اخر الاخبار

لا يُذكر فن المقالة في العراق إلا وكان ذكر فهمي المدرس حاضراً فيها، والمقالة، كما يقول د. علي جواد الطاهر ليست إنشاء مطلقاً قائماً على العاطفة أو الخيال، وليست بحثاً مثقلاً بالأسانيد والمراجع، أنما هي عرض يسهل المادة ويجعلها أقرب إلى القارىء وأخف عليه بما يحاوله المؤلف من ترقيق في الأسلوب وإثارة للذهن وقصد إلى الطرافة، فتؤدي بذلك غرضاً قد يعجز عنه البحث في ساعات لا يجد المرء في نفسه استجابة لغير اليسير أو الميسر.إن مقالات (فهمي المدرس) التي تبدو في ظاهر الأمر غير بعيدة عن الإطار السياسي العام في النبرة الحماسية التي هي السمة الغالبة لموضوعات المقالات في العهد الملكي إزاء مختلف القضايا الوطنية ( الانتداب،  والانتخابات والمعاهدات والحياة النيابية ومختلف القضايا الاجتماعية والثقافية) إلا أن الطرح الفكري في (مجالات التربية والتعليم وطبيعة السلطة والعجز في الميزانية والمشاريع العمرانية وحق الثورة والحياة الصحفية  والرأي العام والمعارضة) تمثل رؤى مستقبلية ( ثقافية)، فالتأكيد على الجانب (الثقافي- التاريخي) هو من أهم طروحات فهمي المدرس وهذه الطروحات كانت عن تجربة رائدة حيث ينقل لنا (خيري العمري) التجربة الحياتية والعلمية في مقال نشرته مجلة “الأقلام” العراقية في منتصف ستينيات القرن الماضي، فالمدرس بحق  يمثل المثقف الصادق في مطلع القرن الماضي الذي حمل مزيجاً من ثقافات  (إسلامية وفارسية وتركية ) إضافة إلى معرفته باللغة الفرنسية التي مكنته من الاطلاع على الثقافة الأوروبية ليشغل مهمة الإشراف على تحرير القسمين (العربي والتركي) من جريدة (الزوراء). فالثقافة الحديثة كانت المعين في مناصرته للدعوة الدستورية التي انتشرت في الدولة العثمانية ومقاومة الاستبداد. إن التكوين الثقافي والممارسة المهنية بعد قيام ( الحكم  الوطني) عام 1921 جعلت منه في موقع المقوّم للوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي في مقالاته المنشورة في ثلاثينيات القرن الماضي  وعلى وفق أبعادها المختلفة من خلال الآتي:

  1. البعد السياسي الذي يعد من الأبعاد التي يقع مفهومه ضمن نقد (سلطة الحكم) التي تناولها (فهمي المدرس) في معظم مقالاتهِ وهنا تبرز مقالته (حول أسطورة الحجاج)، فهي تقويم للدعوة التي تدور في آطار ان العراق بحاجة الى حكم وسلطة ( الحجاج)، ذلك ان فشل (التجربة النيابية والصراع على المناصب الوزارية) تجعل هذه الدعوة هي المنقذ من جميع سلبيات العملية السياسية. ان هذه الدعوة تبعد البحث عن ايجاد الحلول لجميع المشكلات التي يوجهها المجتمع ويقتصر الحل على جانب واحد وهو سلطة (طاغية) يعدل ويظلم ضمن حكايات (اسطورية) يهب العطايا دون قانون ويجعل لقاء (الحاكم الطاغية) أمنية من قبل جميع المحرومين وكأنه (مارد الفانوس السحري) يحقق لهم الاحلام التي هي واجبات على السلطة بوصفها (خادمة الشعب). فكل أمة إلا ولها من تاريخها ما يبعث فيها إمارات البأس والقوة أو دواعي الوهن والانحلال، ولا تخلو تواريخ الأمم من مناقب الفخر ومن شوائب النقص والانحطاط. فالمشكلة تكمن في تغذية الأجيال لا على ما يضعف العزائم ويهوي بها الى درجة الذل والعبودية، فالسائد في اعمام مفاهيم (الحجاج وأهل العراق) هو عجزعن حل جميع مشكلات العراق بإِختيار نموذج (الحجاج). يفند فهمي المدرس هذه الدعوة بقوله “الحجاج إِنما احتمله العراق لا لأنه الحجاج بل لان وراءه عبد الملك بن مروان، وخزائن الدولة الأموية وجنودها وتلك السطوة وذلك الجبروت”. فلا حاجة للتهديد أو الاستغاثة بالحجاج وسل السيف وبث الدرهم والدينار. فالظروف العامة في العراق قسمت الناس إلى فريقين، فريق يأتيه رزقه رغدا وهو لا بالعير ولا بالنفير رابض على التل يرمق الحادثات بعين السائح المتفرج،وفريق عضه الفقر بنابه وطاش سهمه وقد مسخته الأقدار فانقلب إلى صخرة صماء لا يسمع ولا يبصر ولايعي. فالحجاج قتل وسجن ليس (بعمامته ولثامه) بل بعظمة الصيت الطائر في الدنيا وتلك المملكة المترامية الأطراف، ومع ذلك لم يخضع العراق للحجاج بل تصلب لعقيدته ومبدئه وحارب دونهما،فلم يستسلم للحجاج. وربما يُخلق (حجاج) ويُجرد سيفه ولكن ما يصنع الحجاج بالسيف وفي كل لسعة من آلام الحياة ما يفل عزائم ألف حجاج وحجاج والعراق في وضعه الحاضر كالميت بين يدي الغسال؟! فالوضع العام لا يحتاج (حجاج) لأنها أسطورة تحمل الذل والخنوع، والاغراء على الظلم والعدوان في حين ان الحالة تستدعي العطف والرأفة ومعالجة الفقروعشرات المشكلات والأزمات،وحديث الحجاج (لايسمن ولا يغني من جوع).
  2. ينقل فهمي المدرس صورة يجعلنا نتساءل لماذا نحتاج إلى حجاج في ظل هذه الظروف ولاسيما وهذه الصورة البائسة للصرائف المنتشرة في بغداد (العاصمة) في مقاله (بين القول والعمل)؟ وهل يحضر الحجاج إلى صرائف في منحدر من الأرض إلى منتهى حدود (الصليخ) وفي جانب الكرخ وفي شرق العاصمة أكواخ متداخلة مُنْتِنة تخالها من بقايا مرابط الإنعام على عهد عاد وثمود تعوم في ماء آسن، تعلوه خضرة، وتطفوعلى وجهه الملايين من الحشرات السامة يتصاعد منها الدخان الكريه فيمتزج بالهواء ويعم الجوانب والانحاء ويأوي اليها نفر من أخواننا البؤساء الذين قدر لنسائهم - وأطفالهم على ما بهم من ضر- أن يلفظوا أنفاسهم بين الجراثيم الفتاكة وبين الروائح الكريهة يمسون ويصبحون في بيئة لا تفارقها إلا أقذار.. تغلي مضاجعهم كغلي الحميم، وأن يستغيثوا يغاثون بماء كالمهل يشوي البطون. وعن اليمين والشمال قصور مزخرفة فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين يمرح في نعيمها المترفون بغير حساب وإذا مروا من حولهم في الغدو والآصال غضوا الطرف وسدوا المنخرين وخفت بهم سياراتهم مقنعة فاقع لونها من الطراز الأول تلمع لمع الشهاب، تجللها الحشمة والأبهة وتحف بها الشمخرة والكبرياء. لا يلوون على أحد ولا تأخذهم الرأفة ولا يخشون لومة لائم. ولعل دعوة الأمس لاتختلف

عما نسمعه اليوم من الحاجة الى ( حجاج جديد ) فاذا كانت صرائف الأمس حاضرة عند (المدرس) فالمناطق العشوائية المنتشرة اليوم في بغداد لا تختلف عن صرائف ( المدرس)، فيقيناً أن التهرب من المسؤولية هي التي توحي لهم بالبحث عن (حجاج) ويبعدهم عن المحاسبة عما يعم المجتمع من فقر وجهل وبغضاء والتفنن في إفساد الأخلاق بإتاحة وسائلهِ.

3.كان من المُؤَمّلُ كما يذكر ( المدرس) ان يتبنى المثقف( الأديب) قيادة مفاهيم (العدالة والخير والتعاون) لكن الاجتماعات الثقافية أشد وطأة  لما تثيره من الضغائن والعداوات، فكأنما تقام للانتقام والاستئثار وليترصد أحدهم الآخر في انتقادات تزيد من تنافر القلوب واشتداد الخصام وتستأسد النفوس ويتطوع القلم في سبيل (الفتحة أو الضمة )، فتملي على الصحف من المضامين ما يشخص النقص ويثبت الجهل، مما يؤدي إلى تفريق الكلمة وتشتيت الشمل في موضوعات لاتهم المجتمع، فالحاجة الضرورية هي قضايا المجتمع وليس الدخول في دوامة الاختلافات التي هي قضايا لا تشكل أهمية. ولاسيما مع العوارض المفاجئة التي تشكل خطراً على ثوابت المجتمع وهي الانقلابات (الاجتماعية والسياسية والإدارية) التي تقسم المجتمع إلى فريقين كل منهما يجد أنه على جادة اليقين ويرفض الطرف الآخر ليدخلوا في صراع (الحق والباطل) مما يوّلد الضغائن والأحقاد ويحدث الفتن والانحلال والدمار، فيظهر هذا الصراع  طموح الكثير الى النيابة والوزارات والوظائف والمقامات ممن ليسوا أهلا لها. 

 لم يكن البعد السياسي الوسيلة الوحيدة التي يعوّل عليها (المدرس) في إصلاح المجتمع ولاسيما مع الذين يجدون في حكم (الطغاة) الغاية التي يتحقق من خلالها تقدم المجتمع، (فالمدرس) يعوّل كثيراً على سيادة الأخلاق القيمة في المجتمع لأن الشعب العراقي يتطلع إلى معاني الإيثار الذي يخفف ولو قليلاً من آلامه وما يترتب على الفرد تجاه المجتمع ضمن مفاهيم  التعاون والواجبات والحقوق المتقابلة. كما أن هناك علاقة وثيقة بين الأخلاق ونهضة البلاد،فلا تصلح البيئة والتربية إلا في الأوساط الحرة المالكة لإرادتها لذلك لم يكن الحكم المطلق في زمن من الأزمان صالحاً لتنفيذ نظام الأخلاق. فإذا كان العدل أساس الملك فالأخلاق اساس العدل. ولا يتم تكامل الحياة الاجتماعية إلا بارتفاع مستوى الثقافة والتعليم التي تكون البيئة الصالحة لنمو مفاهيم (العدالة والخير والتعاون). فيجعل من الاهتمام بوسائل الثقافة أولوية في اهتمام الدولة فقد أفرد مقالات عن التعليم والشروع في تأسيس المكتبات  وشروط أقامتها في بناية مناسبة واختيار الكتب المهمة وتصنيفها.وبهذا تميزت مقالات فهمي المدرس وعلى وفق النقاط الآتية:

  1. الرفض المطلق للحكم الاستبدادي تحت أي مسمى، فليس المطالبة بصيغة حكم (الحجاج) إلا عجز عن إيجاد حل صادق للمشكلات العامة في المجتمع، فهذه الأسطورة لها ظروف تسويقها التي جعلت البعض يحنون إلى شكل من أشكال الذل تعبر عن الإغراء للعبودية.
  2. تمثل المقالات حركة فكرية إصلاحية واستجابة ملحوظة إلى المعطيات والأحداث السياسية، ومناقشة اتجاهاتها بوعي لا يخلو من تمييز، فهي تمثل جزءا من التاريخ السياسي في العراق.
  3. تعد المقالات من أهم موضوعات الثقافة السياسية العامة ضمن نشاطات المجتمع (الثقافية، و الاجتماعية) حيث تعمل على بث روح التجديد في عقول الشباب في كل الميادين، فغالبا ما تبدأ مقالته بعبارة (كلمة إلى الشباب) لما يمثلون مستقبل البلاد.
  4. تمثل المقالات قراءة مستقبلية للواقع العراقي الذي نعيشه اليوم بكل أبعاده السياسية والاجتماعية والثقافية، أن الاطلاع على مقالاته بكل جوانبها تعطي انطباعاً راقيا إزاء تناوله للأحداث فلم يشعر القارىء معها بأي تحيز (قومي أو ديني أو طائفي)،فالوحدة العراقية تؤطر كلماته ضمن مواقف وطنية متعددة.
عرض مقالات: