اخر الاخبار

تتباين أساليب توظيف الموروث في النص على وفق ركائز أساسية، لعل وعي الموروث عن طريق إعادة قراءته يشكل البؤرة الرئيسية في هذه الفعالية الإنتاجية. فالتعامل مع الموروث لا بوصفه مرجعاً فحسب، وإنما مصدرا ً ثقافيا ً يراد منه تصعيد وتيرة النص المعاصر. وهذا يعني أيضا ً فحص نص الموروث للوقوف على ما يُفيد التعبير من خلاله ضمن إنتاج النص. ولعل نص (حدث في أوروك) للقاصة (بثينة الناصري) واحد من النصوص التي وظفت ثيمات متعددة من ملحمة (جلجامش). حيث بدأ النص من عتبته الأولى الذي خص مدينة (أوروك) بحيث أشار إلى ما جرى عبر مفردة (حدث) بحيث وضعتنا القاصّة بإزاء حدث مرتقب سوف يقع ضم مجريات النص. فهي لم تعالج موضوعا ً مستعادا ً من الملحمة، وإنما أسست موضوعا ً آخر خارج اشتغالها. بمعنى شيّدت ثيمة ذات دلالة واقعية مستفيدة من رموز الملحمة، سواء كانت في شخص (جلجامش وأنكيدو) أو رمز الخلود  في (العشبة). لقد حاول الراوي في النص أن يوحي لنا بذلك كي يوهم المتلقي بأن ما سيجري من تفاصيل مستل من النص الأول دون التلاعب به بناء وأسلوبا ً ومعنى، تحت عنوان موجز للملحمة، متخذة لها موضوعة العلاقة بين (شمخت وأنكيدو) ركيزة امتدت داخل النص كبنية. وهي تحديد نمط الحياة وبالتالي إخفاء الهيمنة الأنثوية ــ سلطة الأنثى ــ على مستوى المعرفة بالأشياء. وبالتالي السلطة في التغيير , وهذا المفتتح قد كتب بلغة تقترب من سمات لغة الملحمة، حتى بدا كما لو أنه تلخيصا ً فعلا ً لها. والعنوان الرئيسي يدعم هذا، كون ما يرد ذكره في مبنى النص مقدمة وسياقا ً؛ هو جزء من بذرة الشك في محاولة لزعزعة أسس النص المتن، بدليل أن اللوح المفقود هذا وجد في مكان لا يخطر على بال أحد (فأني أشك في صحة الأحداث المروية) وهذا تهشيم مقصود لإثبات صحة الوثيقة، كون ما يرد داخل النص هو لقاء عابر بين (جلجامش) بائع نبات الخلود في الأصص، وبين (شمخت) حيث تنكّر لها (جلجامش) وعند فضح المستور، تمت لهما العلاقة، ولكن على نحو متشنج. تعتمد شخصية (شمخت) على كونها واهبة الفهم والحكمة لأنكيدو، وهي التي أدخلته مدخل المدينة من البريّة. والصحيح؛ أن العلاقة الجنسية كونها مولدة لحياة جديدة ونامية، مع الفعاليات الأخرى من التقدمات. وهنا لا يمكن إلغاء دور المرأة باعتبارها المغيّرة، لكن ليس بالمقابل ترجيح سلوكيتها بقدر ما ترجّح سلطة الجنس كمغيّر، واستعداد أنكيدو الذاتية للتغيير , وهو بالإمكان حدوث ما جرى على يد المرأة. لذا فالسلطة هنا ليست معرفية فحسب، بل بايولوجية ــ فسلجية، ثم تأثيرات التقنيات كالخمرة والخبز. وهي تقدمات ساعدت رمزيا ً في مثل هذا التغيير في شخصية أنكيدو. وهنا يحاول النص خلق علاقة جديدة خارج سياق المتن لإثبات سلطة الأنوثة، لكنها أساسا ً مهمشة بين الاثنين، بدليل معرفة (شمخت) بحقيقة (جلجامش)  ثم فضح سر الأصص التي تحوي نبات الخلود وكشف المستور أمامه للإمساك به. أي استدراج ضعفه، حيث تؤكد (شمخت) في حوار معه (ألم يسرق العشب أسد التراب يا جلجامش ؟) وتقصد الأفعى، فيجيب : (كانت حكاية خدعت بها الآلهة لئلا تسلب العشب مني) وهو فضح يساعد في الإمساك به وتسييره وفق مشيئتها. وبذلك ابتدأت في النص حالة قلب المعادلة في النص المتن نحو آفاق جديدة ومخلّقة، تحددها نظرة القاصّة من خلال أسس تلّقيها. فالنص يبدأ بتقديم تقرير شامل ثم إملائه على مدوّن. وبذلك تحولت (شمخت) إلى مدوِّنة لِما رأت وسمعت وعاشت. وهو فعل يخص (أنكيدو) فـ (جلجامش) يبدو ضعيفا ً واهنا ً (يصرخ في الناس، يساومهم السعر) وهنا تحاول المحظية أن تسقطه في وهم التحريف والاحتواء بمحاورته عن مصير عشبة الخلود. كما وأن (شمخت) تضع نفسها كأداة مغيّرة في كل شيء، مذكرة إياه (لولاي لما عرفت أنكيدو، ولما حزنت لموته، ولا ذهبت للبحث عن عشبة الخلود) وبهذا ينفي الراوي مشيئة الآلهة (أرورو) وتخليقها (أنكيدو) في البرّية. وهذه محاولة  لتأسيس طبيعة صراع جديد داخل نص جديد يتغاير مع المتن. لكنه يعتمد ركائزه. وتؤكد (شمخت) وهي بصدد ذكر تأثيراتها على (أنكيدو) وإسقاط فعلها على مدينة (أوروك) كونها(قادته إلى المدينة ذليلا ً) والعكس صحيح داخل المتن. فبعد مضاجعته لها سبعة أيام بلياليها (تفتق عقله) ــ ينظر في ذلك ترجمة د. سامي سعيد الأحمد ــ. وهنا نؤكد على أن محاولة التحريف هذه أو قلّب المعادلة كان لغرض تأجيج الصراع الجديد، للتخليق داخل نص جديد، أو هو طريقة للتعامل مع الموروث أركيولوجيا ً لأجل الابتكار، والمجاورة في آن واحد، وتحويل النص من حاضنة للتضمين إلى حالة مخلّقة، يعتمد متنا ً موروثا ً. والقاصّة تصل بالنص من نقطة بدء الصراع بين وجود (جلجامش) على حال مغاير في (أوروك) وتذكيره بحاله هذا جاء لتأكيد كشف الظاهرة، أو كشف العلاقة والصراع من أجل الوصول إلى رؤية جديدة، تحددها القراءة الثانية والمنتجة لنص الملحمة وإعادة صياغة بعض فقراتها، للإمساك بالدلالات المعاصرة، حيث لخصتها في:

{كيف تبيع للناس خلودا ً كاذبا ً. كلانا يبيع ما لا يملكه.. سرقة

يا جلجامش... سرقة يا جلجامش}

كذلك لخصته في:

{إننا نتقاسم الزمان. أنت تسرقهم نهارا ً وأنا أسرقهم ليلا ً}

هذا التهشيم دفع (جلجامش) لإثبات نياته وطبيعة أهدافه أمامها. ولم ينساق وراء حيثياتها التي حاولت من خلالها استمالته لها عن طريق إسقاطه في بئر أخطائه وفضلها على خلّه (أنكيدو) ومدى التضحيات التي قدمتها وأدغمت بعضها، وهي تحديدا ً تأشيرها لفرديته وعلاقته المتشنجة مع شعبه، لكنه عكس ذكرياته مع (أنكيدو) ومدى ما قدمه من تضحيات، فهو قد بنى أسوار (أوروك) وحصّنها. غير أن هذا لم يوقف تدفق وجهة نظر (شمخت) بكل ما رأته أثناء حياتها في (أوروك)، حيث امتدت على نمط هذه الرؤية والنظرة. بينما بقي الملك يُشيّد المصدات دونها :

{إذ كنت أعيش حُبا ً موهوما ً للناس، أنني أفعل ذلك لأحصل على قوت

يومي، أما أنتِ فتسرقيهم لإرضاء شهوة في نفسك}

ثم تُسفر الحوارات عن صراع من أجل كشف المستور في العلاقة بينهما، وهي تبتعد عن المعرفة الشخصية، بل  تتعلق بالحياة العامّة السياسية والاجتماعية والعلاقة مع الآلهة (الآلهة تهب الناس ولا تسلبهم يا جلجامش) والصراع يؤول إلى محاولة (جلجامش) الابتعاد عن كل شيء والعودة إلى الجذور من أجل خلق عالم جديد أكثر براءة :

{تعالي امنحيني الجهل والجنون، أرجعيني إلى رحمك طفلا ً،

وأخرجيني إلى ضوء النهار مجردا ً من هذا السعير الذي لا يطفئ}

وهنا يتحدد اتجاه في  النص يؤكد العلاقة بين (شمخت وأنكيدو) وبالتالي مع (جلجامش) كون الاتصال الجنسي كان هو المغيّر في الطبيعة الشخصية. وهو ماحصل في النص المتن، بين علاقة (جلجامش بأنكيدو وعشتار) ومجلس الآلهة والمتغيرات العامّة  التي حصلت داخل (أوروك) والتي ستحصل في حياة النص الجديد، بعد تجديد العلاقة ــ المخلّقة ــ حيث تدور الحياة ضمن دورتها المنتظمة، ونفي مقولة (شمخت) :

{ظل جسدي مطروحا ً على العشب المبلل بالندى والدم، حتى صرت طعاما ً لنبات الأ{ض}

وهنا تُعاد الدورة، مشيرة إلى إعادة نشوة (جلجامش) من جديد، حيث لم يسفر عنه النص الجديد.

لقد أكدت القاصّة من خلال نصها (حدث في أوروك) على الأهمية في أن تكون أساسيات النص الجديد في إتباع حالة من التماهي بين ما هو  مخلّق وما هو موروث، بافتراض علاقات مكملة لتلك العلاقات داخل نص الموروث، كونه نصا ً مفتوحا ً للإنتاج.

ــــــــــــــــــــــــــــ

قصة (حدث في أوروك) للقاصّة (بثينة الناصري) نشرت ضمن مجموعة (فتى السردين المعلّب) دار الخريف للطباعة والنشر ــ العراق 1990

عرض مقالات: