اخر الاخبار

تضعنا المجموعة الشعرية الموسومة بـ(تجلّيات ليليت والملك) للشاعر موسى أحمد الصادرة عن (منشورات اتحاد الأدباء، بغداد، 2022) ازاء تجربة تنطوي على توظيف إجناسي واستحضار رؤى تعبيرية متعددة من خلال المزاوجة بين النسق الدرامي والنسق الشعري وفق صياغة جمالية ارتكزت على أسطرة البنية الحوارية، وإعادة قراءة أو اكتشاف المتن الميثولوجي باتجاه التحليق في عوالم تتصارع فيها الثنائيات المتضادة (المرأة – الرجل) (الجسد – الروح) (الغياب- الحضور) (الحلم- الكابوس) (الانتظار – اللقاء) (الشعري – الدرامي)، (السكينة- التمرد)، فلقد استطاع الشاعر استلهام ثيمة ميثولوجية باستحضار شخصيّة (ليليت) التي يرد ذكرها في ملحمة كلكامش إذ ارتبط اسمها بالشهوانية والغواية وبرزت للمرّة الأولى في ملحمة كلكامش السومرية”. (المجموعة: 11).

انتقى الشاعر هذه الثيمة أو الرمز ليعيد صياغته على وفق نزعته باتّجاه مسرحة الفكرة واستثمار النسق الميثولوجي والشعري في تأسيس بؤرة تستحضر وتتمثّل وتصاغ بشعرية قائمة على استثمار وتوظيف البنية الحوارية، وهذه الصياغة على مستوى الاشتغال التعبيري اتاح للشاعر أنْ يقدّم معالجة معاصرة لثيمة اسطوريّة، واستطاع من خلال فاعليّة الأسطرة أن يخلق عالماً يكتظ بالحوار والصراع ومسرحة الفضاء للكشف عن الرؤى المتضادّة وتوظيف هذا الشكل الحواري لاستقصاء واستحضار كثير من المعاني والصور والمواقف التي يحتّمها الصراع والتناقض والتضاد بين الثنائيات، وجعل الشخصيّتين المركزيتيّن تعبّران عن هذا الجدل الرؤيوي، كما ان هذا الاشتغال نجد ميل الشاعر إلى تقنية الإسقاط وتوظيف الحواريّة باتّجاه محاكاة ذهنية لكثير من المضامين فهو لم يقتصر في التركيز على فكرة الغواية والجسد والعشق والانتظار بل سعى إلى استشراف كثير من الهموم الإنسانية والوجودية لاسيما أن ثنائية المرأة (جسدا وغواية وروحاً) تتناظر مع شخصيّة الملك (بكل أبعادها الواقعية والرمزية) وهذه الصياغة المعرفية للنص الحواري جعلته مكتنزاً ومتوافراً على العمق المعرفي والجمالي سواء بالشكل الحواري أو حيازة كثير من الصور والمضامين التي تشترك بها الرؤى الوجودية والإنسانية والميثولوجية.

وقد وظّف الشاعر البنية الحوارية كشكل تعبيري الأداء الفكرة بصيغة الصراع والتناقض والتضاد لاسيما أن الصياغة قامت أساساً على وجود الشخصيتين بكلّ أبعادهما الميثولوجية والواقعية والرمزية والوجودية لذا كان النص عميقاً وثريّاً من حيث النسق الدلالي والخوض في سيميائية المشاعر والتوّجهات وكينونة كل طرف وممّا فعّل هذه الصياغة – الحوارية أنّها تطابقت مع اشتراطات الصراع والجدل الذي يعدّ أهم شروط الحوار فالحوار هو الشكل اللّساني – والتعبيري المعبّر عن الشخصيّة وهو الوسيلة التي تكشف رغباتها وميولها وأفعالها وماضيها، وما تطمح أن تكونه فهو العلامة المنتجة لمعانٍ ومكنونات الشخصيّة واللّجوء إلى الحوار بوصفه نوعاً من المواجهة والكشف ووضع الثنائيات إزاء منحنى الصراع بغية انتاج الرؤى التي يفرزها هذا الاشتغال الذي يمزج الدرامي والشعري والذهني عبر التجسيد والتناظر الحواري.

ولقد انطوت أبنية الحوارية في هذه المجموعة التي يمكن أن توصف بأنّها قصيدة ممسرحة طويلة استثمرت الضدّية والمشاكسة والافتراق بكلّ معانيه لتعميق روح الجدل والبحث وتأثير الحقائق وتقديم رؤية انسانية لمجمل الصراع بين (الغياب والحضور) و (الأعلى والأسفل)، و(اللوغوس والآيروس) أو ما يعبّر عنه الفكر الفلفسي اليوناني بـ(الأبولوني) و (الديونيسي)، أو (العاطفة والعقل) أو (الجمالي والعادي) والجليل والجميل والجسدنة والبوح الاشراقي، ولقد سعى الشاعر إلى جعل الحوار وسيلة ليست لكشف أعماق الشخصيّتين بل لتقديم رؤية أكثر اتساعاً للأقتراب من أزمات وأماني وأحلام الإنسان ونجد الاستهلال يتضمن خطاباً عامًّا وليس فردياً:

“ليليت: أيتها الفتيات الجميلات

انخرطن في الزحام...

واعبرنَّ باقدامكنّ عتبات البيوت إلى خارجها، اصنعن أفقا للحب

افتحن قلوبكنّ للريح مثل السومريات، وانشدن اغاني الأرض واغسلن/ الأجساد بماء الفرات”. (المجموعة: 11).

لعلّ بنية الحوار في هذا الاستهلال تقدّم ثيمة مهمّة فهي دعوة إلى التطهّر والصفاء عبر الاغتسال، وطلب الوجود المزدحم بالجمال، ودعوة إلى صنع بهجة الاغتسال بماء الفرات ونلحظ في بنية الحوار تكثيف الصور المرتبطة بالمرأة والطبيعة والحب والحرية، وهو كشف عن مكنونات الإكتمال في شخصيّة (ليليت) ومحاولة لاستثمار النزعة المؤسطرة التي تنطلق إلى أبعد مديات الخيال الجامح لتحقيق واقع يرفض قيود الأرض الموروثة، وهذا الإشراق في مبثوثات الحوار الإستهلالي يكشف عن تمرّد (ليليت) وعشقها للحرية والحلم وجمال الطبيعة مما غرس بؤرة درامية لأنها ضمناً تدين واقعاً لا يتناغم مع هذه الإشراقات، وهي تعلن للملك تلك الرغبات الموشّاة بالتحليق والابتعاد عن قلق الواقع، إنَّها امرأة مؤسطرة تبحث عبر حوارها عن البياض والأسرار:

“أدرك أني أملك الغابة والبياض

أعرف أسرار الخلق، لكنّي اشاطرك الوحشة والوحدة وأعجن بطين الخلق شهوتك النديّة”. (المجموعة: 13). ولعل من خصائص الحوارية التي أقام الشاعر البناء الفنيّ عليها اتسمّت بالديالوج وترسيخ الثنائية الضديّة باعتبار الشخصيّتين ليس فقط عالمين متناقضين بفعل البعد الفيزيقي، وإنّما نجد أنّ كل شخصيّة تسبح في عالمها لكنّها تشعر بالحاجة إلى الاكتمال من خلال التناغم بينهما، وجمع المتناقضات والرؤى وصولاً إلى لحظة تومض بالتوّهج والأسطرة.

استثمر الشاعر بتمكّن من توظيف خصائص الحوار ومدياته في خلق بنية تعكس التقابل الدرامي، وأن اتخذ الصراع بعداً افقياً لكنّه عكس البوح بأنّ عمودية الجدل تسعى لترسخ ثيمة الاكتمال، أي أن النزعة الصراعية بين الشخصيّتين ليست نزعة باتجاه الإزاحة بل باتّجاه الإنتهاء المطلق الذي يجمع المسرّات والرؤى المتعالية بينهما، وهذه الصياغة انتجتها تقنيّة استثمار الحوار وتحويله إلى نسق لصنع الرؤى ومساحات التناغم ومن ثمّ أصبح

الأفق الشعوري والدلالي عند الشخصيّتين ينطوي على إدانة الواقع وترسّباته باتجاه الإنفتاح على عالم آخر بديل، يعكس حجم التوق بينهما، بوصفهما ذاتاً واحدة تسعى لإيجاد التوازن الوجداني والذهني بينهما. ونجد أن نزعة التحريض تتملك روح الشخصيّتين.

ونجد بين تضاعيف بنية الحوار كثيراً من المحمول الذهني والإشاري والوجداني وبعض الرؤى الصوفيّة في احتقار كلّما هو أرضي من قيود وجفاف وجدب والسعي إلى النضارة والموسيقى والحرية.

وقد تعمّق الجانب الجمالي في التحليق الذي صيغ به الحوار عبر تراكم وتصاعد الصور الشعرية واللّغة الإشراقية التي تقترب من شعرية التصوّف مع تأطير – ضمني غير ظاهر – لوجود البعد الحكائي في بنية الحوار من خلال وجود التراتب السببي والتتابعي لمشهديّة الوصف والحوار التأمّل والاستذكار والإستباق، هذه التقنيات والوسائل اسهمت في تعميق المنحى الدلالي لبنية الحوار الذي تحوّل إلى نص مكتمل يعكس روح الشخصيّات وتحليقها للإنغلاق والتوق بحثاً عن الذات والآخر ومعادلة الذات والآخر يتخذ من الحوار مساحة لتفعيل تجلياته الدالّة.

إنَّ نمط الصراع في هذه النصوص يتمركز حول تقنية الايحاء والبعد (السايكولوجي) وتجسيد لحظات الإنطلاق والتعالي والبحث عن نقاط التنوير الروحي والجسدي وفي هذا الائتلاف الحواري تتحول الذات باتجاه التوق إلى الآخر مثلما يسعى الآخر إلى تعميق هذا الشعور ويتحول الصراع من بعده السايكولوجي والقيمي إلى صراع تسعى فيه الذات وبالتضافر والتآصر لتحقيق حلم تجاوزي يستقصي كلّ فصائل الوجود المؤسطر، فكلاهما يحارب العزلة والحرب والجدب بوصفها سمات الجحيم الأرضي.

عرض مقالات: