اخر الاخبار

 بعد قضائه جل عمره في “قرية العنكور” بمحافظة الأنبار، اضطر ستار عطية (62 سنة) في النهاية، كبقية سكان قريته، الى التخلي عن منزله وأرضه هربا من الجفاف الذي ضرب المنطقة وجعل بحيرة الحبانية مجرد أرض ملحية ميتة!

يقول الرجل في حديث صحفي: “كنا نعتمد على البحيرة في سقي أراضينا الزراعية. كما كانت لدينا أحواض للأسماك، لكن كل شيء انتهى، وأصبحنا نعاني حتى في الحصول على ماء الشرب”.

وتسبب الجفاف الناجم عن قلة الأمطار وارتفاع درجات الحرارة الى جانب انخفاض امدادات نهر الفرات القادمة من تركيا وسوريا، في تراجع غير مسبوق لمياه البحيرة، ما ألقى بآثاره على السكان، خاصة أبناء القرى التابعة لقضاء الخالدية.

وتبلغ قدرة الحبانية الاستيعابية 3.3 مليارات متر مكعب من المياه، بينما لا تتجاوز الكمية في الوقت الحالي 500 مليون متر مكعب - حسب مديرية الموارد المائية في الأنبار.

وهرباً من الجفاف، استأجر ستار مع عائلته المكونة من ستة أفراد، منزلاً صغيرا متهالكا في مدينة الرمادي. لكنه واجه تحديات لم يعهدها كارتفاع بدلات الإيجار، وقلة فرص العمل، وصعوبة التأقلم مع حياة المدينة وعادات السكان.

وبنبرة أسى يقول: “طرقنا كل الابواب ولم نتلق أي مساعدات من الجهات الحكومية. المنزل الذي نسكن فيه متداع، وفي اي لحظة قد يسقط على رؤوسنا”، مضيفا أن “المنطقة التي نعيش فيها تفتقر للخدمات، بما فيها شبكات الصرف الصحي. كون البيوت مبنية على أراض غير مخدومة تعود ملكيتها للدولة”.

ويعود ستار بذاكرته الى حياته في قريته قرب البحيرة قبل ان تجف، فلا يجد وجها للمقارنة. وعن ذلك يقول: “أزور المنطقة بين حين وآخر أملا في عودة الحياة إليها. فمستقبلنا هنا غامض، وحياة النزوح ليست سهلة على الإطلاق”.

وتشير تقارير الأمم المتحدة عن البيئة في العراق، ان البلاد تعد من بين الدول الخمس الأولى الأكثر تضرراً من التغييرات المناخية على مستوى العالم، وانها تأتي في المرتبة 39 بين الدول الاكثر إجهادا للمياه، مؤكدة أن العام 2022 كان ثاني أكثر المواسم جفافاً منذ 40 عاماً.

 بركة راكدة

بعد موجة الجفاف الشديدة التي ضربت جنوبي العراق خلال السنوات الثلاث الاخيرة، شهدت مناطق غربي البلاد بدورها أزمة مائية غير مسبوقة، ظهرت ملامحها بنحو كبير في التراجع الحاد لمياه سد حديثة وبحيرة الثرثار وأخيراً بحيرة الحبانية التي تناقصت مياهها لتتحول إلى ما يشبه البركة الراكدة.

وأعلنت وزارة الموارد المائية في أيار الماضي، عن اتخاذ اجراءات لتعويض نقص مياه الشرب في القرى المحيطة بالبحيرة، منها حفر آبار عدة.

غير أن خبراء واختصاصيين في مجال المياه، وصفوا إجراء حفر الآبار بغير المجدي، ذلك ان المياه الجوفية ستتناقص أيضاً، مطالبين الوزارة بتنفيذ مشاريع استراتيجية، مثل حصاد المياه، وتكثيف المباحثات مع تركيا لإطلاق حقوق العراق المائية، ليعود الخزين المائي في بحيرة الحبانية كما كان سابقا.

وانخفض منسوب المياه في الحبانية بنسبة 85 في المائة. ويعزو مدير المدينة السياحية في الحبانية مؤيد المشوح ذلك الى تغيرات المناخ ونقص الأمطار، إضافة إلى السياسة المائية التركية.

ويؤكد في حديث صحفي أن كل ذلك أدى إلى انخفاض منسوب سد حديثة الذي يمتلئ بـ 8 مليارات متر مكعب وينقل المياه عن طريق الورار الى بحيرة الحبانية، مشيرا إلى أنه “منذ عامين لم يتم ايصال المياه الى البحيرة، ما أدى الى جفافها وتحول ما تبقى منها الى بركة راكدة سوداء اللون ذات رائحة كريهة”.

فيما يؤكد عدد من سكان القرى المحيطة بالحبانية، أن قوارب الصيادين كانت تجوب البحيرة قبل شهور، والآن يمكن للناس والمركبات السير على أرض البحيرة بسهولة!

كارثة بيئية

من جانبه، يصف الخبير الاحيائي ليث العبيدي، الجفاف المتكرر للبحيرات بـ “الكارثة البيئية”. ويقول في حديث صحفي أن “الجفاف فتك بالتنوع الاحيائي الذي يشمل النباتات والأسماك والطيور. فانحسار المياه وقلة نسبة الأوكسجين وملوحة ما تبقى من المياه، أدى الى موت الكائنات المائية وهجرة الطيور”.

 سوء إدارة

مدير الموارد المائية في الانبار جمال عودة، يعزو سبب جفاف بحيرة الحبانية إلى سحب مياهها لتعويض النقص المائي في المحافظات الأخرى، مبينا في حديث صحفي أنه “تم التحول إلى الاستفادة من الخزين المائي في البحيرات عموما، لغرض تعزيز الحصص المائية وتوفير مياه الشرب والزراعة في محافظات عدة”.

أما المستشار السابق للجنة الزراعة والمياه والاهوار البرلمانية، عادل المختار، فهو يرفض إلقاء اللوم على التغير المناخي فقط، ويعتقد بأن هناك سوء إدارة للمياه والنشاط البشري، كالإسراف في الري واستنزاف المياه الجوفية. وبالعودة إلى بحيرة الحبانية، يؤكد جمال عودة أن قلة الايرادات المائية أدت الى تقليل المساحات الزراعية، وبالتالي “أثرت على انتاج المحاصيل المهمة كالحنطة والشعير”، منوّها إلى أن “هناك مساعي حكومية للتحول من الري السيحي القديم الى الري بالتقنيات الحديثة وتفعيل الاتفاقيات الدولية والاقليمية لتأمين الحصص المائية العراقية”.

 الوضع سيزداد تعقيدا!

المزارع محمد أحمد (38سنة)، وهو أحد السكان القريبين من الحبانية، يقول أن “الوضع سيزداد تعقيدا في الشهور المقبلة، لأنه ليس هناك أي ملامح لحل مشكلة جفاف البحيرة، بالرغم من الوعود الحكومية الكثيرة التي تلقيناها”.

ويستحضر أحمد ذكرياته حين كان يرعى ماشيته في المنطقة، التي أصبحت أرضا جرداء بسبب الجفاف. ويقول: “كانت البحيرة مصدراُ مائيا رئيساً لعشرات الآلاف من الناس”. ويضيف بأسف: “ستموت اغنامي عطشا وجوعاً.لا أستطيع النزوح، لذلك اتجشم عناء جلب الماء من مسافات بعيدة بواسطة الدواب، لأوصلها للأغنام، ومع ذلك ينفق البعض منها بين الحين والآخر ولا أعرف ماذا أفعل”!

 النزوح يتواصل

على طول الطرق ضمن محيط الحبانية، يمكن مشاهدة مواطنين منشغلين بجلب المياه الصالحة للشرب من مناطق أخرى، سواءً بواسطة العبوات الصغيرة المختلفة، أم بواسطة الصهاريج.

وحسب مختار “قرية العنكور” الشيخ أحمد حسن، فإن السكان المتبقين يضطرون الى شراء نحو ألفي لتر من المياه غير المعالجة بسعر 10 آلاف دينار “لكنها غير صالحة للاستهلاك البشري”.

ويضيف في حديث صحفي أنه “نحصل على القليل من المياه الصالحة للشرب والطبخ من بعض المنظمات الانسانية التي وفرت لنا ثلاثة فلاتر لتصفية المياه”، لافتا إلى أن “الحبانية جفت تماما من جهة العنكور باتجاه الرمادي. أما من جهة المدينة السياحية فانحسرت المياه بشكل كبير ولم يتبق منها الا القليل جداً، ما أفقد السكان مصادر عيشهم، ودفع البعض منهم إلى العمل في البناء. إذ يقطعون مسافة 50 كيلومترا باتجاه الرمادي للحصول على فرص عمل. أما البعض الآخر فأصبح بلا عمل، وكثيرون رحلوا إلى مناطق أخرى”.

ويؤكد المختار ان هناك عائلات فقيرة تركت القرية ونزحت صوب المدينة، لكنها عادت بعد فترة لأنها عانت صعوبات كبيرة في التأقلم مع البيئة الجديدة وتأمين معيشتها في ظل ندرة فرص العمل.

 ما الحل؟

وسط استمرار الجفاف في الحبانية، يبدو ان الأمل الوحيد المتبقي لدى سكان “قرية العنكور” هو بتنفيذ مشروع مد أنبوب مياه من مدينة الفلوجة إلى القرية، لتأمين جزء من حاجاتهم من المياه – حسب المختار، الذي يذكر أنه على تواصل دائم مع المسؤولين في قضاء الخالدية، لتنفيذ هذا المشروع، ويأمل أن تتم الموافقة عليه.