اخر الاخبار

إنَّ أيّة معاينة نقدية لمجموعة (إيلا) للقاصة تماضر كريم الصادرة عن (أبجد للنشر والتوزيع 2023) تكشف عن اشتغال سردي يتّسم بالرصد والتكثيف ويتمركز حول تداعيات الأسى بكلّ أشكاله وتمثلاته على المستوى الوجودي لمعظم شخصيّات المجموعة الذين يمثلون نمط الذات التي تواجه أحداثاً وأقداراً تحليها إلى حطام وبقايا وذكريات وإفرازات وظواهر هي أقرب إلى رثاء واقع برمته، وتراجيديا الأحداث والشخصيّات في هذه المجموعة قد تكون مسبّباتها متعددة، منها وقائع تنجم عن الذات وتخلف الندم والشعور بالذنب، ووقائع خارج إرادة الذات وهي ما تنتجه المصادفات التي تشبه القدر أو الحدث غير المتوقّع أو تأتي نتيجة للإرتكاس والتآكل الداخلي للواقع الاجتماعي المحيط بالشخصيّات وكأنها تعيش في محجر أو سجن، ولذا نجد أغلب الشخصيّات في هذه القصص تميل إلى الانكفاء الداخلي والشعور بالإغتراب وعدم القدرة على التناغم مع الآخر ووفق هذا فإنها تميل إلى نوع من العزلة والإرتكاز على الذات في مقاومة كلّ طارئ، هذه المقاربة التحليلية تحيل إلى أنَّ بؤرة القصص يتمركز فيها الصراع بين (المرأة والرجل) و(الماضي والحاضر)، و(الحياة والموت)، و(القدر والإرادة)، و(الحلم والكابوس)، وترسم القصص منحنيات التشكيل التراجيدي بشكل يدين الواقع ضمناً بوصفه المساحة التي تحيط بكلّ شيء، ولذا نجد مصائر الشخصيات غالباً ما تنتهي إلى الغربة أو الموت أو الانكفاء أو المرض ما عدا بعض النصوص وسنتناول نماذج من القصص التي بعضها يعاني من (النوستالوجيا) كما في القصّة التي تحمل عنوان المجموعة وهي عبارة عن قصة فيها جمال وعمق، إذ تصوّر التناقض الحاد بين شخصيتين وحدث غرائبي بين (عمّار) صاحب (التكتك) الذي يسكن في حي عشوائي يسمّى (سبع قصور) وبين امرأة فاتنة الجمال والثراء تستأجره للبحث عن ذكرياتها وبيت العائلة القديم وتدور به في أحياء بغداد لاسيما القديمة منها باتجاه شارع الجمهورية و(الشورجة) بحثاً عن الإعدادية المركزية للبنات والهدف محلّة (التوراة) ويصيب (عمار) الإحباط حين لم تمتنع (إيلاّ) عن دفعه لثمن الطعام ولكنّه يصاب بالدهشة حين تمنحه أخيراً الأجرة بالدولار وبمبلغ لم يكن يتوقعه أو يحتسب أنه سيحصل عليه ثم يودّعها وكأنّه يودع حلماً باذخاً، وقد وفقت القاصة في جعل عنوان المجموعة على عنوان هذه القصة من باب اطلاق الجزء على الكل فضلاً عن لمحة إنسانية هي كرم الطبقة الكادحة وطيبها.

وتعكس القصة فعلاً قائماً على (النوستالوجيا) التي تهيمن على (إيلا) وهي تنتمي لبعض الأسر اليهودية التي لا تزال تشعر بالحنين إلى أماكنها الأولى التي عاشت فيها ردحاً من الزمن ليس بالقليل، وتتخذ القصّة بعداً آخر هو تصوير الواقع الاجتماعي والإنساني لمدينة بغداد وما تعانيه من خراب وفقر وأفول يختلف عن صخب وثراء الماضي، “راحا يقطعان المسافات صامتين، عندما وصل بها إلى ذلك الزقاق الضيّق القديم، كانت الشمس قد أوشكت على الغروب كان عمال المخازن والمطابع يغادرون وبدت كما لو أنّها تموج بالحزن والغموض والحنين” (المجموعة: 73)، فهي رحلة البحث عن الذات والهوية والجذر والماضي.

وتضعنا قصّة (عودة) في أجواء الكابوس الذي يحاصر الزوجة وأوجاع الإحساس بالمرض الذي يجتاح جسدها على شكل بقع بيضاء وينتابها نوع من الهوس (السايكولوجي) وهي تشعر أنّها ستخرج من فضاء الحياة ومن دائرة اهتمام زوجها بسبب أنّها كائن شوّهه المرض الذي يغزو كلّ بقعة فيه، “واجهت الحقيقة أنَّ تلك البقع البشعة تنتشر وتتّسع، وأنَّ شكلها لن يعود كما كان، حتّى كلمات الطبيب كانت تتطاير من حولها مثل ذرات الغبار دون أي أثر ثمة أمر عليها مواجهته يومياً وهو صورتها في المرآة، الصورة المشوّهة الجديدة” (المجموعة: 7)، ولكن شخصية المرأة في هذه القصة لم تهزم هزيمة مطلقة بعد أن فقدت اهتمام وعلاقة الزوج ولم تجد سوى (نوستالوجيا) العودة والتوجّه السايكولوجي إلى طفولتها عبر السفر إلى المكان (الطفولي) في مدينة (سامراء) وهو حلّ أقرب إلى الصياغة السايكولوجيّة الرمزيّة . ونلحظ مثل هذا النوع من احتواء الهزيمة وبالتأطير السايكولوجي في قصّة (البداية من البحر) التي تروي طلاق امرأة وذهاب زوجها إلى دمشق والزواج من امرأة سوريّة وتبقى تتلذّذ بمتابعة أخباره وصوره ومنشوراته في مواقع التواصل، وانتابها شعور مزدوج بين التعاطف معه والتعاطف مع ذاتها وتقرر هي الابتعاد وغالباً ما نجد شخوص القصص يلجؤون إلى ترك الأمكنة التي تصبح أمكنة سلبيّة ومعادية باتجاه البحث عن مكان آخر كنوع من الحل وقطع الصلة بالماضي والمكان والحدث فتسافر مع ابنها إلى تركيا وفي واقعة جعلت الابن يتأخّر ممّا جعلها تصاب بهستيريا الانتظار لتكتشف أن أملها ووجودها الجديد هو التكيّف مع ذاتها وابنها كحل للذات، وضمان سعادة جديدة، واللافت أنَّ قصص (تماضر كريم) تميل إلى صنع مصائر تنتمي إلى شعرية الخلاص، أمّا بالسفر أو إيجاد بديل يدعم وجود الشخصيّة أو التعلق بالأمل والابتداء من نقطة جديدة، “لا أذكر شيئاً أبداً سوى وجوده هناك ينتظرني متكوّراً على نفسه بسأم في طريق العودة، كنت أمسك بكفّه، واقبّلها بين دقيقة وأخرى، كنت قد شرعت للتو أفكّر في البدء من جديد” (المجموعة:18).

أمّا قصة (فيتر) فإنّها تجسد الصراع الإجتماعي والسايكولوجي من زاوية أخرى تلخّصها قصّة الحب بين رجل يعمل في تصليح السيارات (فيتر) وبين طالبة جامعية تدرس اللّغة الفرنسية وتتملّكه مشاعر الإحساس بالنقص لما تراكم على يديه من أصباغ وأوساخ وبقع بسبب عمله فيقرر لفّ كفّيه بقطع من القماش الطبي الأبيض تحت ذريعة أنه أصيب بحادث سير وهذه الحيلة السايكولوجية لها دلالتها المرتبطة بالمساحة الطبقية والاعتبارية وموقع الصراع بين الذات والآخر وما تمثّله من فروق أدت إلى هذه المفارقة المحزنة، ولكن المباغتة التي أسست لغلق هذه الوساوس وفداحة الفروق الطبقية، أنَّ الفتاة قد كشفت عن شاعرية وتفهّم وإحساس إنساني حين تعاملت مع القماش الأبيض بهدوء وحنان مما أثار دهشته وبذلك تم كسر أفق التوقع لدى الشخصية الرجل وبدا هذا حل شاعري، “ببساطة بدأت تلفّها بحرص، كأنّها تلف هديّة بشرائط من حرير وابتسامتها الصغيرة المعهودة تطوف على وجهها الجميل لا أنسى أبداً أنّها بعد أن أحكمت لفّ يدي ضغطت عليها بطريقة ما، كأنّها أرادت أن تقول شيئاً ما لا أعرف ما هو لكنّه بدا شيئاً جميلاً” (المجموعة: 23)، وما عمّق الصياغة السايكولوجيّة للحدث المفارقة، وأنَّ السرد جاء بصيغة (السرد الذاتي) وعبر ضمير المتكلم وكان الحلّ حلاً شاعرياً لأزمة طبقية وسايكولوجية.

ونلحظ مثل هذا الاشتغال (السايكولوجي) جليّاً في قصة (الغريب) التي اصطبغت بحدث غرائبي وتأطير رمزي، إذ تتحدّث القصة عن امرأة تعاني الوحدة القاتلة في ليل شديد البرودة، ويطرق بابها رجل يكابد الجوع والبرد والضياع وقد تبخرّ كل خوف وبدأت تعامله كشخص تعرفه أو تنتظره ويقضي اللّيل إذ استغرق في النوم بعد أن شعر بالدفء، وكانت هي تراقبه بإحساسها الفادح القائم على حاجتها لإنسان يبدد وحدتها لكنّها كانت تحمل كل الحزن حين تحرّك في الصباح ليغادر المكان، “وهو يهم بالخروج قرب الباب تلكّأت خطواتهما، بعينيه اللتين أسرتا قلبها راح ينظر إلى وجهها بارتباك، وفي حركة متأنية حانية، مدَّ يده نحو وجهها ومرر أصابعه على خدّها، غشيها يقين أنه يواسيها كرهت تلك اللحظة ورجعت خطوة للوراء مخبأة دمعة تكاد تنفلت من عينيها، اغلقت خلفه الباب بإحكام وهي تفكر أنّه سوف يعود يقيناً، يعود ذات يوم”(المجموعة: 35-36).

في هذه القصّة نهاية مفتوحة لانتظار الأمل والقادم وهي حالة لحلّ وجداني قائم على شعرية الخلاص، ولعلّ هيمنة النسق (السايكولوجي) في معظم نصوص المجموعة إذ يتجسّد الصراع حاداً بين الذات والآخر حيناً أو بين الذات مع (نفسها) حيناً آخر، ووسط هذه الصياغة يتصاعد الصراع ويتكامل المعنى لتجسيد نوع من القلق والاحتدام والبحث عن وجود أو أمل الخلاص هناك مثل هذه الاستلهامات والفضاء السايكولوجي والشعور بالذات والإحساس المزدوج بين الحلم والكابوس في قصة (الرحيل فجراً) وهي قصّة تنطوي على أحداث غرائبية، حين يهيمن هاجس الموت على أديب متخصص بكتابة الرواية وقد أنجز ثلاث روايات وبانتظار الرابعة، لكنّه يشعر بلحظة الموت وهي تقترب منه فيقرر قراراً غريباً بالتخلي عن سيارته الفارهة وإهدائها إلى امرأة من دون مقابل، أنه تصرّف شاعري (سايكولوجي)، وبعد تطوّر الأحداث تتعرض المرأة لحادث ينهي حياتها وترحل، فينتابه شعور غريب بتوهّج الحياة في داخله ويتفاعل مع وجوده وينتظر روايته الرابعة، ونجد في القصّة جدل الحياة والموت والحقيقة والزيف والحلم والكابوس، وأن التجربة هي التي تمنح الإنسان قوة جديدة وخلاصاً جديداً على الرغم من قساوة وضراوة تلك التجربة، “فسوف يخرج لمعانقة صاحب الفرن وبائع الماء وحتّى الشحاذين وربّما يتزوج، سيتزوج فجراً ولن ينسى أن يشعل البخور والشموع عند قبر بائعة السكائر، انحسرت آخر خيوط الفجر، توسّطت الشمس السماء، بكامل سطوعها وهو جالس هناك بخشوع تام، يحيط رأسه بكلتا يديه” (المجموعة: 44-45). وتجسّد قصة (علكة الجدّة) حدثاً غرائبياً إذ تُسلط الضوء على رغبة الجدّة بنوع من العلكة التي تجعلها علاجاً لمشاكل الهضم وقد اعتادت هذا منذ زمن بعيد مما أثار استغراب حفيدها الطالب في العلوم السياسية وبدأ يشاكس جدّته ويسخر في داخله ممّا دفعه لإخفاء علبة العلك عنها، ولكنّه في لحظة مباغتة وجد أنّها غادرت الحياة، والقصة تحمل إشارات وبناء رمزي شيّدت الكاتبة الفكرة على المفارقة بين عادات ويقين الجدّة بأشيائها وما اعتادت عليه، وبين وعي شخصيّة حفيدها الطالب في علوم السياسة ولم يدرك حقيقة تماهي الإنسان مع ذاته وتصالحه مع عوالمه الذاتية وموروثاتها وشهد الابن والحفيد نهايتها، “مدَّ يده نحو وجهها الذي كان مختلفاً عن كلّ يوم، بدا أكثر وجوماً وحزناً، بشرتها باردة إلى درجة مفزعة، انحنى أكثر مقرّباً وجهه منها، ونزلت دموعه وهو يلثم جبهتها الشاحبة، فيما كان الحفيد واقفاً بذهول وفي يده العلبة” (المجموعة: 56)، والقصة على بساطتها تعكس فكرة ومعنى عميقاً في طبيعة الحياة وطبيعة الذات الإنسانية وما يسهم في تشكّل بقائها .

أمّا قصة (فوضى مكان) فإنها تقدّم أنموذجاً للعلاقة الزوجية حين تتحول المرأة إلى عامل مطبخ ومجرّد كائن لتلبية حاجات الزوج، وما تحتاجه دعوات أصدقائه الضيوف وإن تركيزها على هذا العالم الذي يعكس نوعاً من العمل الذي لا ينتهي وفق وظيفة أبديّة مما يؤدّي إلى فقدانها الشعور بما يجب أن تكون عليه العلاقة من توهج وديمومة ونماء إنساني، حتى يتفاقم هذا الشعور الغرائبي وتتعمّق في تشيؤ ذاتها إلى الحد الذي يجعلها تتلقى خبر موت الزوج ببرود وبشعور عادي ولم يشغلها وهي إزاء هذا الحدث الكبير من فكرة أنَّ المطبخ أصبح في فوضى وتراكم وعليها أن تعيد ترتيبه وتعيد نظافته بعد أن استغرقت وبذلت جهداً في تحضير دعوة أصدقاء زوجها الذي رحل، “سيرن جرس الباب بالتأكيد، أنها الواحدة وخمس دقائق، الآن ربما في هذه اللحظة بالذات، ولكنّه رنين الهاتف وليس الباب !!

-نعم أنا هي زوجته، ماذا ؟!

يا إلهي.. عمل حادثاً.. هل هو بخير سأحضر فوراً ، أخرجت مبلغاً من بطن الجورب، هذه المرّة لم أعده إلى الدرج، لقد رميته وسط المنزل، وذهبت إلى حيث يحفظون جثث أجساد الأموات .. كان يشغلني فقط، كم سأحتاج من جهد لإزالة فوضى المطبخ!” (المجموعة: 60-61)، وتلك نهاية فاجعة حقاً إذ تحوّلت الزوجة إلى شيء بلا عواطف تفكر بالعمل البيتي أكثر من مشاعرها تجاه زوجها.

ا القصة الأخيرة (سبعة عشر يوماً من العزلة) التي بدت طويلة نسبياً وتضمّنت خطاباً بين امرأة ترقد في المستشفى وبين حبيبها على شكل رسائل يومية اكتظّت بتفاصيل المستشفى ومعاناة المرضى والشخصيّات التي ترصدها من أطباء وممرّضات وهي رسائل حميمية تنقل فيها أدق المشاعر وتجد فيها الملاذ ومقاومة المرض ونجد هذا المقطع الرسائلي: “هل تصدّق أجبت الطبيبة الحديث عنك، فأنَّ حديثي أيقظ فيها أشياء مندثرة، كانت عندما تقوم بجولتها المعهودة في الردهة تبقى فعلاً

معي، تبقى مسافة كافية بيننا عذرت خوفها، الخوف ليس سيئاً إنه جيد أحياناً، لقد حدثتني عن نفسها” (المجموعة: 145)، وفي الختام أرى أنَّ مجموعة (ايلا) مليئة بعوالم تغوص في الذات الإنسانية وهموم الواقع اليومي والصراع بين الثنائيات المتضادّة والبحث عن أمل وأفق باعث على استئناف البقاء، وهي مجموعة تستحق التنويه والإشادة لكونها عذبة المأخذ والأسلوب بعيداً عن التنطع والرموز العدميّة والطلاسم بل تفكّر الكاتبة بالمتلقي وتطمح أن تصل رسالتها القصصية إلى أوسع الشرائح بإنسانيتها الصافي

عرض مقالات: