اخر الاخبار

في ظلِ طروحات وأفكار الحداثة ومابعدها، اصبح من غير المجدي الحديث عن “الهوية الصافية” للأجناس الأدبية من رواية، وقصة قصيرة، وقصيدة، ومسرحية، ومجمل الفنون الجميلة من سينما، ورسم، وموسيقى وغير ذلك. فقد عملت معاول النظريات المعاصرة على تحطيم الحدود الفاصلة مابين الأجناس الادبية والفنية واصبح الطريق سالكاً لتداخل هذه الفنون الجميلة، وتبادل المنفعة الجمالية لإنتاج شعريتها عبر مفهوم التناص الذي يعد من أهم مظاهر نظرية مابعد الحداثة لدحض مبدأ “نقاء الأنواع” وتقليص المسافة الفاصل بين المركز والهامش حدَّ الادغام بحيث يتعذر التمييز مابينهما لنتحصل في النهاية على نص هجينٍ مرنٍ قابلٍ للانفتاح والتعددية. الان ثمة نص كرنفالي يضم بين طياته مختلف انواع الانشطة والفعاليات سواء كانت رفيعة  فعلى مستوى القصيدة، لم تعد شعريتها قائمة حصراً على الآليات البلاغية التقليدية من تشبيه واستعارة وتورية وانزياحات لغوية لخلق الصورة الشعرية التي تعد حجر الزاوية في بناء القصيدة، إذ انفتحت على الأجناس الأخرى واشتغلت على تقنياتها كالإفادة من تقنيات السرد القصصي القائم على الحكي، ودراما الحدث، والشخوص، ووجهات نظر السرد بوجود “سارد شعري” متعين، وزاوية ارسال واضحة. ولايعني ذلك بطبيعة الحال تخلي القصيدة عن آلياتها البلاغية بالمجمل بقدر مايكون  استخدامها بشكل مقنن وحسب الضرورة، ومنها المفارقة التي اصبحت العلامة البلاغية البارزة في انتاج شعرية القصيدة. في مجموعته الموسومة بـ “النوم في محطة الباص” يعتمد الشاعر عبد الخالق كيطان في اغلب قصائده على السرد والمفارقة والايحاءات الشعرية والمشاهد الحافلة بالتفاصيل الحياتية اليومية المعاشة. ففي قصيدة “الحرب والقتيل”،على سبيل البرهنة والتدليل، نجد انفسنا ازاء “حالة شعرية” ذات طابع حكائي حيث يقول في الفقرة الأولى منها:

“عاد الجنود من الحرب إلا واحداً

لقد بترت ساقه قذيفة

سقط على الأرض ينظر إلى ساقه القطيعة

كانت الجثث تملأ المكان وكان وحيداً يقاوم نهايته

الجنود الذين عادوا لم ينسوه أبداً

مرت الساعات ثقيلة قبل أن يلفظ الجندي صاحب الساق الواحدة انفاسهُ.

الجنود الذين عادوا لم ينسوه أبدا

كل جندي فيهم كان يتحسس ساقه وينحب بصمت”.  بينما تحفل الفقرة الثانية من القصيدة بالتفاصيل العائلية الحياتية لإدامة زخم الحالة الشعرية عبر السرد وحكايته.  

وضمن الإفادة من تقنيات السرد، نجد أن الكثير من القصائد تعتمد “ المشهد “ الذي يعد من اهم وحدات السرد التصويرية كما في قصيدة “دانيال” التي يقول في مطلعها:

“ كان المطر خفيفاً عندما طرق غريبٌ باب المنزل

لم اتبين ملامحه

بل دسَّ في يدي قصاصة واختفى في الظلام” . 

وقد جاء استخدام المفارقة ضمن الفضاء السردي وفي الكثير من قصائد المجموعة لافتاً للتلاعب بأفق التوقع، وكسر سياق المعنى المعلن، لمضاعفة المعنى، ولتقديم الصورة الكلية، أو الشاملة بدلاً من تقديمها عبر ارساليات من الصور الشعرية المتراكمة كما جاء في قصيدة “علامات عن تفاصيل اللذة” وغيرها من القصائد التي جاءت على شاكلتها:

“ الرجل الواقف في المحطة يرتدي قبعة معاصرة

الرجل الذي لا يلتفت كثيراً وتحت ابطه جريدة

إنه لا ينتظر القطار”.

كما يحظر المونولوج في قصيدة “صورة فوتوغرافية في جيبي لصديق احمل اسمه”، والاشتغال على التداعي الحر كما في قصيدة “سجدة” التي جاءت على شكل كتلة واحدة دون تشطير أو فقرات. 

ولتحقيق الوحدة والانسجام بين متون القصائد وعناوينها، فقد جاءت معظم العناوين ذات بنية سردية خالصة ولكنها مرتبطة بمتن شعري، او ضمن سياق شعري مثل :”مقاطع من قصة الرسول الذي لم يركب حصاناً قط/ مائة حرف وحرف/ صيد الفراشات/ اغنية الشاعر/ في ذكرى جندي/ منديل عاشقة/ النوم في محطة الباص/ صنع في المنزل/ حالة علي” وغيرها من العناوين المماثلة.

عرض مقالات: