اخر الاخبار

يتقصى الباحث الموسوعي ناجح المعموري في كتابه (سحريات الطقوس والأساطير) 2022 شفرات الشاعر عبد الزهرة زكي في (كتاب اليوم … كتاب الساحر) عن دار الزاهرة للنشر والتوزيع 2001 وكأني به يعتمد البيان وسحره منهجاً في طرح ما في مخيلته من أفكار تضمنتها قصائده ومن تلك الشفرات التي تناولها الباحث (الخبز، طقوس البدئية، التفاح، السحر، الحكمة …) وشفرات أُخَر.

ينفرد الباحث المعموري بأسطرة نص (هذا خبز) والملاحظ في اسم الإشارة (هذا) الذي يستخدم للقريب، ولكنه السهل الممتنع، حاضر في الحقيقة، غائب عن واقع الجياع الذين أنشد لهم الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري قصيدته الحاضرة أبداً (ترنيمة الجياع) فما الذي وجده الباحث المعموري في (هذا خبز) ليتناولها بهذه السعة، عبر رؤى تشحذ بانثيالاتها نباهة المتلقي؟ وما الذي وجده في نص (هذا خبز)؟

لقد شخص المعموري في (هذا خبز)“نوعاً من المهارة والخبرة السردية، والسعي من أجل التجاوز بين عناصر” هذا خبز” وسرديات الجوع والحصار“. ص٩

ويسترسل المعموري لبيان ما للخبز من صلة بالحضارة الإنسانية، وما يبذله الجياع لتأمين تلك الصلة التي تشكل عتبة مهمة للتوغل في متاهة البحث عن (الخبز) حيث يرى فيه” علامة صريحة لما هو مفتقد في حياتنا، لكنه ينطوي على شعيرات مقدسة ذات طابع ديني“بدائي” لأن الخبز مرحلة من أهم مراحل الحضارة الإنسانية … والإنسان مستمر ببذله كل شيء من أجل حياته، معززاً في الوقت ذاته صلته بالخبز“. ص٢٣

    ويتابع المعموري مسيرة، رغيف الخبز في ما للشعوب من طقوس تعتمد (الخبز) مساراً للبحث عمّا يحمله من رموز يسعى الباحث إلى تفكيكها من خلال متابعة الدراسات بنوعها الحديثة والقديمة فيتناول“الخبز علامة ورمزاً -وقد -أخذ شكله وطبيعته من تطور المعتقدات والديانات وأسقطت هذه عليه تجليات، واتسعت هيمنته وصارت حياة كاملة“. ص٢٣

يسعى الباحث لتامين شمولية البحث إلى إشراك كل ذي صلة بالخبز وأصله المتمثل بالقمح، فالخبز غدا هدفاً واملاً يترقب الكثيرون أوانه فيستدعي“الأم الكبرى في التاريخ، هي التي اكتشفت القمح/ الخبز … رمز الخضر …الذي كان الخبز وليد خضرته وهو إله الخصب والانبعاث، الذي مات في الديانات، لكنه استعاد حياته مرة أخرى ونحن بانتظار انبعاثه في النص الشعري، وهذا ما أراد النص قوله، وانتظارنا لانبعاثه مرة أخرى… ما هو إلاّ ترقب للغذاء الذي هو أحد الآمال بالنسبة للعراقيين“. ص٢٤

لم يغفل الشاعر عبد الزهرة زكي ولا الباحث ناجح المعموري ما للحصار من دور في افتقاد الخبز، زاد العراقيين المتطلعين إليه رغبة وحلماً يسعون إليه“وهو ما توصل إليه الشاعر ليقول“هذا خبز” مؤكداً رؤيته، لابل العثور عليه بعد جوع طويل ليعلن من خلاله عن وجود الخبز في عصر الإبادة الجماعية بواسطة حروب جديدة -ومنها -الحصار والموت الجمعي … عصر يموت فيه الإنسان من أجل الخبز، أو يحلم به، ويفاجأ بوقوفه أمامه فيصرخ“هذا خبز“. ص٢٤-٢٥

ثمة سؤال يطرح نفسه، كيف تعامل الشاعر عبد الزهرة زكي مع (الخبز) ورموزه التي تشظت في الذاكرة الجمعية للجياع من العراقيين؟ والإجابة عن هذا السؤال لدى الباحث المعموري الذي رأى” أن الشاعر عبد الزهرة زكي لم يلتقط الخبز مثلما كان رمزاً أو علامة شائعة، بل تعامل معه بروح جديدة ابتكرها وأوجد من خلالها نوعية متباينة من الرمز الخاص، لأن الشاعر يدرك رموزه اختياراً واعيا … والرمز يفرض نفسه كياناً حينما يستمد روحه من لا وعي الشاعر“. ص٢٥

وكدأبه المعروف عنه، يسعى المعموري إلى إضفاء أجواء أسطورية على الخبز لما له من أهمية في سيرورة الإنسان، وحرصه على الإمساك به عبر البحث عمّا تجذر من مرجعيات في ذاكرة الجياع، عبر“تناول موضوعة الخبز، وهي موضوعة أسطرها الواقع، واكتسبت صفات أسطورية، وتكونت منها هذه المتتالية، صارت لنا مثل الخبز وأهميته في حياتنا“. ص٢٦

ويدعو المعموري إلى اعتماد فرادة خاصة لما يكتبه الشاعر عبد الزهرة زكي لتمثل ما تعنيه تلك الإحالات التي يطرحها الشاعر لإشراك المتلقي في استبيانها وتقصّي مخرجاتها،“إن العديد من المرجعيات الجاثمة في لاوعي الشاعر، أسهمت بتشكيل روح النص وجسده … قدم العديد من الإحالات، انصهرت الأسطورة المبثوتة في النص … ذابت وتلاشت …لم يبق منها شيء معروف في تفاصيل النص، لكن القراءة الواعية تساعد على الإمساك بجذورها“. ص٢٦

ما الذي يسعى اليه الشاعر عبد الزهرة زكي في نصه (هذا خبز)؟ وما أسلوبه للإمساك بما يسعى إليه؟  هذا ما تبينه المعموري عبر تشخيص“ابتعاد الشاعر عن التعامل التقريري مع أساطير نصه. اختار رؤيته لبنية الأسطورة العامة كإطار للخصب والموت، وبعدها أوجد أسطورته، فكانت أسطورة الجوع/ الخبز”. ص٢٦

تبقى قدسية (الخبز) وما تبعث به من شفرات، وما لها من مهمات يسعى إلى النهوض بها باعتبارها“علامة حققت غرضاً فكرياً ووظيفة جعلت من المركز هامشاً. الخبز بهذا الاتساع الدلالي، تنامت قوته، وصارت له وظائف يومية وروحية مقدسة. ظلت قوة إشارة الخبز ضاغطة بتطور دلالاتها الفكرية والحضارية“. ص٢٧

وللباحث المعموري أسلوبه المتميز لإشباع مفردة (الخبز) عبر جولاته في الموروث التاريخي للعراقيين فيطرح ما سعت إليه“البغي المقدسة في ملحمة كلكشامش، التي قدمت الخبز لأنكيدو، اقترحت سبيلا للحوار يكون طرفه الأول والأخير الخبز بوصفه البنية العميقة التي يطوف حولها الإنسان، وكان الخبز وسيطاً بين مرحلتين في الملحمة: مرحلة التخلف، والحضارة، لأنه كان موجوداً آنذاك فقد ارتضى الرجل أن تكون المرأة هي الوسيط الفاعل بأمومته وأنوثته معاً، ليعلن عن سيادة المرأة وطغيان دورها الحياتي والحضاري“. ص٢٧

وللشاعر عبد الزهرة زكي رؤيته للمرأة والرجل بوصفهما طرفي معادلة عليه السعي لبيان دورهما، والإشارة إلى انحيازه إلى ما يراه فاعلاً أساسياً وطرح مبرراته في تلك الرؤية حيث“قلب المعادلة، لأنه لم يرتضِ بقاء موقف المرأة وتكرره في الملحمة وسيادة الأنوثة والأمومة، ومحاولة ردّ الاعتبار لشخصية الرجل معلناً عن هيبته، مؤكداً مجتمع الذكورة، وفاعلية دوره الحضاري، لكنه تناسى أن المرأة في النص كانت مستسلمة لخطابه الشعري ولأنها منتجة للخبز، أي منتجة معرفياً وحضارياً“. ص٢٨

ويسترسل الشاعر في استقصاء ما تعرض له الخبز من استهداف لإبعاده عن دوره الملحمي وفي هذا“إشارة إلى تردي الحضارة، بوصفها علامة على الدمار من خلال الحرب التي قادت إلى الحصار. كان الخبز هو المستهدف:

 هذا ليس بسحر. هذا خبز

 لست تذكرينه؟ فلتهجيه إذن، خاء، باء، زاي“. ص٢٨

ويتابع المعموري مسيرة (الخبز) وما يبعث به من رموز عبر مرجعياته الأسطورية، فضلاً عماله من إشارات حيث“شاد نص“هذا خبز“نفسه فوق أسطورته التي استولدها الواقع اليومي المتكرر.

هذا الكلام من فضة

وهذه الحنطة من ذهب

فلأستبدل كل الذهب بالفضة

خذي الكلام. واكسبي الحنطة

 يا من أهرقت أنوثتك في التنور“. ص٣٠

وبثقة عالية يضيف المعموري أسطورة الخبز إلى ما في الموروث من أساطير.“أسطورة اليومي/ الواقعي/ المألوف، والمعتاد عليه عبر تكرّره وليس عبر المرجع الغائر في التاريخ، أسطورة التضحية لواحدة من أهم العلاقات والعلامات الدالة على صلة الأم الكبرى مع الإله الشاب الذي كان في آن ابنها وزوجها معاً:

كوني أنت أنا

سأكون حينها أنا أنت“. ص٣٠

يواصل المعموري استثمار الموروث التاريخي ليحاكي به الواقع المعيش، واقع الحصار، وكأنه يستنسخ ذلك الموروث لما بين الاثنين من محنة ليس لها سوى رغيف الخبز المفتقد.

“هو الإله الشاب الذي باعت زوجته الحلقة الذهبية رمز الاقتران/ الاتصالي، لتشتري بثمنها الطحين، وحاول الشاعر الإفادة من إمكانات اللعب باللغة، لإحلال التبادلية بين السلطتين الذكورية والأنثوية“. ص٣٠

التاريخ بما له من سطوة في استعراض ما في موروثه الشعبي من حكايات استثمرها الشاعر عبد الزهرة زكي واستقصى أبعادها ومدلولاتها الباحث ناجح المعموري مشيرينِ إلى أن الأم الكبرى تحرص على أن يكون لها دورها، فــ“الأميرة هي تنويع آخر للأم الكبرى في التاريخ. وهو تنويع شعري العناصر، وصوت الملكة المتوّجة بموسم إنتاجها وفيض البركة لديها:

“لآخذ شفاعتي/ وأرمي بدرهمي الذي أحسد عليه الأميرة/ الذي أخطف من أجله الأميرة/ من أجله/ من أجلك/ يا موهومة/ يا نساءة/ يا جوعانة/ من أجل الخبز“. ص٣١

يحرص عبد الزهرة زكي على استحضار صفات من يتحدث عنهن من النساء، وكأنه في مواجهتهن، باستخدام يا النداء، غير أنه في موضع آخر يتحدث عنهن غائبات حين يسبغ تلك الصفات على الأم الكبرى، حيث يخلص المعموري إلى أنّ:“المرأة/ الأم الكبرى في النص امرأة اعتيادية، لكنها تأخذ صفات متناوبة ومتوازنة/ متجددة و مختلفة بعضها مع بعض فهي:  عانس/ أرملة/ مسكينة/ موهومة/ نساءَة/ جوعانة - ثم يلتفت الشاعر من الحديث عن غائبات إلى المخاطبة المباشرة - “يا جارة/ يا نبية/ يا عدوة/ يا ساهمة/ يا لاهية/ يا نائمة/ يا جارتي/ يا أخواتي/ يا خالاتي/ يا كسيرات/ يا متألمات/ يا رحيمات/ يا غريبات/ يا مظلومات.. تبقى هذه الصفات لازمة للمرأة عبر التاريخ الطويل منذ عتبة الأم الكبرى وحتى استشهاد الحسين“. ص٣٢

تظافرت على متابعة رغيف الخبز قمتان الأولى متمثلة بالشاعر المبدع بامتياز عبد الزهرة زكي وهو يحلّق بجناحي التواضع والعرفان في إهدائه المخطوط لا المطبوع“الاخ العزيز الأستاذ ناجح المعموري، لك على هذا الكتاب فضل الاكتشاف الخلاق المبكر لـ (هذا خبز) دمت مبدعاً“والقمة الأخرى الباحث الموسوعي ناجح المعموري وقد وضع نص (هذا خبز) تحت مجهره الأسطوري بجرأة وثقة عالية بما يطرح من أفكار بلغة سلسة واضحة وموحية بمداخلاته مع ما في التاريخ من وشائج صلة  بنص الشاعر لإطلاع المتلقي على ما بذله الشاعر في متابعة رغيف يبقى ماثلاً كالبدر في السماء تدركه الأبصار لا الأيدي.

عرض مقالات: