اخر الاخبار

كنتُ شاهدة على ولادة أولهم، أو من نعتقد أنه الأول على الأقل؛ كنتُ حينها لا أزال طالبة في قسم القبالة في المعهد، وسأحتفل بعيد ميلادي التاسع عشر بعد شهرين لا غير، وقد بدأنا التدريب في صالة الولادة في مستشفى بغداد التعليمي. كنتُ من أوائل من حملوا “الرأس الأول”، لم نعتقد بأننا نحضر حدثاً استثنائياً فكثير من الأولاد يولدون بلا شعر، لم يكن في الأمر ما قد يثير القلق، لكن لا بد أن يبدأ القلق يساورك بعد أن يكمل الأطفال سنتهم الأولى دون أن تنبت شعرة واحدة في رؤوسهم، خلال الخمس سنوات الأولى لم تكن الحالات على طول البلد وعرضها تتجاوز الثلاثين حالة، إلا أن الأمر تغير بالتدريج. أما الآن وبعد مضي ستون سنة على ذلك اليوم، فلن تجد عشرة أطفال يولدون بشعر على طول البلاد وعرضها، وحتى هؤلاء يسقط ما في رؤوسهم قبل إكمال العاشرة من العمر!

كان لذلك مقدمات بالطبع، فقد عانى أبناء البلد على طول القرن الماضي من تساقط رهيب في الشعر، لم تكن لتجد بين الرجال من لا يزال يحتفظ بشيء من شعر رأسه وهو على مشارف الأربعين، وما كانت النساء أحسن حالاً منهم، فقد أعتدن أن يصرفن رواتبهن كاملة على جلسات تقوية الشعر والخصلات المموهة، وحتى الشعر المستعار. أما الأطباء فقد كان جوابهم موحدًا؛ القلق والضغط النفسي! ليس سوى الحروب المتكررة والإجهاد النفسي الذي يتعرض له الناس.

 كان الناس يصرفون المليارات على مستحضرات الشعر، أما الآن، فتلك بضاعة كاسدة لا يشتريها أحد، توقف استيراد تلك المواد، وصار من الأسهل على من لم يفقد كلّ شعره بعد أن يحلق رأسه، حتى النساء أسقط عنهن اليوم فرض الحجاب، ما دمن يحلقن ما تبقى من شعر في رؤوسهن، وقد صدرت بذلك فتوى دينية عندما كنتُ في الثلاثين من عمري، أتذكر أن صديقاتي ابتهجن بهجة لا مثيل لها عند سماع ذلك، ثم صار الأمر لزاماً بعدها بسنوات قليلة. أما أنا ولسبب لعين ما، فقد أخترت المشي في الطريق المعاكس، كان رفضي مدهشًا لي قبل أن يُدهش غيري إذ لطالما كنتُ مسالمة، رغم عنادي المعروف عني. فزعت من التفكير بقص شعري ورفضت الانصياع للأمر، قلتُ سأحتفظ بشعري، وهكذا فتحت لنفسي أبواب جهنم!

تلك الظهيرة -في صالة الولادة- كان شعري قصيراً، لطالما كنتُ أقص شعري مثل الصبيان بطلب من أمي، وقد كانت تتطير مخافة أن أصاب بالحسد، حتى أنّها أرادات لي أن أرتدي الحجاب ورفضت، لكنني قبلت بالاستمرار بتقصير شعري. لم تصل عدوى الصلع إليّ، فشعري قوي وينمو بسرعة، لا تكاد تسقط منه شعرة إلا نادراً - ينمو شعري بجنون، ويتساقط شعر الناس بجنون أيضاً- حينَ تلقفت الطفل الأصلع وحملته بين يدي للممرضة التي قامت بتنظيفه، راودني شعور بأنه غريب، ذلك أن نظرته في وجهي وهو يخرج من رحم أمه غاضباً أخافتني، حتى بدا لي أن الطفل تغافل عن كل من في الصالة مركزاً ناظره عليّ، نظر إلى شعري بالذات، مُحدقاً فيه بغضب، للحظة في تلك القاعة شعرتُ بأنني مجرمة وأن هذا الطفل الغريب الذي لم يشح بناظره عن شعري يرمقني شزراً حتى بعد تركي له، صارخاً بغضب، لقد حاكمني هذا الطفل أول من حاكمني من قبل أن يغتسل من رفث الولادة!

عادت به أمه بعد سنة؛ وقد صارت نظراته أكثر حدة، حدق في شعري مطولاً، مد يده ليلمسه، أو ربما ليقتلعه من جذوره بنفسه! كنتُ بجوار الطبيبة في غرفة الفحص، أشفقت على أمه المسكينة التي ظلت تبكي على مدى تواجدها معنا، همست للطبيبة أنها خائفة منه، من نظرته الغاضبة لها طوال الوقت، ومن تبكيره بالكلام، من رأسه الملتمع بطريقة مؤذية للعين! أرادت علاجاً لإنبات شعر الولد، فشرحت لها الطبيبة أنها لا تستطيع وصف شيء كهذا لطفل بهذا العمر، وما دام الولد بصحة ممتازة، فليس هناك داعٍ للقلق. وصفت لها مضادات الاكتئاب، وبعد أن خرجت الأم التفت إليّ الطبيبة ساخرة منها؛ قالت إنها تعاني من حالة كلاسيكية من اكتئاب ما بعد الولادة، وأن حالات الصلع الولادي -على قلتها- موجودة. أما أنا فقد شاركت الأم قلقها، ومن يومها لمْ أعد لقص شعري أبداً، لم يكن مهمًا ما يقوله الناس، لم يكن مهمًا ما تقوله الدولة، لم يكن ثمة شيء ليُقنعني بحلاقة شعري.

في الأربعين من عمري أُجبرتُ على التقاعد، لأنني رفضت حلق شعري، مخالفة القانون الجديد، وأتُهمت بالتمييز العنصري ضد ذوي الرؤوس البيضاء -كما صاروا يسمون- جاء في وصف جريمتي في سجل المحكمة أنني بالإضافة لخرقي قوانين الدولة، أفتقر للتعاطف الذي يجعلني أتضامن معهم بالتخلي عن هذهِ القذارة التي تُدعى بالشعر، وكيف أني لا أقدر ما عانوه على مدى التاريخ من اضطهاد، وكيف أن الشعر والاحتفاظ به وصرف المبالغ الطائلة للحفاظ عليه لا يخدم سوى المصالح الرأسمالية التي تحول الأفراد إلى مستهلكين مجانين، فيبددو الثروات على منتجات لا تغني ولا تشبع، يمكن أن تفيد الفقراء، وبالتالي فأن استمراري بالحفاظ على شعري الذي لا يرضى أن يسقط مخالفًا لأبناء جنسي وأبناء بلدي بالذات، هو أمر لا أخلاقي، وهو في ذات الوقت تهديد للسلم الأهلي، وتفكيك لبنية المجتمع، ورغم شرحي لهم أنني لا أغسل شعري سوى بالماء ولا أبدد الثروات كما يقول وكيف أنني أكره الرأسمالية والاستهلاك مثلهم تماماً، حتى أنني أرتدي الحذاء ذاته منذ سنتين، إلا أنني لم أفلح في إقناعهم، واتهمني أحدهم بالتبذير في استخدام الماء، والبلد في أزمة جفاف، وهكذا أحلت على التقاعد المبكر، بعد دفعي غرامة كبيرة.

 تم استدعائي بعد خمس سنوات من ذلك، وأخبرت أن هناك من رفع دعوى ضدي، وأن القاضي قرر أنني أمام خيارين: اما أن أحلقَ شعري أو أن أغطيه بشكل تام، لأنه يثير انزعاج الأهالي، أريته وصل الغرامة التي دفعتها قبل خمس سنوات لأجل الاحتفاظ بشعري، فقرر أن ذلك ليس كافياً. هكذا صرتُ أغطي شعري، ولا أخرج إلا في أوقات متباعدة، كنتُ قد فقدت أبنتي وزوجي في حادث سيارة قبل فترة المحاكمة بقليل، فترفق القاضي بي في قراره، فقد أخبرتُ عن عقوبات أقسى من تلك. ثم جاء قاض آخر ورفعت قضيتي للمحاكمة من جديد، حتى أن وجهي وبضعة أشخاص مثلي عرض على التلفاز لفترات طويلة، وكانت البرامج تستقبل على الهواء مباشرة الشتائم بحقي. حين رآني القاضي سألني سؤالاً واحدًا فقط:

- هل ستحلقين شعركِ؟

- لا

أجبته بهدوء، فأصدر على الفور وبلا تردد قراره، قطع راتبي التقاعدي وحجزي في المنزل حجزًا إجباريًا لحين وفاتي، وتعيين شرطية مرافقة لي للحرص على عدم تركي المنزل لأي سبب كان، إلا أنه كان طيباً بما فيه الكفاية لتوفير وجبات الطعام لي. حاولت الطعن في القرار فلم أجد محاميًا يدافع عني، كلهم قالوا إنني محظوظة لأنني حبست في بيتي، لا في زنزانة.

هم على حق ربما، فالحبس في المنزل أفضل من البيوت البيضاء -دوائر الأمن- يتم ترحيلي لليلة واحدة كلّ شهر، أخرج من بيتي برفقة شرطيتي في الليل ليتم التحقيق معي، وهو تحقيق من سؤال واحد “لم لا تحلقين شعركِ؟!” يتم أخذ عينات من دمي وشعري -لا أدري ما يصنعوه بها-. البيوت البيضاء مرعبة للغاية، مغلفة من الداخل والخارج باللون الأبيض، بياض غريب وناصع يؤذي العين، كل شيء أبيض، الجدران، السقوف، الأرضيات، الكراسي، ملابس العاملين، ونظاراتهم المصححة للألوان التي يرتدونها لكيلا يصابو بالعمى من شدة البياض.

 رضي الجميع بالقرارات، لم يبق سواي أنا وعدد من النسوة العجائز -أصادفهن أحيانًا في جولات التحقيق- لا زال الموت عصي علينا، ولا نزال في عصياننا للدولة، نرفض حلق رؤوسنا، ونعيش في الحجز الإجباري في منازلنا، لئلا نفزع الصغار بمظهرنا الحيواني القبيح! هم يزعمون أن تطور الإنسان بدأ حين فقد شعر جسمه، وها هو يتطور مجدداً ليفقد شعر رأسه كذلك؛ ومن أنا كي أعارضهم، لكنني لا أستطيع، مهما حاولت أن أكون واحدة منهم، واحدة من “الرؤوس البيضاء” -كما يسمون أنفسهم- كلما فاضت بي الضغوط وحاولت الإصغاء للدولة ولعائلتي، ولوالدتي، لزوجي، لابنتي التي عاشت أياماً عصيبة بسبب تنمر الزملاء عليها، مهما حاولت أن أفعلها وأحلق شعري أرتد في اللحظة الأخيرة.

منذَ خمسة عشر سنة وأنا أعيشُ في الحبس الإجباري في بيتي، لا يحق لي أن أخرج إلى باب الدار، ممنوع عليّ فتح التلفاز، ممنوع استخدام الأنترنت. أقضي اليوم في صنع جدائل رفيعة من شعري، حتى آخر خصلة، أعمل ببطء ولا أنتهي من ذلك حتى ينتهي اليوم، ثم أعود في اليوم التالي لفك الجدائل الصغيرة، وأبدأ بإعادة جدلها من جديد، وهكذا حتى ينتهي النهار.. كانت هناك كتب، ثم حرمت منها، لا أستطيع القول إنني أفتقدها، إذ لم أكن يومًا قارئة مثالية. الشرطية التي تقوم بواجب مراقبتي طوال الوقت تسلمني وجباتي في ثلاثة أوقات، وجبات صغيرة لا تُشبع، باردة لا طعم لها ولا لون. وكسوة شتوية وأخرى صيفية من ملابس مستعملة كل ذلكَ بالمجان، بعد أن قرر القاضي قطع راتبي التقاعدي، وأنا لا أفهم لم ينشغل القضاة بشعري أكثر من انشغالهم بأمور البلد.

 ليس عندي اليوم أي دراية بما يحدث في العالم، لكنني لا أشك أنه غدا أكثر بؤساً، لم تعد تسمع ضوضاء الناس وحركتهم في الشوارع، ما من صوت للموسيقى، انقطعت أصوات الموسيقى منذ زمن طويل، وإذا ما توقفت الموسيقى في بلد توقفت الحياة فيه. حتى الصغار نسوا أمري، بعد أن اعتادوا على التلصص على النوافذ لرؤية الساحرة الشريرة -واحد من ألقابي الكثيرة- أما الشرطية التي لم يتم استبدالها لخمسة عشر سنة قضتها معي، وبالرغم من صغر سنها كانت تبدو سنة بعد سنة أكثر تعباً مني، تجلس برأسها الحليق الذي بهت لمعانه على عتبة الباب تحدق بخواء، فيما أصفرُ أنا بأغان قديمة من الأيام الخوالي، أضفر شعري وأفك الضفائر مرة تلو الأخرى، دونما ملل.

ـــــــــــــــــ

*أستاذة العلوم الأساسية لدى معهد الصحة العالي- بغداد.

عرض مقالات: