الدراسي الأول.

يقول في حديث صحفي: "بعملي هذا لن أجلب أكثر من 10 آلاف دينار يومياً الى عائلتي، أمي تسكن معي وهي مسنة ومريضة وتحتاج إلى مراجعة الأطباء، ونحن نسكن في منزل مستأجر. فكيف يمكن لـ 300 ألف دينار أن تغطي كل ذلك!"، مستدركا "هذا إذا واصلت العمل 30 يوما في الشهر"!

ويتابع حسين قوله: "لم اقدر على توفير مستلزمات ولديّ المدرسية، لذا ارسلتهما الى العمل، وهما بذلك يوفران بعض المال الذي يعيننا في تكاليف المعيشة. أما البنت فلم أرسلها الى المدرسة بالأساس واعتقد أن هذا سيكون مصير الولد الصغير أيضاً"!

أعقد المشكلات

من جانبه، يرى الباحث الاقتصادي جليل اللامي، أن التسرب المدرسي من أعقد المشكلات التي تعانيها محافظات العراق بعامة، والمثنى بنحو خاص، بسبب الأوضاع الاقتصادية المتردية.

ويضيف في حديث صحفي قائلا أن "هناك علاقة جدلية تبادلية بين التعليم والتنمية الاقتصادية. إذ تتطلب التنمية توفير العمالة الماهرة، وهذا لا يتحقق إلا من خلال التعليم. وفي المقابل، فإن التعليم يحتاج الى رأس المال اللازم للإنفاق عليه، والذي توفره التنمية الاقتصادية".

ويربط اللامي بين الواقع الاقتصادي في المثنى ومستويات الأمية والتسرب من المدارس، مبينا أن "أحد أهم مؤشرات مستوى المعيشة والحالة الاجتماعية والثقافية عند الافراد، هو التعليم، وما نسب الأمية والتسرب المدرسي في المثنى الا انعكاسٌ لتردي الواقع الاقتصادي فيها".

الزواج بدلا من الدراسة!

لم تستطع منى ذات الـ17 ربيعاً، العبور إلى المرحلة المتوسطة. فقد اكتفى والدها بدراستها المرحلة الابتدائية فقط.

تقول في حديث صحفي، أن عائلتها والكثير من العائلات في المثنى، لا تُدخل الفتيات إلى المدارس، موضحة أن "هذا الأمر حدث مع أخواتي اللاتي يكبرنني، لكنني كنت الصغرى الأكثر دلالاً ومن المتميزات في الصف، والمدرسة كانت داخل قريتنا، لذا لم تكن هنالك حجة لإخراجي منها، حتى بلغتُ الثانية عشرة، ودق ناقوس الزواج"!

زوّجها والدها بقريب له سنة 2019، ولم تكن قد أكملت الثانية عشرة من العمر، متجاهلاً رغبتها في إكمال الدراسة: "ما عدنا بنات يدرسن" – تقول منى: "هكذا أجابني والدي حين توسلت إليه بالتخلي عن فكرة تزويجي، وها أنا اليوم أم لطفلين بدل أن أكون طالبة تتهيأ لدخول الجامعة"!

منى مثل كثيرات غيرها يعشن في بيئة ريفية يغلب عليها الطابع العشائري المحافظ، وهي السمة الغالبة على المثنى. إذ ان التقاليد تقضي بتزويج الفتيات وهن بأعمار صغيرة ونادراً ما يُسمح للفتاة بمواصلة دراستها.

وعن ذلك، تقول الباحثة الاجتماعية أماني الحسن، أن "الطابع العشائري، إلى جانب عدم توفر نوعية التعليم الملائم، فضلاً عن الفقر المتفشي في المحافظة، أسباب تجعل من المثنى تعاني بشدة في قطاع التعليم".

وتعتقد أن "ضعف الخدمات التعليمية في المثنى، لا سيما في أقضيتها ونواحيها وأريافها، عامل يساهم في تسرب الأطفال من المدارس"، مشيرة في حديث صحفي إلى ان "هنالك قلة في الكوادر التعليمية، ولا تزال هناك مدارس طينية وكرفانية، وهو ما يعكس اهمالاً واضحاً لقطاع التعليم في المحافظة. كما أن الفقر المتفشي يُجبر الأهالي على دفع أطفالهم للعمل بدلا من الدراسة".

كوادر غير كفوءة

إلى ذلك، يُلقي المرشد التربوي في تربية السماوة، أحمد الياسمين، باللائمة على الفساد، ويعده مساهما في تردي الواقع التعليمي، مشيراً بذلك وبنحو ضمني إلى "اسناد المهام الإدارية التربوية إلى كوادر غير كفوءة لإدارة الملف التعليمي".

ويقارن الياسمين في حديث صحفي، بين الوقت الراهن وعقدي السبعينيات والثمانينيات "كان التعليم إلزاميا، وكان مديرو المدارس يبلغون الشرطة عن حالات التسرب، ويجبرون الأهالي على إرجاع ابنائهم الى مقاعد الدراسة، لكن التعليم الآن بلا قانون يُلزمه".

بينما يرى الناشط في مجال التعليم علي حاكم، أن "الخلل يكمن في تحول مفهوم المدرسة من حاضنة تستقطب الأطفال بهدف تنميتهم وتطوير قدراتهم، الى مكان ينفرهم ويدفعهم للهروب الى سوق العمل".

ويشدد على أهمية تطوير النظام التعليمي، ويرى أن ذلك غير مرتبط فقط بالإمكانات المالية "فهناك نظم تعليمية في دول مواردها أقل من موارد العراق، نراها أكثر تطوراً من نظامنا".

وينص قانون التعليم الإلزامي رقم 118 لسنة 1976، على إلزامية التعليم في المرحلة الابتدائية، ويعاقب بالحبس أو الغرامة المالية من يتخلف عن تسجيل أبنائه ممن هم في السادسة من العمر.