اخر الاخبار

حاول دريدا أن يوازن كفتي الميزان، فوجّه نقده إلى الذات الغربية، والمؤسسات بكل توجهاتها وقضيته المهمة هي الاختلاف والتأجيل، ركز عليهما وعرف متى يصدر الحكم تجاه ماركس ومتى يصدره تجاه الغرب في الكفّة الأخرى، وذلك عندما تصل إلى نضج ثمارها، حين يتأكد تطابق الاختلاف، والتأجيل كعلامتين لقراءة المنتج الغربي، أو المنتج الشرقي من خلال الفلسفة الماركسية.

إن أصل هذا الكتاب هو محاضرة ألقيت خلال جلستين، في ٢٢-٢٣ نيسان ١٩٩٣ في جامعة كاليفورنيا

وقد افتتحت بعنوان “إلى أين ستذهب الماركسية”؟

فبقدر ما تشكلت (أطياف)، و (الطّيف شيء عديم الملامح وليس كامل الحضور)، فماذا أراد جاك دريدا أن يقوله في كتابه “أطياف ماركس” اعتُبِر هذا الخطاب مواجهة تتمثل في نقد تفكيكي لنصوص ماركس المشهورة،و في محاولة أقل مايقال أنها إبراز قدراته التفكيكية لنصوص كانت تعدّ من النصوص الشديدة المنَعة، لشدة رصانتها وبلاغتها، لكن هل نجح هذا النقد في تحقيق ذلك؟

وهل يُسهم التفكيك في إضعاف النصوص أم أنه قد يشير إلى قوتها وأهميتها، استنادا إلى صعوبة الأسلوب المعتمد في نقدها. وفكّ التشابك التاريخي؟

قبل القول أن ( أطياف ماركس) يمثل انموذجا بارعا للتحليل المكثّف، لاسيما وهو يكشف طرائق التعبير التقليدية المؤسسة على طابع التمركز على الذات ومركزية العقل الغربي، فقد بلغ الأمر ببعض ممن ينتمون إلى اليسار أن يجادلوا بأنه لا ينبغي لنا بعد ذلك أن نحاول إنقاذ فلسفة فقدت الثقة بشكل مضاعف.

ربما تكون الإشتراكية الفعلية قد شُيعت، ولكن الفراغ الذى تركته نادراً ما ملأته تلك اليوتوبيا التعددية لتوليد الاختلاف التى دعانا إليها ما بعد الحداثيين عند اختلافهم مع الماركسية.

و على النقيض مـــن ذلك، يمكننا أن نجادل بأن ما أقصى وأنكر عليه أي تمثيل سياسي جاد في أوروبا الوسطى والشرقية هي تلك الأشكال من الثقافة النقيضة المعارضة ( النسوية، البيئوية، النـزعة المناهضة للعسكرية، الإشتراكية الديمقراطية )

بهذا المعنى فإننا لم نشهد تدشينا لمنطق بديل نقيض للرأسمالية  وإنما زخماً إقتصادىاً وسياسياً متـلاحقاً يهدد بإمتصاص كل الإختـلاف التعارضى ضمن “ هوية “ مجتمع السوق على النمط الغربي.

وقد انهمك دريدا بإسهاب مع كتابة ماركس و قدم عدداً من القراءات وثيقة الصلة بالموضوع في هذه العملية. ويكاد بعض منها أن يكون شديد الأصالة ( على سبيل المثال لقيت نواقص التقييم الواقعي الذي قـام به ماركس للأيديولوجيا )، في محاولته نقد الطيفية. كما إن تأسيس أفكار نموذجية من أفكار مثالية هو عودة الى محور الدائرة التي خلقت وهم التأسيس، لذلك يتفق(جاك دريدا) مع قراءة (بياربورديو) لهذا الموضوع عندما صرح بأن إثبات ماركس للطبقية هو في الواقع تأسيس لها، وان ما أراده من ذلك لا يعدو أن يكون حالة ثورية عابرة للقول : إن (كارل ماركس) في التحليل الأخير أكثر مثالية من (هيغل)المتهم أكثر من غيره بها ؛ لأن مثالية ماركس تاريخية بتصوره بأن المجتمع الانساني يسير نحو تبني اليوتوبيا الشيوعية، فيما مثالية (هيغل) لا تاريخية ؛ لأنه افترض تحققها في نهاية الكون عندما تعي الفكرة المطلقة ذاتها وتدرك تحققها الكامل وبالتالي أن يثبت ذلك عن طريق فلسفته لا سيما أن المسالة لا تتعلق بهدف ما، بل بحاجة تفترض أن يكون هناك نوع من الطيفية حتى يدرك العقل استقراره.

أي إن طرد الأشباح أو نفيها ليس بالإمكان تحقيقه بواسطة الأيديولوجيات لأنها قد تاتي من خلال أيديولوجية أخرى، وما دام الامر يتعلق بتعاقب أيديولوجيات فلن يكون بالامكان وأد الطيفية على الإطلاق.

و محاولة جاك دريدا إبراز الطابع التهافتي لفكر ماركس قد لا تشكل أية أهمية، إلا إذا أراد القول أن هذا الفكر هو أكثر تعبيرا عن ذلك، ربما بسبب حمله للشعار البروليتاري مستشهدا بحمله النقد اللاذع الذي وجهه ماركس لـ(ستيرنر) على الرغم من أن هذا الأخير شاركه في نقد الطيفية ولو بشكل مغاير.

إن الملمح الجدير بالإنتباه في كتاب دريدا هو أنه يعترف بأنه إذا كان على التفكيك أن يرتبط بأخلاقيات وسياسات، فينبغي أن يعتمد هو نفسه في برهانه على عنصر غير قابل للإختزال ومقاوم للتفكيك، يتعين فيه أن يكون بمعنى ما مـؤسسا للقيمة.

أو كما يطرح ذلك دريدا نفسه، فإن” نزعة خلاصية “ معينة، عن العدالة والديمقراطية، تعد جوهرية بالنسبة لسياسات تحررية يحاول فيها  أن يبرهن أن ما تقاسمه ماركس مع خصوم الشيوعية، كان الخوف من شبحها وهو خوف متعارض مع خوفهم، مادام لم يكن خوفاً من أنها قد تتجسد وتصبح حضوراً مشخصاً، وإنما بالأحرى من أنها قد لا تتجسد، لكنه كان مع ذلك خوفاً عاماً من الطيفية ذاتها وفقا لدريدا، فإن ما ينبغي أن نخافه أكثر، وأن نحذر منه أكثر، هو دافع التعويذ ذاته - الحافر لتلبيس الروح باللحم، لجعل توقنا الخلاصي متعينا يتعين علينا أن نحب الشبح، أن نعانق الطيف - الذي يعنى أنه ينبغى علينا أن نفكر ونتصرف دائما ضمن الحيز الواقع بين الفكرة المُنظمة الشكلية على نحو مطلق وخاوية المضمون وتشخصها أو تمثلها في أي حضور كامل يتطلب المنطق الطيفي، إذا جاز القول، أن نقبل بأن الموقع الوحيد للفضيلة السياسية هو الفضيلة ذاتها.

لقد نجح جاك دريدا في إبراز نصوص ماركس هي الأخرى التي تفوح بالطيفية رغم ما تشيعه من مناهضة لهذا الأمر الذي يفصح عن وجود إشكالية في البناء التعبيري لتلك النصوص كان متواريا خلف أسيجتها البلاغية والمجازية و لكن هذه المسألة قد لا تقتصر على نصوص ماركس لأن أية بنية لا بد أن تكون قابلة للتفكيك وإلا هي ليست بنية وما دام الأمر كذلك فقد نكون أمام نقد لا نقد له، ونهج لابديل له في نقد النصوص.

و برصد ثلاثة مظاهر هي الأكثر إرتباطـاً في أطياف ماركس في هذا الصدد في المحل الأول، أنه يقدم تصريحاً محدداً عن الإنتساب السياسي.

و يوضح إبتعاده عن الذين احتفلوا بزوال الماركسية وعن كل هؤلاء الذين سوف يرددون صدى نبوءات فوكوياما الإنتصارية حول “ نهاية التاريخ “ إنه في غاية الإستعداد للإعتراف بأننا إذا قسنا “ إختلال “ زماننا بدرجة البؤس الإنساني التى تبدت بالفعل، أو وشيكه الحدوث، فإن زماننا منحرف حقا.

و غاية الوضوح في إتهاماته العشرة للرأسمالية الكوكبية، أنه يشارك في وجهة نظر ماركسية فضفاضة حول مصادر الإختلال.و أن النظام الرأسمالي يستند بدرجة أقل لأى إيمان شائع في قدرته على تأمين حياة طيبة، أو على تفادى الأزمات الكبرى لعصرنا، وإنما يستند إلى الشكية العميقة ، حول القابلية العملية لتطبيق أي بديل.

إن الفراغات الأنطولوجية يمكن أن تقدم نفسها كرهائن للحظ، مما خلق عدداً من هذه الفراغات الأنطولوجية، وانه يتوجه إلى المدى الذي انتهت فيه هذه الفراغات إلى أن تملأ بواسطة الاشتراكية الفعلية القائمة “ فقد لعبت دوراً في زوال الماركسية ذاتها مادام العالم سوف يتغير على أية حال، هناك أيضا مخاطر في أن نقصر أنفسنا بشكل غاية في الضيق على مهمة “ النقد النقدي “ على نقد دائم لإختلال كل الأزمنة، على الإخفاق الأبدى للفعلي في أن يرتقى لعقلانية لن تأتى أبدا.

يمقت دريدا سياسات” الحضور الكامل “ سواء اتخذت شكل إحتفال بنهاية التاريخ أو معرفة مطلقة عن كيف ينبغي أن ينتهي.

لقد وضعنا التفكيك أمام حقيقة مهمة، أن نصوص ماركس لم تكن بمنأى عن الوقوع في فخ الشبحية. رغم أنها بنيت على دحضها لأن الشبحية التي تمثل الاوهام الدينية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية راسخة في عقولنا، ويصعب التخلص منها دفعة واحدة، ولعل استعانة ماركس بمثال طيفي على سبيل المجاز لتسهيل عرض أفكاره ربما يؤكد الأسباب التي دفعت الذهن البشري إلى الاستعانة بالأطياف لتحقيق حاله الاستقرار العقلي ولعل ما أراده جاك دريدا هو عرض حالة التناقض التي وقع بها ماركس بين رفضه للطيفية أو نقده للذهن الذي ابتدعها، وبين استعانته بالمجاز الطيفي لشرح أطروحته فيقول:  (لدينا انطباع أنه ما دام النقد يبدو ملحا ومسهبا وهو في نفس الوقت متوقد وثقيل؛ فإن ماركس قد لا يستطيع أبدا مغادرة ضحيته فهو مرتبط بها بصورة مقلقة).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*جاك دريدا: فيلسوف وناقد أدب فرنسي(٧٤سنة)، ولد في الأبيار في الجزائر (١٩٣٠- ٢٠٠٤). هو أول من استخدم مفهوم التفكيك بمعناه الجديد في الفلسفة، من أجل فهم المكانة الحقيقية للإنسان في العالم.

**كاتبة سورية تقيم في الرياض.

عرض مقالات: