اخر الاخبار

بدءاً من صورة الغلاف والعتبة الأولى (الإهداء) والعنوان تحيلنا مجموعة (مرايا عمر سعدون) للشاعر عدنان الفضلي الصادرة عن (منشورات اتحاد الأدباء- بغداد، 2022) إلى مساحة نقية مؤطرة بالبياض وهي ترسم ملامح وسمات الشهادة من أجل الوطن وترصد سير الفادين والمضحين الذين عانقوا الموت بإيثار فوق الجسور، وفي ساحات التظاهر (التشريني) وتداعياته الممتدّة إلى ساحة الحبوبي وساحة التظاهر في الديوانية، وتحت المطعم التركي وتحت نصب الحرية وجدارية (فائق حسن).

هذه المجموعة الشعرية هي مدوّنة للإحتفاء بأبطال الكلمة والموقف، وفرسان الرفض وعشاق الوطن الذين يطالبون (نريد وطناً) ومقايضة لهذا الهتاف فأنّهم حملوا أرواحهم فوق كفوفهم وتقدموا واستبسلوا وهم يرعبون الموت وأصحاب القناصات وعسس السلطة، والقوى الظلامية الأخرى.

لكن مأثرة هذه المجموعة أنها لم تتمركز حول الهتاف والحماس والتعبوية العابرة، والصراخ الحماسي، بل سعى الشاعر عدنان الفضلي إلى زجّ النصوص في أداء يمزج الوجدانية بالتحليق على مستوى الفكرة، والتحليق على مستوى الصور الشعرية واكتظاظ النصوص بالاشارات والإحالات والتناصّات وهو يسبر غور السّير ، وخطوات الشهداء الذين لم يغيبوا، وإن غابت أجسادهم لكنّهم وشموا الأرض بأثر لن يُمحى، ولن تزول صورهم وتحدّيهم للرصاص وهم يضعون خوذة التوق والبسالة وتوّضحت النزعة الشعرية بأفقها الشفيف عبر المفردات المتّشحة بالعذوبة والغنائية العالية وإن كانت القصائد تتأطر بفن (البورتريت) ورسم ملامح الأبطال لكنّها لم تسقط في الشخصنة المجرّدة والعابرة بل كان بطل كل قصيدة متماهياً مع الفكرة والمكان والفضاء الشعري.

تضمنت النصوص اسماء الشهداء في انتفاضة تشرين [عمر سعدون، وصفاء السراي، وثائر الطيب، وعلي العصمي، وقدّوس، وحمزة كامل، وجمانة...]، وتضمنت المجموعة قصيدتين للإحتفاء بعارف الساعدي ويوسف الزبيدي، وبقدر ما كان الشاعر أميناً ووفيّاً لذكر اسماء الشهداء وسيرهم لكنّه لم يقع في النزعة (البورتيرية) السطحية والتوثيقية، فكانت النصوص فخاً جمالياً، وحقل إغراء يتوغل فيه المتلقي ولا يملك سوى أن يتماهى مع أجواء باذخة بالصور في نص (فتى الدخان – إلى الشهيد صفاء السراي):

مساحة قصيرة

تلك التي يهرول فيها الأولاد

فيما بين جسر الجمهورية وساحة التحرير

هناك بضعة أمتار من الدخان

وغيمة مسرعة من الرصاص

ذاكرة الفتى الراكض في تلك الأمتار

محصورة بين حدائق وحرائق

لا الصراخ ينقذه

ولا الإشارة يفهمها الأوباش

لذلك استدار الفتى عائداً إلى الجسر

وجوفه مليء بالبارود والدخان. (المجموعة: 7).

يبدأ النص بإشارة مكانية عبر وصف مشهدي والمساحة المتوترّة بين جسر الجمهورية وساحة التحرير، ثم يصف اجواء الاقتحام وفضاء الدخان، وتجسيد حركة الشهيد (صفاء السراي) والإستعارة الذكية “ذاكرة الفتى الراكض... في تلك الأمتار”. والجناس الجميل (بين حدائق وحرائق)... وهو يؤمئ ببسالة لم يفهمها الأوباش... فعاد ممتلئاً بالبارود والدخان، ويتجلى توظيف السرد في هذا النص الرشيق وهو يصف المكان والحدث والشخصية واتسّم باختزالية فائقة فالنص لم يسترسل في الإسهاب الوصفي بل اختار مساحة ورسمها وجسّدها بمفردات ارتكزت على الإيحاء، وكان المكان الفضاء المركزي وهو وإن كان مساحة جغرافية لكنّه اكتسب رمزية من خلال تحوله إلى مساحة مواجهة بين عشاق الوطن وعشاق العتمة البلهاء، فالشهداء كانت أصابعهم على القلوب والعقول وكانت أيدي الأوباش على زناد الهوس.

يستهّل الشاعر بالمشهد المكاني في قصيدة أخرى تناول فيها سيرة (قدوس) ذلك الشهيد الميساني الباسل:

كانوا في ساحة ميسانية

يرسمون العنادل وأشجاراً يجيدون وصفها

أوراقها اسماء تغيب قبل أن تصفّر

ولشدّة ولعهم بالغناء كانوا يحتسون

دموع أمّهاتهم...

فيما بعد..

كادت الدنيا توشك على البكاء... (المجموعة: 8).

وتتواتر تدعيات هذا النص الشفيف الحافل بالصور الشعرية المؤطرة بالعذوبة، فالرثاء عند الشاعر هو احتفاء بالجمال وليس مساحة للأسى والحزن فحسب، وتحفل القصيدة بصورة شعرية عميقة ودالة:

تقول أمي:

الهاوية رحبة جداً

هكذا وجدتُ المزابل

خذ مثلاً

كلّ من تلثّم واغتال قدّوساً

صار راكضا بين الهاوية والمزابل (المجموعة: 10).

تلك صورة مشهدية تصوّر تفاهة القتلة ومصيرهم الذي سيؤول إلى  النفايات، وشعرية الصورة تكمن في وصفهم وهم يركضون باتجاه الهاوية و(المزابل) واختار مفردة (المزابل) لتكون مفردة صادمة تليق بسيرة القتلة وقبحهم.

ويجترح الشاعر لوحات على شكل تقطيع كل مقطع يمثل مرآة يلتقط فيها صورة بالغة الدلالة على المستوى الواقعي والرمزي، وكانت (المرايا) أو المقاطع هي أقرب ما تكون إلى فن (الهايكو) باختزاليتها، وعمق دلالتها:

المرآة الأولى:

تعكس صورة سماء منافقة

تقف على الحياد منذ مطلع تشرين...

المرآة الثانية:

ترمّم صورة آخر اتكاء الشاعر

على كتف شهيد لوّح للحياة باستحياء...

المرآة الثالثة:

تكفكف دمعةً نزلت من عيون جواد سليم

واستقرت على رأس صفاء السراي المشبع بالدخان.

المرآة الرابعة:

تسحب خيوطاً من الفرات

تروق بها جروح الشهداء الغافين على جسر الزيتون

المرآة الخامسة:

تبثّ نشيجاً عراقياً جديداً

يؤكد أنّ الأحرار لا يموتون بالمصادفة...

المرآة السادسة:

تلمع في عمقها وثائق مسرّبة من الناصريّة

تفشي أسرار الخونة لجدِّنا العتيق جلجامش. (المجموعة: 11- 12).

نقلنا بإفاضةٍ هذا النصّ لأهميته والتوظيف الفني للمرآة بوصفها الكاميرا التي تجسّد الصور، وجعل منها الشاعر حيّزاً ضمن مساحة الصّراع والإحتدام، وكل مرآة مثّلت فكرة وزاوية نظر ومعنى وكانت عبارة عن مرايا متنوعة ولوحات متعددة لتجسيد وقائع التظاهر والبسالة التشرينية كل الأماكن التي شهدت هذه الصولات، ونجد تركيز الشاعر على ذكر الأمكنة مثل (الساحة الميسانية) و(جسر الزيتون) وهو جسر يقع في الناصرية وشهد معارك واحتدامات كبيرة بين النبلاء والأدعياء المارقين، وتتوالى المرايا حتى المرآة العاشرة والتي توشحّت بذكر اسم الشهيد (عمر سعدون):

المرآة العاشرة:

لن يزرعها عمر السعدون

ففيها بضعة أخطاء كتبها الشامتون

الذين غطّوا النعوش بأزهار خبيثة... (المجموعة: 13).

يرسم الشاعر حالة تناغم وتماه بين الشاعر والشهيد وهي إشارة ذكية إلى أنّ جموع المتصدين في حركة تشرين كانت تمثّل هوية الوعي، لأنّها كانت شرارة المثقفين الرافضين الذين تحوّلت قصائدهم وقصصهم، وثقافتهم إلى مشروع التضحية والاستبسال للمطالبة بوطن استباحته الأشباح والملفقون والمسلطون وباعة الوطن.

ونجد في المرآة الثالثة ثمّة صورة موحية ودالّة حيث يصف الشاعر دمعة نزلت من عيون (جواد سليم) واستقرّت على رأس الشهيد (صفاء السراي) وهي إشارة أو إحالة ذهنية شعرية إلى المضمون الثوري والإنساني الذي يمثلّه (نصب الحرية) وتمحوره حول فكرة الحرية، وبين صولة وشهادة السراي الذي طلب الحرية وأصبح رمزاً وايقونة تشرينية وكم كانت الدلالة بليغة في (الهايكو) المرآتي الخامس: “إنَّ الأحرار لا يموتون بالمصادفة” وقد برع الشاعر بثنائية الاستهلال، ووضع اللمسة الأخيرة في النص.

يصوّر نص (بحارة السفن الثائرة) المشهد المحتدم في التضاد بين الجمال والقبح، وهم يتوارثون الصولة والاقتحام من الرمز السومري (إنكيدو)، وهي إشارة إلى أن هذا الحراك لم يولد من فراغ بل إنَّه يستند إلى إرث ثوري حضاري حزين عميق الجذور عرفت به أرض الثورات:

ليس بوسعهم شيء

ليسوا بانتظار شخص أو جماعة

همّهم متوارث من حزن إنكيدو

وحتّى نحيب أمهات الذين توارت قمصانهم

عند جسر الزيتون... (المجموعة: 14).

ونجد في نص (يوسف الزبيدي) اشتغالاً شعرياً فيه كثير من الإحالات والإشارات والصور مع النص الديني واستثمار مدياته وانفتاح النص الشعري على المعنى الإشاري، وتعميق القيم الرفيعة، وخرج النص من المدلول الشخصاني باتجاه التحليق بالفكرة السامية:

يوسف وبرفقة حمامتين

كان كل يوم تشريني

يجهّز لجواد سليم

وجبة غداء ووجبة غناء

حمامته الأولى تغذّي

والثانية تغني لـ(الوطن والناس)

يوسف الذي تحدّى الذئاب

لم يقدّ قميص عراقيته

لم يسمح لآبار الخضراء أن تبتلعه

لم يستطع أخوته الغدر بذائقته

لذلك...

لم يعرض عن هذا الوجع

ولا ذاك النشيج السومري (المجموعة: 18- 19).

ويتجلّى التكرار الشفيف والرمزي لجواد سليم بوصفه إيقونة الحرية بالنصب الذي استبسل أمامه الشجعان الذين عبروا إلى الجمال إلى جنّات الشهادة، عبر الساحات والجسور، ونجد التكرار لمفردة (سومري) وهي إشارة لتجذير الفعل بالإرث الإنساني و(الميثولوجي) الدال على التدّفق والسعي إلى العمل النبيل والشجاعة النقيّة.

معظم النصوص يتمظهر فيها اهتمام برسم مشهدية بانورامية تمسح المكان والمناخ وترصد حركة الشخصيّات وتنسج الفكرة المتعالية، ويمثل المكان البؤرة المحركة، ويحمل دلالة رمزية كونه المنطلق نحو التحدّي والتصدّي للشخصيات التي لا تحمل سوى الفكرة والحلم باتجاه الرصاص والبنادق، في نص (ميسي التحرير) يقول:

الجمهور المتواجد

على مدرجات جبل أُحد

كان منشغلاً برصد الغيوم البيضاء

المتناثرة في محيط الثورة

المسعفون...

يرّكزون على توفير علب (الكولا)

وخلط الخميرة بالماء

العسس المسالمون...

يذرفون دموعاً ساذجة

الموسيقيون...

يمزجون المفردة الجنوبيّة بـ(الراب)

حتى لا تكفُّ الجموع عن الرقص

الشذراويات...

يغزلن خيوط السمك

على طريقة (النّواب)

ليطمعن المثابرين على العراق (المجموعة: 42- 43).

تتجسد في هذا النص لوحة مكتظّة بالحركة والوصف المشهدي، وإشارات موحية وتجسيد للفكرة المركزيّة التي تصف الثائرين وخصالهم والمتخاذلين ممن يمسكون البنادق للدفاع عن هلعهم وهناك إشارة ذكية واستعارة لـ(جبل أُحد) وهو كناية اطلقت على المطعم التركي الذي شهد كثيراً من وقائع التظاهر والإحتدام، فالمكان – كما اسلفنا – يحتل البؤرة المركزية في النص ليؤسس فضاء يكشف عن بسالة الشخصيّات الفادية التي تمنح المكان مجداً باذخاً.

مجموعة (مرايا عمر سعدون) حرث شعري عذب في صنع نصوص احتفائية وليست رثائية، إنَّه جهد ابداعي يستحق الإستشراف والإحتفاء لما أنطوى عليه من جماليات الشكل، وعمق المحتوى الإنساني والوطني.

عرض مقالات: