يعاني القطاع الصناعي العراقي أزمة مستمرة أدت إلى توقف عشرات الآلاف من المصانع، ما شكّل عبئًا على الاقتصاد الوطني وأثر بشكل مباشر على فرص العمل ونمو القطاعات الإنتاجية المحلية.
ويرجع هذا التوقف بشكل رئيس إلى غياب الدعم الحكومي للقطاع الصناعي، سواء في مجالات الوقود أم الطاقة الكهربائية ومختلف مستلزمات الإنتاج. يضاف إلى ذلك فتح باب الاستيراد على مصراعيه أمام السلع الأجنبية التي تتلقى دعمًا حكوميًا في دولها الأصلية، ما يجعلها منافسًا قويًا للمنتجات المحلية.
ويشير خبراء اقتصاد إلى أن هذه الأزمة تتطلب تدخلاً حكوميًا عاجلًا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من المصانع المتوقفة، والتي تُعدُّ ركيزة مهمة لتحقيق الاكتفاء الذاتي في منتجات عديدة، وتوفير فرص عمل للعاطلين عنه في ظل البطالة المتصاعدة.
ويرى الخبراء أن عدم توفير الوقود والطاقة الكهربائية بأسعار معقولة للقطاع الصناعي، إضافة إلى السماح للسلع المستوردة المدعومة من دولها بدخول الأسواق دون قيود، كل ذلك يُضعف من قدرة المنتجات المحلية على المنافسة، ويؤدي إلى إغراق السوق بسلع أجنبية أرخص.
35 ألف مصنع متوقفة
بحسب الخبير الاقتصادي نبيل المرسومي، فإن عدد المصانع المتوقفة في العراق بلغ 35 ألف مصنع من أصل 67 ألف مصنع مسجلة لدى اتحاد الصناعات العراقي، مضيفاً في تعليق عبر منصة “اكس”، أن “هذه المصانع توقفت بسبب قلة الدعم المقدم لها، سواء في ما يتعلق بتوفير الوقود أو الطاقة الكهربائية، بالإضافة إلى فتح باب الاستيراد للسلع الأجنبية المدعومة من بلدانها، ما جعل المنافسة شبه مستحيلة بالنسبة للمنتجات المحلية”.
وتعاني الصناعات العراقية ارتفاع تكاليف الإنتاج بشكل حاد. إذ ترتفع أسعار الوقود والكهرباء بما يفوق قدرة العديد من المصانع على تحمله، وهو ما يجعلها تواجه صعوبة في الإنتاج بتكلفة منخفضة وبجودة تنافسية.
كما تعد أزمة الكهرباء من أبرز التحديات التي تواجه الصناعة، حيث تعتمد المصانع بشكل كبير على الطاقة الكهربائية في عملياتها اليومية، الأمر الذي يضطرها إلى الاعتماد على المولدات الكهربائية، وبالتالي يزيد من نفقات الإنتاج بشكل كبير.
طوفان السلع المستوردة
في السياق، يقول عضو غرفة تجارة بغداد المهندس سلام الفرطوسي، ان “التحديات التي تواجه القطاع الصناعي في العراق تتطلب دعمًا حقيقيًا من الحكومة، إضافة إلى سياسات تجارية تحمي المنتج المحلي من طوفان السلع المستوردة”.
ويضيف في حديث صحفي أن “غياب الرقابة التجارية وفتح الأسواق بشكل مفرط، يؤديان إلى دخول سلع رديئة الجودة في بعض الأحيان، ما يؤثر سلبا على سمعة الصناعات المحلية”، معتبرا ان “مواجهة هذه التحديات تتطلب جهدًا مشتركًا بين الجهات الحكومية والقطاع الخاص من أجل تحفيز الاستثمار الصناعي وتوفير بيئة مستقرة للصناعة”.
ضياع آلاف فرص العمل
وتتعدد العوامل التي تزيد من مشكلات المصانع في العراق، حيث تفتقر الصناعة في البلاد إلى البنى التحتية اللازمة وتحتاج إلى تحديث الآلات والمعدات. إذ ان معظم المصانع تعود إلى عقود مضت، وهو ما يقلل من كفاءة الإنتاج ويزيد من تكاليف الصيانة، وبالتالي زيادة الأعباء، وعدم القدرة على منافسة دول الجوار التي تمتلك مصانع حديثة.
وتدعو جهات صناعية وحكومية إلى ضرورة وضع سياسات دعم حقيقية للصناعات الوطنية، تشمل تخصيص جزء من ميزانية الدولة لدعم الوقود والطاقة للمصانع، فضلاً عن تقييد بعض الاستيرادات التي تؤثر سلبًا على الصناعة المحلية.
وتشير تقارير اقتصادية إلى أن إعادة تشغيل المصانع المتوقفة قد توفر آلاف فرص العمل، ما يساهم في تقليل نسبة البطالة وتحسين الأوضاع المعيشية للعديد من الأسر التي تعتمد على العمل في المصانع كمصدر دخل.
كما أن تطوير القطاع الصناعي يعزز من مكانة العراق في الأسواق الإقليمية. إذ إن توسيع قاعدة الإنتاج المحلي يساهم في تحسين التوازن التجاري للبلاد ويقلل من العجز في الميزان التجاري.
وبحسب إحصائيات تتداولها وكالات أنباء، فإن المعامل الصغيرة تشكل قرابة 90 في المائة من إجمالي المصانع والمعامل، وهي نسبة تعكس مدى ضعف الصناعة العراقية وهيمنة الصناعات التحويلية بدلا من الاستراتيجية والثقيلة.
شعار “صنع في العراق” يحتاج إلى استثمار حقيقي
الاختصاصي في الشأن الاقتصادي قصي صفوان، يؤكد أن شعار “صنع في العراق” لن يحقق تأثيرا حقيقيا ما لم يتم توفير الأدوات المالية المناسبة لتعزيز الإنتاج الصناعي المحلي.
ويقول صفوان في حديث صحفي، أن المصرف الصناعي بحاجة إلى رأس مال أكبر من المعلن، لافتًا إلى أن تحقيق هذا الهدف يمكن أن يتم من خلال استرداد قسم من الديون المستحقة على بعض القروض الصناعية ودعم المشاريع التابعة لوزارة الصناعة عبر استثمارات من القطاع الخاص. ويوضح ان “استرداد الأموال المستحقة سيساهم في توسيع نطاق تأثير المصرف الصناعي في دعم الآلة الصناعية الوطنية”، مضيفًا أن “العراق بحاجة ماسة إلى قروض تخصصية لدعم صناعات متعددة مثل السياحة والترفيه وصناعة الأسماك، لما تحققه هذه المجالات من عائدات تساهم في تعزيز رأس المال”.
ويشير صفوان إلى أن “دعم الحكومة للصناعة المحلية ليس فقرة توضع في الموازنة العامة، إنما يمكن أن يتم عبر شراء المنتجات المحلية للوزارات الاتحادية، مع تحويل مخصصات الوزارات لصالح وزارة الصناعة”، موضحًا أن “هذه الخطوة ستمكّن من توفير إيرادات غير نفطية من داخل المصانع”.
كما يلفت إلى أن “هناك فرصًا استثمارية واعدة في الصناعات التي يمتلك العراق موادها الأولية، مثل الصناعات النفطية والبتروكيميائية والفوسفات والكبريت والإسمنت”. وفيما ينوّه إلى أن “العراق نجح بالفعل في تطوير بعض الصناعات البسيطة، مثل المشروبات الغازية وبعض العدد اليدوية والمرشات الزراعية”، يصف صناعة الإسمنت بأنها “واعدة”، إلى جانب إعادة تأهيل صناعة الحديد.
ويؤكد أن “تقليل استيرادات العراق، التي تتراوح قيمتها بين 60 و70 مليار دولار سنويًا لمواد يمكن إنتاجها محليًا، سيساهم بشكل مباشر في توفير فرص عمل جديدة”، مشيرا إلى ان “وزارة الصناعة تتبنى توجهًا نحو دعم المشاريع المتلكئة، وتوفير التمويل للمشاريع الصغيرة والمتوسطة”.
ويبيّن أن “هناك أكثر من 50 ألف مصنع قابلة للتأهيل من خلال قروض مشتركة مع القطاع الخاص”، مؤكدا أن “استراتيجية وزارة الصناعة تسعى إلى تقليل الاعتماد على الاستيراد، وتعويض النقص عبر الإنتاج المحلي، وتنشيط سوق العمل في القطاع الصناعي، خاصة في الصناعات التي تتوفر لها المواد الأولية محليًا”.
ويبلغ رأس مال المصرف الصناعي العراق 525 مليار دينار وهو رقم ضئيل جدًا لتطوير قطاع حيوي ومهم مثل القطاع الصناعي.
البطالة ترتفع
في الشهر الماضي، صنفت مجلة “سي اي وورلد” الأمريكية، العراق في المرتبة 32 عالميًا والتاسعة عربيًا في معدلات البطالة، وفقًا لجدول ضم 212 دولة حول العالم، وهو ما يجعل تفعيل الصناعة خياراً ملحاً لمواجهة شبح البطالة.
وأظهر جدول نشرته المجلة، أن معدل البطالة في العراق بلغ 14.2 في المائة.
وكان اتحاد الصناعات العراقية قد قدر قبل سنوات عدد المشاريع الصناعية المتوقفة في البلاد بـ40 ألف مشروع.
ودائما ما تتحدث البرامج الحكومية المتعاقبة عن تنشيط الاقتصاد والصناعة المحلية، لكن من دون تحقيق أي شيء على أرض الواقع، بل ان أبواب الاستيراد مفتوحة على أشدها أمام سلع دول الجوار، مقابل إهمال الصناعة المحلية!