اخر الاخبار

بمناسبة “اليوم العالمي للغجر”، الذي يحلّ في الثامن من نيسان/ أبريل من كلّ عام، قام “المسرح الغجري” في مدينة بريزرن التاريخية، مركز ولاية قوصوه (كوسوفو) العثمانية التي تأسّست في 1869، بعرض مسرحية “الظلال” للمولّف والمخرج كالتريم بالاي (Kaltrim Balaj) التي تناولت ما تعرّض له الغجر في الهولوكست النازي بين عامَي 1935و1945.

في هذه المرّة، لم تقتصر هذه المناسبة في كوسوفو على استذكار هذا اليوم، والأمل بتجاوز التهميش الذي لا يزال يُعاني منه الغجر في المجتمعات التي يعيشون فيها، حيث جاء عَرْض هذه المسرحية في أجواء مختلفة لتذكير العالم بحصّة الغجر المنسيّة من الهولوكوست، الذي يكاد يرتبط باليهود فقط، في التاريخ والأدب والفن، وكذلك السينما.

مأساتان للغجر

في “متحف الهولوكست” الذي بُني في مكان “معسكر بوخن فالد”      Buchenwald -  أقيم عام 1937 شمال غرب مدينة فايمار بوسط ألمانيا، لدينا ضمن المعروضات وثيقةٌ تتضمّن دعوة هنريك هملر قائد “القوات الخاصة SS” في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر عام 1938، إلى “الحل النهائي لمسألة الغجر”، وكذلك أمره الصادر في السادس عشر من كانون الأول/ ديسمبر سنة 1942 بترحيل كلّ الغجر الباقين في أوروبا إلى “معسكر أوشفيتس” (Auschwitz) المُرعِب في جنوب غرب بولندا (وكانت تحت الاحتلال الألماني)، الذي تحوّل أيضاً إلى متحف للهولوكست .

كانت المأساة الأُولى للغجر بأن قوانين نورمبرغ العنصرية، التي هدفت إلى “حماية الدم والشرف الألماني”، شملت أولاً اليهود، وكان ذلك في الخامس عشر من أيلول/ سبتمبر عام 1935، بينما شملت الغجر أيضاً في السادس والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 1935، دون أن يُثير هذا اهتمام المؤرّخين بهم ومصيرهم اللاحق في معسكرات الاعتقال العديدة، التي أقيمت سواء في ألمانيا أو في الدول التي احتلّتها أو كانت تابعة لها. وقد أدّى هذا إلى تهديد الوجود الغجري في العديد من الدول الأوربية، خاصة في أوروبا الوسطى والبلقان، حيث احتوت العدد الأكبر من الغجر بعد حوالي ألف عام من قدومهم واستقرارهم هناك.

وهكذا مع صدور الأوامر بترحيل الغجر من أماكنهم في الدول المجاورة لألمانيا (هولندا، ولتوانيا، وإستونيا...) أو الواقعة تحت نفوذها (رومانيا، والمجر، وكرواتيا...) إلى معسكرات الموت البطيء أو الفوري، تراجَع الوجود الغجري في العديد من الدول الأوروبية بشكل متسارع، كاد أن يهدّد استمرار هذا الوجود في دول مثل رومانيا وصربيا وكرواتيا وغيرها.

وقاد ذلك إلى مأساة الغجر الثانية التي تتمثّل في تجاهُل مسألة إبادتهم في معسكرات الموت مقابل التركيز الكبير على اليهود، حتى أصبح الهولوكست يكاد يقتصر عليهم، ولذلك لم ينَل الغجر ما ناله اليهود من اهتمام وتعويضات بعد الحرب العالمية الثانية. ولكنْ بدأ الاهتمام يزايد في الربع الأخير للقرن العشرين، خاصة مع تأسيس ونشاط “الاتحاد الدولي للغجر” (الروما؛ الاسم القومي لهم، IRU)، الذي اعتمد في مؤتمره الرابع (عُقد في مدينة سيروك ببولندا عام 1990) الثامن من نيسان/ إبريل من كلّ عام يوماً عالمياً للغجر؛ من أجل “الاحتفاء بالثقافة الغجرية وزيادة الوعي بالمشاكل التي تُواجه الغجر في المجتمعات التي يعيشون فيها”.

وأصبح الأمر الآن يتركّز على المزيد من الأبحاث عن مأساة الغجر الأولى، أي تعرّضهم للإبادة في معسكرات الموت خلال الفترة الممتدّة بين 1937 - 1945، حيث تصل أرقام الضحايا إلى 500 ألف، وإلى 800 ألف عند بعض الباحثين، نظراً لأن بعضهم كان يُحسب لاعتبارات معيّنة في خانة جنسيات أُخرى. وقد اهتمّ بهذا الأمر بشكلٍ خاص الباحث الأميركي، من أصل غجري، يان هانكوك (Ian Hancock)، الذي أعاد الاعتبار لحصّة الغجر في الهولوكست في كتابه الذي صدر عام 2010 بعنوان “خطر! الغجر المتعلّمون: مقالات مختارة”. ويبدو أنّ أرقام ضحايا الغجر قد تضاعفت عدّة مرات، كما هو الأمر في “دولة كرواتيا المستقلة” (1941 - 1945) التي كانت تحت النفوذ النازي، حيث إن التقديرات السابقة كانت تؤشّر إلى حوالي 30 ألف ضحية فقط، بينما هناك مؤشّرات على أنّ الرقم هو ثلاثة أضعاف ذلك، حتى كادت كرواتيا تخلو من الغجر.

“ظلال” تذكّر العالَم بمأساة الغجر

جاءت مسرحية “الظلال” للمؤلّف والمخرج الغجري الكوسوفي كالتريم بالاي بأكثر من جديد؛ أولاً: في اختيار المكان وإشراك الجمهور في العرض المسرحي. فمع أن المسرح الغجري في بريزرن يحرص في هذه المناسبة كلّ عام على تقديم مسرحية بمشاركة ممثّلين غجر وباللغة الغجرية في مسرح المدينة، إلّا أنه اختار هذه المرّة أن يعرضها في “المتحف الأركيولوجي” الذي كان في الأصل حمّاماً من العهد العثماني، مع جهود كبيرة لتحويله إلى مكان مناسب لعرض المسرحية الجديدة. ونظراً لضِيق المساحة ومحدودية المقاعد فقد امتدّ العرض الأول لعّدة ليال.

ومِن ناحية أُخرى، سعى المخرج إلى إشراك الحاضرين لمعايشة المسرحية بوسيلة أخرى، إذ أوقف على المدخل جندياً بالزيّ النازيّ ليُوقف كلّ مَن يدخل ويعطيه “تذكرة هوية” تتضمّن رقماً فقط، لكي يعايش معاناة الغجر في معسكرات الاعتقال أو الموت البطيء، حيث تختزل شخصية الإنسان إلى مجرد رقم.

في مثل هذا الأجواء التي تُشعر المُتلقّي بالرهبة، تتتابع مَشاهد معاناة الغجر في تلك المعسكرات التي أُريدَ منها، كما يقول المُخرج أنها لا تقتصر على استعراض ما حلّ بالغجر، بل لكي تُوصل رسالة إلى العالَم بأن لا يتكرّر هذا مع الغجر أو غيرهم، وأن تكون هذه مناسبة (أي اليوم العالمي للغجر) لإلقاء الضوء على تهميشهم في المجتمعات التي يعيشون فيها. ويشمل ذلك بالطبع كوسوفو التي استوطنها الغجر منذ عدّة قرون. ومع أن الغجر لهم الآن العديد من الأحزاب السياسية، ومنها “الحزب التقدمي الغجري” الذي فاز بالمقاعد المخصّصة للغجر في البرلمان الكوسوفي (120 مقعداً)، إلا أن الشكوى لا تزال مستمرّة من التهميش الذي يتعرّض له هذا الشعب في مجال التعليم والعمل، وهو ما يجب ألّا يقتصر تذكُّره على “اليوم العالمي للغجر” فقط.

ـــــــــــــــــــــــ

“العربي الجديد” – 13 نيسان 2023

عرض مقالات: