اخر الاخبار

الحاج أبو حسين (64 سنة) هو آخر من تبقى في قرية “ألبو حسين” التابعة إلى قضاء آل بدير في محافظة الديوانية، بعد ان دفع الجفاف الذي طاول جداول القرية، السكان - وجُلهم مزارعون مثله - إلى الرحيل نحو مناطق أخرى، وترك أراضيهم الزراعية في مصير مجهول!

 

يقول أبو حسين في حديث صحفي: “كان أشقائي وأولاد عمومتنا يعيشون هنا. لم يبق منهم أحد هذا العام. بعضهم ذهب إلى قرى أخرى أملاً في مواصلة عمله مزارعاً، والبعض الآخر إلى الديوانية بحثا عن أعمال أخرى”.

وينظر أبو حسين بحزن إلى الأراضي الجرداء التي تحيط بالقرية. ويقول: “عندما قل الماء، ذهبت البَرَكة عن أراضينا! كنا نزرع القمح والشعير والبطيخ والقطن والسمسم. أما الآن فلا شيء ينبت سوى الدغل”.

ويتابع قوله: “لا حل أمامنا.. فحتى مياه الآبار غير صالحة للشرب والري، كونها تحتوي على الكبريت”.

وتقدر مساحة قضاء آل بدير بـ409 كيلومترات مربعة، أي نحو ثلث مساحة محافظة الديوانية، ويصل عدد سكانه إلى 68 ألف نسمة.

وكان سكان القرى في القضاء، وعددها 65 قرية، يعتمدون بالأساس على الزراعة في معيشتهم، مستفيدين من الجداول المتفرعة من نهر الفرات، والتي تسمى”ذنائب”. لكن هذه الجداول جفت جراء قلة الإمدادات المائية في النهر، ما أدى إلى تصحر آلاف الدونمات الزراعية.

جفاف الجداول الفرعية

مدير الموارد المائية في الديوانية المهندس مسافر مطلك الشبلي، يؤكد في حديث صحفي أن “مناسيب شط الديوانية في انخفاض متزايد، الأمر الذي أدى إلى جفاف الجداول الفرعية، لا سيما في القرى والأرياف”، لافتا إلى ان وزارة الموارد المائية اضطرت إلى تقليل الحصص المائية للمحافظة خلال السنوات الأخيرة بسبب أزمة شح المياه.

وشط الديوانية عبارة عن نهير متفرع من ذنائب شط الحلة، الذي يتفرع هو الآخر من نهر الفرات.

ولضمان وصول المياه إلى أبعد مكان في القرى والأرياف التي تضررت جراء الأزمة المائية، يقول الشبلي أن دائرته متجهة نحو تبطين الأنهر والجداول للحفاظ على المياه من التسرب الى التربة.

هجرة مئات العائلات

من جانبه، يقول قائم مقام قضاء آل بدير شهد الشهد، أن “شح المياه في المناطق الريفية أدى إلى هجرة مئات العائلات صوب مركز القضاء أو مدينة الديوانية، وأبعد من ذلك نحو محافظتي النجف وكربلاء”، مشيرا إلى ان ذلك يهدد الانتاج الزراعي.

ويعبّر الشهد عن أسفه على خسارة القضاء سمعته الزراعية. ويقول :”كانت قرى الديوانية من أكبر مصدّري المحاصيل الزراعية إلى بقية المحافظات”.

 

اختفاء الرز العنبر!

مدير زراعة الديوانية صفاء الجنابي، يؤكد من جهته أن “قرى آل بدير الـ65 تضرر جميعها نتيجة لآثار تغير المناخ، فضلا عن قلة إمدادات المياه”، مشيرا في حديث صحفي إلى ان دائرته اضطرت الى تحديد المساحات التي يفترض زراعتها في كل موسم، ومنعت منذ سنتين زراعة الرز والقمح والشعير وغيرها من المحاصيل.

وتنذر تلك الإجراءات باختفاء انتاج “الرز العنبر” الذي كان يزرع سابقا بكثرة في ريف آل بدير “فربما لن نجده مزروعا في أراضينا بعد سنوات من الآن، في حال استمر نقص المياه ومنع المزارعين من زراعته” – حسب الجنابي الذي يرى أن “لا حلَ لعودة المزارعين إلى مناطقهم التي نزحوا عنها في آل بدير، الا من خلال استثناء الديوانية من قرار منع زراعة المحاصيل التي تتطلب كميات وفيرة من المياه”.  ويوضح أن “لتحقيق ذلك، لا بد من موافقة وزارة الموارد المائية على إطلاق حصص مائية إضافية للقرى الزراعية”.

فيما يقول الموظف الزراعي علي حسن، أن “نزوح سكان قرى آل بدير لا يؤثر فقط على القطاع الزراعي، بل يشكل ضغطا كبيرا على المدن التي يلجأ إليها النازحون “إذ يشتد التنافس على فرص العمل، التي هي في الأصل قليلة”. ويضيف في حديث صحفي قائلا أن “الكثيرين من النازحين خلال السنتين الأخيرتين، عاطلون عن العمل. الشباب منهم يحاول الانخراط في مهن ترتبط بالبناء، لكن الفرص قليلة.. ماذا سيفعلون؟ انهم قوة عمل عاطلة”!

 

التعايش مع الأزمة

توقف الزراعة في قرى آل بدير وغيرها من مناطق الديوانية، نجمت عنه موجات هجرة متتالية - حسب باحثين ومراقبين. في حين يحاول السكان الباقون التعايش مع واقع شح المياه باستخدام مياه الآبار التي تحوي نسباً عالية من الكبريت، والتي لها انعكاسات سلبية على صحة مستخدميها.

وفي هذا الصدد يقول مدير مفوضية حقوق الإنسان في الديوانية محمد البديري، أن مكتبه سجل خلال السنتين الأخيرتين إصابات بأمراض جلدية عديدة بين المواطنين في مختلف قرى آل بدير، نتيجة استخدام مياه الآبار التي ترتفع فيها معدلات الكبريت بنحو كبير، مشيرا في حديث صحفي إلى أن هذا الأمر أدى إلى هجرة السكان المتبقين، ما حوّل قراهم إلى “قرى أشباح” – على حد تعبيره.

أما الباحث في الشؤون الاجتماعية سامر الجنابي، فيذكر انه أجرى دراسة بشأن هجرة سكان قرى آل بدير، وأنه رصد خلال بحثه انتحار مزارع في العام الماضي، لفقدانه ما زرعه بسبب الجفاف. إذ انه استثمر كل ما يملك في أرضه وأصبح غارقاً في الديون.

ويلفت في حديث صحفي إلى ان هجرة السكان خلقت مشكلات اجتماعية أيضاً “فقد رصدت الكثير من حالات الطلاق وتزويج القاصرات، علاوة على النزاعات العشائرية”.

وينبّه الجنابي إلى ان “تأخر الحكومة في إيجاد حلول للأزمة، سيؤدي في النهاية الى خلو مناطق شاسعة من كل مظاهر الحياة”. من جانب ذي صلة، يواجه أصحاب الماشية مشكلة عدم صلاحية المياه الكبريتية المستخرجة من الآبار، والتي تهدد بنفوق ماشيتهم.

وعن ذلك يقول حمزة البديري، وهو شاب يربي الماشية في آل بدير، أن “أعدادا كبيرة من رؤوس الماشية نفقت بسبب شربها مياه الآبار. إذ تصاب الحيوانات بالهزال والعمى، فتهلك في النهاية”.

 

هل من حلول؟!

بغية إيجاد حلول لأزمة الجفاف في الديوانية، أعلنت مديرية الموارد المائية في المحافظة ابان تموز الماضي، المباشرة بتنفيذ مشاريع لتدارك الازمة، مثل استخدام السواقي المغلقة، وتبطين الأنهر والجداول، وتحجيم شاطئي الديوانية والدغارة ووضع نظام محدد لاستخدام المياه، وقصره على الشرب في الوقت الراهن.

أما على المستوى الزراعي، فيقول مدير دائرة استصلاح الأراضي الزراعية حسين جابر، أن دائرته أنجزت شبكة ري وبزل بطول أكثر من 11 كيلومتراً مع قناة واحدة، مع الاعتماد على نظام القنوات المغلقة، من أجل ضمان حصص مائية كافية للمزارعين وتقليل المهدور من المياه إلى أقل قدر ممكن.