اخر الاخبار

بعض أنواع الفنون لا تحتاج الى موهبة غزيرة لصناعته، كفن “الكولاج” نموذجاً، ولكن سوف لن يعطي دلالات ذات معنى إن لم يمتلك الفنان رؤية جمالية ذات لمحة شمولية عميقة في دلالتها ومعانيها..

من هنا خاضت الفنانة التركية ديمات أُزغور أتاي تجربة فنية في فن الكولاج، بعد أن كان لها في السنوات السابقة كثير من المعارض في غاية الجمال والإبداع  بلوحات لونية  بالزيت والأكليرك شخصية مشتركة في أرقى القاعات المتميّزة في تركيا وكان بعضها عالمياً.. والكولاج كما نعرف عنه أن تسميته من Collr الفرنسية وهو تقنية أُستخدم في القرن العشرين كأحد أنواع الفن التجريدي الذي يعني التطور الأمثل جديّةً، وقد مورس ابتداءً على يد الفنان الفرنسي “جورج براك” والفنان الاسباني الشهير “بابلو بيكاسو” خلال المرحلة التكعيبية..

لقد أضافت التشكيلية التركية “ديمات” في معرضها الشخصي الذي اقيم في دار كلمات/ إسطنبول. أمزجة مُتعددة ورؤىً مُبتكرة في إنتاج لوحة كولاجية مغايرة لمن سبقها من الفنانين الذين أبدعوا أيضاً في هذا المجال.. فهي لم تبتسر عملها على مواد محددة أو مختارة لما تتطلبه هذه التقنية لإنتاج لوحة كولاجية فائضة عن المعاني وعبثية الإختيار، وإنما أختارت أنواعاً معينة أيضاً للدلالة على حالات إقتصادية واجتماعية وإنسانية يمكن أن نعدّها دلالات لحالات عالمية لبلدان معينة تقصدها للكشف عن هوية ونزعة تلك البلدان أو القارات أو مجموعة متشرنقة من الدول ذات الإتجاهات والرؤى السياسية والإقتصادية المعينة من خلال التخطيط الأوّلي للوجه الإنساني ثم العمل عليه كولاجياً بأستخدام الكارتون كأساس للعمل الفني مع دمجه بعدد من الخامات المختلفة المقصوصة بأحجام هندسية وغير هندسية مختلفة ولصقها، وقد برعت الفنانة “ديمات” بإختيار حَسن لمجموعة خامات ذات معانٍ دلالية تفيد الهدف الذي تتوخاه للتعبير عنه من (قماش، وشبكة من القماش، مكسّر قشور بيض، شرائح مجففة من الليمون، عملات ورقية من الدولار واليورو، صحف قديمة، وكتابات على ورق مطبوع، صور لمشاهير نساء ورجال ورؤساء دول ومؤسسيها ايضاً، ورد أبيض، خوص وحلفاء، ماركات لشركات تجارية عالمية، خيوط سميكة، وأشياء أُخر).

ولقد استخدمت الوجه الإنساني كثيمة لحكايا الإنسان، ولصقت بالصمغ القصاصات المختلفة لتلك الخامات على اجزائه المخططة سلفاً على قماش الكانفيس “الشَّعر، الجبهة، الحاجبين،

العينين، الأذنين، الشفتين، الرقبة، والصدر إن وجد في بعض اللوحات”.. وبطريقة ذكية وليست عشوائية ثم تتناول ما حول الرأس من فضاء دلالة على ما في خارج الجسد، فأرادت أن تقول إن نوع القصاصة على ذلك الجزء من الوجه هو تشفير لدلالة رمزية على حالةٍ ما، حدث ما، ذكرى أو تاريخ ما،، كل تلك الدلالات الرمزية مجتمعة للتعبير عن المعنى الإيحائي للوجه وما يحيطه “ هو العالم المرئي المترامي المحسوس، وما يغور في باطنه من صراعات مخفيّة أحيانا وعلنيّة أحياناً أُخر.. بإستحضار حالة أُمّة أو شعب أو دولة أو حضارة، وبالتالي فإنها استخدمت هذا التكنيك (السهل وما أصعبه) كالسهل الممتنع، بتجربة رؤى جديدة، اذ أن كل لوحة تختلف عن أخواتها حكائياً بصرياً من معانيها وشفراتها بما تحمله من دلالات رمزية من خام تلك القصاصات، فعلى سبيل المثال هناك لوحة استخدمت أجزاء من الأوراق النقدية “ الدولار “ للدلالة على الهيمنة الإقتصادية والتجارية لأمريكا عالمياً، كما إستخدمت” اليورو “ للدلالة على الهيمنة الفرنسية على قارة افريقيا، وكلا العملتين للدلالة على محاولة امريكا الإستحواذ على افريقيا في صراع إقتصادي لا يخفى على أحد.

ولوحة أخرى إستخدمت الأقراط الطويلة من قصاصات الخوص والخيوط للدلالة على عنصر انساني معين وهم الهنود الحمر الذين تعرّضوا على أراضيهم للإبادة الجماعية من قبل الدخلاء والأغراب، أو للدلالة ايضاً على القبائل الافريقية وصراعهم ضد التمييز العنصري.. ثم إنها استخدمت صور مؤسسي بعض الدول، ومنها مؤسس امريكا (George Washington)‏،و (مصطفى كمال أتاتورك) لرمزيته الخاصة ودوره في تأسيس الجمهورية التركية وقائد حركتها الحديثة، حتى أنها استخدمت سنين محددة للدلالة على أحداث معينة في التاريخ الحديث، الى جانب صور معينة لفنانين وفنانات أو ممثلين مشهورين للإشارة الى خصوصية أو عالمية الفن في بلد ما، أما الورد الأبيض فللتعبير عن الحرية التي تسعى لها المرأة مثلا، أو عوالم المرأة كالعاطفة والأمومة والحب ، وهناك أنواع أخرى من الخامات وظّفتها في لوحات أخرى للتعبير عن التنوع العرقي في الولايات الأمريكية، ومرة تلجأ الى الشبكات القماشيّة، فاللون الأسود منها للتعبير تارةً عن نظرة الأطماع والهيمنة والإستحواذ، وتارة أخرى للتعبير عن الشيخوخة والتجاعيد وهول قساوة الحياة وبطش الزمن كما في اللوحة التي تحمل وجه المرأة العجوز حيث كان الأسود هو الطاغي، بينما اللون الغباري يشير الى صفات اللؤم والقوة التي تتصف بها بعض النفوس في “الدولة العميقة - الرجل المادي” الذي تنتشر حوله قصاصات لعملات نقدية متنوعة، فهو لا سعيد ولا حزين بل مشغول مُنهمك يفكر بالأموال وجمعها فقط، فهل هو باحث عن لقمة العيش أم تاجر أو رأسمالي حائر؟.

وإمرأة غارقة في الأحلام من خلال ما يحيطها من كارتون أحمر مورّد- طفل مُخضرم بالتعاويذ للتعبير عن العواطف والغيرة والبراءة. ولوحة أخرى لمرأة فارغة من الأحلام غارقة في اللاشيء.

كما أستحضرت الفنانة “ ديمات “ الوجه الإنساني للموروث البابلي أو السومري والفرعوني والإغريقي والأفريقي والأوربي المعاصر، من حيث دلالة العينين وعمقها الروحي والتكوين الخارجي للرأس، دون الإيغال في تفاصيل ما أفرزته تلك الحضارات على الوجه بشكل بارز ومفصّل، والتمعّن بكل وجه ينتابك أحساس ان فيه ماهو مكتنز بمعانٍ شتى، اذ أن في جزء محدد من الوجه تجد دلالة ما.. وتبقى تتأمل حائراً، لكنها الرواية التي كتبتها راويتها الفنانة الخصبة التي حارت في إختيار عنوان للرواية كما حيرتنا معها، الفنانة الفطرية سيدة عريقة لجّت أنامل عقلها في صنع جمال فنّها الخاص الذي أحبته “معرض ب ١٤ لوحة + ٢ البوم صور كولاج ايضاً + ٢ صندوق “ عملت على انجازها خلال عامين ونصف يضاف الى رصيدها وهي تدرك جيداً أنها تستفز نفسها قبل غيرها للعثور على شيء إفتراضي ربما لم تفقده هي بحد ذاتها بل فقدها غيرها، أنه خَلق المُدرك من اللامُدرك، وذلك مهم للفنان الصانع المتحوّل الذي ينثر الأشياء ليختزلها في إطار واحد مُتعدد الرؤى ليصبح كشعاع الشمس الواحدة التي تنشر أشعتها في أماكن مختلفة وبيئات متفرقة، فيرى الناظر في كل منعطف منها حالة بصريّة، تمتد اليك فتلمسها بالبصيرة والمشاعر من دون أن تلمسك جدلاً، بل كأنها تفرش فلسفتها الفنية على لوحاتها بفطرة أخّاذة لإمرأة تجيد حبك الحكايا من كتاب الحياة جسداً وروحاً، التي عولمتها الحضارة الجديدة، وهي الفنانة التركية”ديمات أُزغور اتاي”حيث تستقطب ملذّات الكبار بتشفير فني هامس بلوحات الكولاج المدهشة - كما الأطفال الذين يأنسون بما هو جديد يثير فيهم لذّة المعاني المتخيّلة الكامنة في طاقتهم الغريزية، وهم عطاشى لم يرتووا منه بعد..

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

*شاعر وكاتب عراقي يقيم في إسطنبول- تركيا

عرض مقالات: