الهوية لوحة من القيم الثقافية، ترتبط قدرتها على النفاذ إلى الأرواح بدرجة تناغمها وانسجامها ورقيها، حتى لتبدو ساحرا عجيبا قادرا على الاستحواذ على الجماعات. ومن جهة أخرى قد يجد فيها متأمّل شكلا من أشكال الاستعباد للأفراد والجماعات وإن كان طوعيا. وقد تكون أحيانا محرقة للمنتمين إليها بصدق، فيدفعهم انتماؤهم إلى التضحية من أجلها. ولكنها على أيّ حال قدر الإنسان ليقي نفسه من الضياع واللانتماء واللامعنى. ومثلما للجماعات وللشعوب هويات ثقافية، فللدول هويات ثقافية، أيضا. وأجدها محظوظة تلك الدول التي لها هوية ثقافية واضحة متناغمة القيم منسجمة. وأجدهم محظوظين أولئك الأفراد الذين يجدون ذواتهم الفردية وقد انسجمت مع الهوية الثقافية للدولة انسجاما طبيعيا غير مفروض عليهم. كانت التحديات التي واجهت الهوية الثقافية للدولة العراقية كبيرة ومتنوعة، ولكنها الآن ومنذ الاحتلال الأمريكي في 2003 أشد وأقسى. وبعض تحدياتها خارجية مصدرها أطماع دول عالمية وإقليمية، غايتها تحقيق السطوة وتوسيع النفوذ والسيطرة على بلد غني كالعراق، ثرواته فوق الأرض وتحتها، وبعض ثروته في موقعه الجغرافي المهم. وكل غايات تلك الدول وأطماعها تصطدم بفكرة الممانعة التي تبديها الدولة والمجتمع. وفكرة الممناعة هذه ترتبط مباشرة بمسألة الهوية والالتفاف حولها والاعتزاز بها. لذا من يسعى إلى السيطرة على ثروة بلد ومقدراته سيكون مضطرا أو مختارا؛ ساعيا إلى تهشيم فكرة الهوية الثقافية للدولة، كي تسهل السيطرة ويسهل الالتهام. فهي هنا لم تعد دولة بالمعنى البنيوي المتماسك، بل ستغدو تجميعا مرتجلا وعشوائيا من القيم والرؤى والتوجهات. وإخضاعها وهي في هذا الحال أسهل، والاستمرار في السيطرة عليها سهل، أيضا. لأن الهوية الثقافية للدولة ترتبط بفكرة الوطنية نفسها. فالدولة التي لا تنتمي إليها ثقافيا لعدم قناعتك بهويتها الثقافية لا تجد مسوّغا يدعوك إلى حبّها، وقد لا تدافع عنها طواعية وبإخلاص. فبعد عام 2003 صار العراق ساحة مفتوحة لتجاذب الأقطاب الطامعة في العراق أو المنطقة، وأثر هذا في مجمل مسارات الحياة ومعاني الوجود للإنسان العراقي والدولة العراقية. وصار واضحا أن تلك القوى الطامعة يهمّها كثيرا أن لا تكون للدولة العراقية هوية ثقافية تدعو ضمنا إلى الممانعة وتشيد للعراقيين صرحا من القوة. وللتحدي الخارجي وجه آخر كوني، غير الاحتلال وأطماع الطامعين، وأعني به طبيعة المرحلة الثقافية العالمية وانفتاحها الثقافي، حتى صار هذا النظام الجديد يسخر من حدود الدول وخصوصية هويتها، من خلال وسائل الاتصال الحديث والفضاء المفتوح، وصارت البلاد والعباد في مرمى نيران النظام العولمي الجديد. وهذا عنصر آخر يفعل فعله في مجمل مسألة الهويات، ومنها الهوية الثقافية للدولة. وثمّة تحدٍ داخلي يواجه الهوية الثقافية للدولة العراقية، ومنبعه طبيعة التكوين الاجتماعي والثقافي المتنوّع في العراق. ففي العراق تنوّع في الانتماء الاثني على مستوى القومية والدين والطائفة. ومثل هذا التحدي قادر على أن يفعل فعله في مسألة الهوية. فحين تتسع هيمنة الهويات الثقافية الفرعية تضيق مساحة الهوية الثقافية للدولة الجامعة للأطياف. نحن نتحدث، إذن، عن تحديات متعددة المنابع تواجه الهوية الثقافية للدولة العراقية. ومن هنا تتضح الحاجة والضرورة إلى إيجاد ضوابط تؤسس لفكرة هوية الدولة لتكون تلك الهوية مظلة للتنوّع من غير انفلات وتبعثر فتضمن الحراك الثقافي المجتمعي، فلا تطغى هوية ثقافية فرعية على الهوية الثقافية للدولة ولا تتقاطع معها. وتكون الضوابط ضامنة للدولة كي لا تضيع في مهب رياح العولمة فتبقى ثقافتها قائمة وشخصيتها واضحة، ويكون ضامنا لمقاومة الدولة للتجاذبات السياسية والإقليمية والدولية، من حيث هي وجود ثقافي متماسك وشخصية قادرة على الممانعة والصمود. الهوية الثقافية للدولة ليست ترفا، فهي ضرورة تقتضيها الحياة والعصر الراهن، ومن خلالها تواجه الدولة التحديات الخارجية والداخلية، فضلا عن طبيعة الخدمات التي تقدّمها للمواطنين وترتبط بتلك الهوية. ولكن، من يؤسّس الهوية الثقافية للدولة؟ وكيف تُضمن تلك الهوية؟ ببساطة شديدة، الذي يؤسس الهوية الثقافية للدولة هو عقد يُؤمن به المجتمع ((دستور))، واضح متماسك، وليس تجميعا لإرادات سياسية متقاطعة، كل يضع فيه أحلامه ورغباته ومصالحه، حتى ليبدو غير منسجم في نصوصه وغير واضح في اتجاه مساره. فالعشوائية لا تنتج هوية متماسكة لها معنى. دستور يبيّن بوضوح ملامح الهوية الثقافية للدولة، ويجيب دون مواربة عن أسئلة تبدأ بـ : هل هي دولة دينية أم دولة مدنية ؟. وهل هي دولة ذات رؤية ثقافية وطنية واحدة أم هي تجميع لرؤى متنوعة؟ هل هي دولة من أجل الماضي، أم دولة عصرية وبوعي تنويري؟ إنّ الذي يؤسس للهوية الثقافية للدولة الحقّة ((دستور ثقافي)) نابع من صميم الحراك الثقافي الاجتماعي، ومعبّر تعبيرا حقيقيا عن روح المجتمع وقواه الحية وليس مفروضا عليه. فالتلفيق لا يؤدي إلّا إلى نصوص متناقضة يسخر بعضها من بعض، ويخرّب بعضها بعضا.
والأمر الآخر لتحقيق هوية الدولة وجود مؤسسات مجتمع مدني حقيقي تؤازر فكرة هوية الدولة وتعمل على تحقيقها. ولمَ لا تؤازر تلك المؤسسات إذا كانت طبيعة الهوية قد نبعت أساسا من خلال إرادتها؟!. وما أقصده بالمؤسسات هنا؛ أحزاب وطنية نابعة من واقع المجتمع وليست مصنوعة في الخارج ومصدّرة إليه، ومن نقابات مهنية حقيقية، ومن بنى اجتماعية أصيلة في المجتمع ، ومن منتديات وجمعيات مجتمعية ثقافية، ومن كبار التنويرين من الكتاب والأدباء والفنانين الذين يتحسسون روح المجتمع... فالهوية صناعة يمكن التدخّل فيها وترقيتها، وفرز النافع من الضار منها. فثمّة هويات متخيّلة وهمية ينبغي أن يسقطها الوعي المعرفي، وثمّة هويات مصنوعة لأغراض لا تنفع المجتمع ولا ترتقي بالدولة، صنعتها قوى وأطراف لها مصلحة غير مصلحة الدولة والمجتمع. لا يكفي أن يكون عقد ((دستور)) يحدد الهوية الثقافية للدولة، فالثقافة فيها مساحات من المرونة والحراك بحاجة دائمة إلى الترسيخ والمراقبة والتدخّل في كيفية التنفيذ على أرض الواقع، وهذا يستلزم وجود جهاز ثقافي مؤسسي مستقل كأن يكون بدرجة هيأة، مهمته مراقبة اتجاه الهوية الثقافية للدولة وتقديم ((قراراته)) للحكومة، ولا أقول استشاراته. جهاز لا يحكمه سوى مبادئ الدستور نفسه. سلطته مستقلة كالسلطة القضائية، وعمله مختص بـ ((الدستور الثقافي)). وهو في عمله يستند إلى محدّدات معيّنة في مراقبة الهوية الثقافية للدولة. منها الإيمان بوحده العراق، وما يترتب على ذلك من العمل على ترميم المهدّم من هوية الدولة العراقية، وترسيخها. ومنها مراقبة انتماء الهوية الثقافية للدولة لعصرها الكوني الذي هي فيه، فلا ثقافة لدولة تعيش في الماضي وتحيط نفسها بأسيجة عالية من السرديات الحقيقية أو المتخيلة، فهذه مصيرها الانقطاع والموت الثقافي، مهما عاندت أو خدعت نفسها. ومن مبادئه الايمان بالعلم وبمنطلقاته واعتراض التوجّهات الثقافية ذات البعد المنافي لروح العلم ومنجزاته التي قدّمها للإنسان وارتقى بها. ومن مبادئه احترام الإرث الحضاري للأمة، ومن مبادئه احترام المعتقدات الشخصية للأفراد، وفصلها عن الهوية الثقافية للدولة فهذه مشترك للجميع وتلك مسألة تخص الأفراد.