اخر الاخبار

على بعد 600 متر من حقل الغراف النفطي في قضاء الرفاعي شمالي ذي قار، يقع منزل الشاب علي حسين علوان (19سنة)، الذي اكتشف الأطباء مطلع شباط 2023 ورماً في دماغه، فخضع إثر ذلك إلى عمليتين جراحيتين لاستئصال الورم، وحصل على 6 جرعات كيمياوي.

فيما يلقي والده حسين علوان (45 سنة) باللائمة على الانبعاثات الغازية من حقل الغراف.  ويقول: “الغازات هي السبب.. علي يواجه الموت في كل لحظة، وجميع أفراد عائلتي مهددون بالإصابة بالمرض ذاته”! وضع علي الصعب، إلى جانب إصابة 36 آخرين من أهالي قريته (خضر الفشاخ) بأمراض سرطانية، ووفاة بعضهم خلال عشر سنوات.. كل ذلك دفع والده عام 2023، إلى الاستنجاد بوزيري البيئة والنفط، للوقوف على ما يجري في المنطقة.

وحينها أرسل الوزيران لجانا فنية لتقدير نسبة التلوث “لكن لم يتم اتخاذ أي إجراء بعد كتابة تلك اللجان تقاريرها. فلا تزال الملوثات موجودة وفي تزايد” – حسب ما يؤكده علوان، الذي يرافق ابنه في رحلة علاجه المرهقة، متنقلا بين ذي قار وبغداد. 

ويلفت في حديث لشبكة “نيرج” للصحافة الاستقصائية، إلى انه زود اللجان بتقارير تثبت التلوث، ومنها شهادات وفاة مصابين بالسرطان، مشيرا إلى ان الأهالي خرجوا في أكثر من تظاهرة أمام بوابة الحقل، لوضع حد للمخالفات البيئية القاتلة “لكن لا شيء حدث”!  تجاهل الشركة النفطية، وهي “بتروناس” الماليزية التي تدير الحقل منذ 2010، دفع سكان  القرية  للجوء إلى القضاء. حيث أقاموا مطلع هذا العام دعوى قضائية ضد وزارة النفط، مطالبين بإيجاد حل لمشكلة التلوث التي يحدثها الحقل النفطي، ولا تزال الدعوى قيد النظر.

وتحيط بحقل الغراف قرى عديدة، منها “البو حمزة” و”آل شايع” و”أولاد زايد” و”خضر الفشاخ” البالغ عدد سكانها نحو ألف نسمة، والتي تعتبر الأقرب إلى الحقل.

استغاثات

منذ عام 2018، قدم أهالي القرى شكاوى عديدة ضد الحقل، إلى مجلس النواب ووزارات البيئة والنفط والصحة، آخرها في شباط الماضي رفعت إلى رئيس مجلس الوزراء، وطالبت بإيجاد حلول عاجلة لمشكلة السموم المنبعثة من الحقل.

ويؤكد الأهالي في شكاواهم أن ما يجري في منطقتهم كارثة بيئية تخالف بنود العقد المبرم بين وزارة النفط و”شركة بتروناس”، والذي ينص على معالجة الغازات المنبعثة نتيجة عمليات الحفر والحرق في الحقل.

وحسب تقرير فني صادر عن وزارة البيئة في آب 2023، نشرت وكالات أنباء نسخة منه، فإن كمية الغاز المصاحب للانتاج تبلغ 85-90 مقمق يومياً، المستثمر منه في الوقت الحالي تتراوح نسبته بين 8 - 10 مقمق، يستخدم في تشغيل محطة الكهرباء الغازية الخاصة بالحقل.

مساومات: اما الهجرة أو السكوت!

الأدخنة السوداء المنبعثة من الحقل، والتي تخنق الأنفاس وتعكر هواء المنطقة، باتت مصدر قلق للأهالي، لا سيما أن الجهات المعنية لم تستطع فرض أي إجراءات تحد من الانتهاكات البيئية – حسب ما يؤكده ممثل عن أهالي “قرية خضر الفشاخ”، الشيخ حسن العبساوي.

يقول الشيخ الذي يملك مساحات زراعية واسعة في محيط القرية، أنه توقف عن الزراعة، بسبب الانبعاثات الغازية التي أضرت بالزرع، مؤكدا أن “الجفر النفطية لا تزال مكشوفة وأصبحت سبباً لتزايد الأمراض السرطانية والتنفسية في القرية، وهذا ما نبه إليه اختصاصيون”.

ويتهم العبساوي الشركة في حديث لشبكة “نيرج”، بأنها تساوم السكان بين الانتقال لمنطقة أخرى أو السكوت عما يجري. ويقول: “35 حالة سرطان في قريتنا، ويقولون لنا هذا، ليس لديهم الحق مطلقا، فنحن نسكن هذه الأرض منذ عشرات السنين، ولدينا عقود موقعة مع دائرة الزراعة بشأنها”.

إقرار رسمي بالتلوث

من جانبه، يؤيد مدير مركز الشرطة البيئية في ذي قار، العميد رشيد جاسم، ما ذهب إليه الشيخ العبساوي.

ويقول في حديث صحفي أنه “سجلنا من خلال الجولات الميدانية لحقل الغراف مع الفريق المتخصص في مكافحة الملوثات البيئية، وبالتنسيق مع قسم الكيمياويات في مديرية بيئية ذي قار وجهاز الأمن الوطني، العديد من المخالفات”، داعيا الحكومة المحلية الى تخصيص مبالغ سنوية لمعالجة التلوث وتوفير أدوية السرطان ودعم المصابين وأهالي المتوفين.

وبناء على شكاوى الأهالي، وجهت الدائرة الفنية في مديرية بيئة ذي قار، بتشكيل لجنة بمعية الأجهزة الأمنية وشركة نفط ذي قار، للكشف عن التلوث الذي تحدثه الشركات النفطية في المحافظة.

وهددت اللجنة في مخاطباتها شركة نفط ذي قار، باتخاذ كافة الإجراءات القانونية بحق الشركة الماليزية ما لم تعالج الانبعاثات الغازية السوداء التي تغطي الرفاعي – حسب وثيقة نشرتها وكالات أنباء. 

ووفقاً للوثيقة، فإن مديرية البيئة أشرت عدم التزام الشركة المستثمرة للحقل بالمتطلبات البيئية التي تنص على “استخدام المنظومة الملائمة التي تعتمد على تقليل الانبعاثات والدخان الأسود في اختبار الآبار النفطية، أو مشروع خطة التطوير النهائية للحقل”.

وفي تشرين الثاني 2021 أخبرت الدائرة الفنية في وزارة البيئة، وزارة النفط بتأثر المواطنين بـ”بسحب كثيفة من الدخان ناتجة عن عمليات الحرق في الحقل”.

مخاطر مستمرة

توصيات وزارة البيئة بتصويب أوضاع الحقل وضرورة مطابقتها للمتطلبات البيئية، لم تجد طريقها إلى التطبيق - بحسب مدير بيئية ذي قار السابق كريم هاني، الذي يقر في حديث صحفي بأن مشكلة الجفر النفطية وحرق الغاز المصاحب للاستخراج النفطي لا تزال مستمرة دون معالجة.

ويضيف قوله أن “الروائح الكريهة التي يتحسسها أهالي القرى القريبة من الحقل، سببها الجفر التي يتم فيها عزل المياه التي تحمل الشوائب النفطية المصاحبة لاستخراج النفط، بالتالي تحدث فيها عملية تخمر وتحلل فتنبعث منها الروائح المسببة للأمراض”، لافتا إلى ان “معالجة تلك المخالفة تحتاج إلى شركة متخصصة ومجازة رسمياً من وزارة البيئة”.

وتنقل شبكة “نيرج” عن مصدر مسؤول في بيئة ذي قار، قوله أن “الجميع يعلم بالمشكلة البيئية لحقل الغراف، وبتسببها في ارتفاع معدلات الأمراض السرطانية، لكن لا أحد يعلن ذلك بنحو رسمي خوفاً من المساءلة القانونية”.

ويرى المسؤول الذي حجبت الشبكة اسمه، أن “الحكومة تغلب الجدوى الاقتصادية على الجدوى الصحية، باعتبار ان موازنة البلاد تعتمد بنحو كامل على النفط في الإيرادات”.

السرطانات تتزايد

تفيد وكالات أنباء بأن وثيقة صادرة عن مستشار رئيس الوزراء موسى الفياض، موجهة إلى مدير مكتب السوداني، كشفت عن تلوث حاصل في حقل الغراف النفطي عمره 14 سنة، أصاب  3 آلاف شخص بمختلف أنواع السرطان، وتوفي 10 في المائة منهم، ولا يزال عدد المصابين في زيادة.

وطالب الفياض في الوثيقة، بإنشاء مركز متخصص لعلاج السرطان في الرفاعي، ودعم المصابين وذوي المتوفين ماديا عبر وزارة النفط، وشمولهم بقطع أراض ورواتب الرعاية الاجتماعية، فضلا عن شمول أهالي القرى القريبة من الحقل بقروض ميسرة لمساعدتهم في الانتقال والسكن في مناطق بعيدة عن الحقل.

أما مسؤول مشروع العيادة المجانية في قضاء الرفاعي، الدكتور الصيدلاني قاسم الشويلي، فيقول أنه “نقدم الخدمات العلاجية لـ400 مصاب بالسرطان من قضاء الرفاعي، ونعاني عدم وجود أطباء اختصاصيين، وأيضا شح العلاجات الخاصة بالسرطان”.

منع دائرة البيئة من دخول الحقل!

وتؤكد وكالات أنباء، أن الشركة الماليزية لم تسمح للفرق البيئية التابعة لدائرة حماية وتحسين البيئة في المنطقة الجنوبية، بدخول الحقل النفطي لغرض تقييم الواقع البيئي. وقد عدت وزارة البيئة، في وثيقة أرسلتها إلى شركة نفط ذي قار، قرار المنع مخالفة للمادة 22 من قانون حماية وتحسين البيئة رقم (27) لسنة 2009، التي تلزم الشركات بإبداء التعاون الكامل والتسهيلات اللازمة لفرق الرقابة البيئية بما في ذلك دخول مواقع العمل.

وفي الوثيقة، طالبت وزارة البيئة شركة نفط ذي قار، بمعالجة كافة المخالفات الناتجة عن عمل الحقل، باستخدام أفضل التقنيات والطرق التكنولوجية المتخصصة في المعالجة وفقا للمتطلبات البيئية والتشريعات النافذة.

رئيس الوزراء يتدخل

في آذار الماضي، وجه رئيس الوزراء محمد شياع السوداني وزارتي النفط والبيئة، بالإيعاز إلى شركة نفط ذي قار بتكليف الشركة المشغلة لحقل الغراف بإنشاء وحدة مركزية لمعالجة المخلفات الناتجة عن عمليات الاستخراج النفطي، وفق المواصفات البيئية العالمية والمعتمدة لدى الوزارتين، مع تخصيص المبالغ اللازمة ضمن الموازنة الاستثمارية، وبنحو استثنائي، بعد إعداد الدراسة الفنية والاقتصادية للمشروع.

كما وجه بقيام الشركة الماليزية، وبإشراف من شركة نفط ذي قار ومتابعة مديرية بيئة ذي قار، بمعالجة السوائل الموجودة في البرك النفطية، لمنع تخمرها، واستخدام الوسائل السليمة والآمنة لنقل المخلفات إلى مراكز المعالجة خارج الحقل، وإنشاء وحدات معالجة دائمية، وذلك لقرب هذه البرك ووحدات الانتاج من القرى والقصبات المحيطة بالحقل.

ورغم كل هذا الواقع، لا يزال زين العابدين حمود (24 سنة) عاطلا عن العمل، يمني النفس بإيقاف “رائحة الموت” التي تحيط بقريته، والتي تسببت في إصابته بالربو القصبي الحاد.

ويقول في حديث صحفي: “إننا نموت ببطء.. بح صوتنا ونحن نطالب هذه الجهة وتلك، لكنهم لا يقومون بشيء”، مضيفا قوله: “الشركة التي تدير الحقل لديها المال، ونحن مجرد فقراء في قرية صغير، لذلك لن يستمع الينا أحد”!